مجلة الرسالة/العدد 241/التاريخ في سير أبطاله

مجلة الرسالة/العدد 241/التاريخ في سير أبطاله

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 02 - 1938



ابراهام لنكولن

هدية الأحراج إلى عالم المدنية

للأستاذ محمود الخفيف

- 1 -

يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من

سيرة هذا العصامي العظيم

ما أحوج بني الإنسان كلما قطعوا شوطاً في طريق هذه الحياة، أن يديروا وجوههم لحظة عن الأفق الذي يستقبلون، وأن يرجعوا إلى ما استدبروا من آفاق متطلعين إلى تلك النجوم الزواهر التي تلتمع على جوانبها، والتي ستبقى هناك ساطعة باهرة ما دار الفلك وما تصرمت السنون

أجل، وما أحوج الإنسانية أن تهتدي في سبيلها بهدى الذين رسموا لها ذلك السبيل؛ وما أحرى قافلتها كلما آدها العبء، أو أعياها السير، أو اعترضتها العقبات، أن تستأنس بقبس من تاريخ أولئك البواسل الأبرار الذين تتألف من سيرهم مجتمعة سيرة البشرية في هذا الوجود

وهانحن أولاء نتجه بعقولنا وقلوبنا إلى سيرة الزعيم (لنكولن) رئيس الولايات المتحدة، أحد أبناء الإنسانية الغر الميامين وأحد أفذاذها البواسل. ولا لوم علينا معشر الشرقيين إذا تخطينا مشرق الأرض إلى مغربها، بل إذا تخطينا الدنيا القديمة إلى الدنيا الجديدة، متخذين قبسنا في هذا الحديث من وراء المحيط. لا لوم علينا في ذلك، فأبناء الإنسانية العظماء متى اجتازوا باب الخلود صاروا للعالم كله، ولا اعتبار في ذلك لشرق ولا لغرب

وما هذه الدنيا الجديدة التي أخرجت بطل حديثنا وما فصلها في تاريخ الوجود؟ برزت الولايات المتحدة كدولة من دول العالم على حين غرة، فكان بروزها السياسي شبيهاً بما يزعمه الجغرافيون عن وجودها المادي، إذ يقولون إن أمريكا، أو الدنيا الجديدة قد برز من تحت الماء في حركة من حركات هذا الكوكب! وما كان بروزها السياسي في الحق إلا حركة من حركات الشعوب في هذا المضطرب الواسع الذي نسميه العالم؛ حركة لم تكن متوقعة من قبل، ولم يكن يظن أحد يوم بدأت أنها واصلة إلى ما وصلت إليه!

سمع الناس في أوربا قبل أن تنبعث الرجفة الكبرى من فرسنا بسنوات قليلة عن أنباء عجيبة تأتيهم من وراء المحيط. سمعوا عن الحرية يرف جناحاها الجميلان ويتهلل وجهها الأبلج في تلك الربوع الفسيحة التي وجه كولمبس أنظار العالم القديم إليها قبل ذلك بنحو ثلاثة قرون؛ وسمعوا عن أختها الديمقراطية ترفع علمها وتشهر سلاح الإيمان واليقين، سلاح (جان دارك) الخالد في وجه الطغيان المربد العبوس؛ سمعوا عن مراكب من الشاي تقذف حمولتها في البحر وتأكلها النيران، وسمعوا عن جموع ثائرة تلتقي هاتفة صاخبة، وعن جنود تحشد خفافا وثقالاً، ثم ما لبثوا أن علموا أن الناس روعوا هنالك وزلزلوا زلزالاً شديداً

وجاءت الأنباء تترى بعد ذلك عن حرب طاحنة، تسمع في ضجيجها صيحات الاستقلال وحقوق الإنسان حتى ترامت إليهم الأخبار عن انتصار يتلو انتصاراً تحت راية (واشنجطون). وأخيراً علموا أن إنجلترا سلمت مغلوبة على أمرها واعترفت في عام 1783م بمولد دولة جديدة انتزعت منها انتزاعاً؛ ورأى العالم في ذلك دليلاً جديداً على أن الإيمان يفعل أكثر مما يفعل الحديد والنار!

ولدت دولة جديدة كانت قبل ذلك ولايات متنافرة متباغضة ولكنها وجدت نفسها بعد مولدها مملقة فراضت أحرارها على خشونة العيش، وما كان هؤلاء الأحرار بعد استقلالهم ليشتروا به ثمناً قليلاً وهم سلائل أولئك الذين هاجروا من قبل في سبيل الحرية إلى هاتيك الأصقاع من موطنهم الأصلي في إنجلترا. لذلك تحملوا الفاقة وأخذوا يكدحون كدحاً شديداً، وتولت قبائل منهم حين ضاقت بهم المدن أصقاعا من الأرض البكر تنمو فيها الألفاف والأحراج من وحشي النبات، يشقونها ويفلحونها، ويعيشون فيها عيشة أولية كأنما عادت الإنسانية في أشخاصهم تبدأ حياتها من جديد!

وكان هؤلاء في أصقاعهم هذه منعزلين عن عالم المدنية الانعزال كله، يقيمون الأكواخ من كتل الخشب في جوانب الغابات، ويعيشون على الصيد وعلى قليل من الزرع، ويفعلون ما كان يفعل آباء الإنسانية الأولون، يتعرضون لعشرة الطبيعة ولا يأمنون شرة الوحوش ولا هجوم القبائل الأصلية من (الهنود الحمر) ويتناثرون هنا وهناك في مساحات هائلة يمشون في مناكبها جماعات ضئيلة العدد حتى ليخيفهم الفضاء وحده ولو لم يكن فيه شيء من عوامل الخوف

في هذه البيئة الساذجة وفي كوخ حقير من الخشب يقوم وسط فضاء الطبيعة الرهيب الرحيب، فتح إبراهام لنكولن عينيه على هذا الوجود في اليوم الثاني عشر من شهر فبراير عام سنة 1809م!

خرج الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة، بل خرج إبراهام لنكولن أحد القلائل الأفذاذ الذين تفخر البشرية بانتمائهم إليها من هذه البيئة ودرج من ذلك الكوخ. وما كان ذلك ليعيبه، بل إنه لمن دواعي الفخار إن قدر لمثل هذا العظيم أن يزهي أو يفتخر. وهو لعمري مدين بجانب كبير من عظمة نفسه وسمو روحه إلى تلك البيئة التي خرج منها؛ ذلك أنه نجا على نقاء عنصره وصفاء روحه من زخرف الحياة وغرورها، ومن مفاسد المدينة وأوضارها، ومن أوهام المجتمعات وكواذب أحلامها، فخلص له معدنه الحر وبقي نقياً لم تعلق به الأوشاب؛ وصار في جميع أفعاله تتكشف جوانب نفسه عن طبيعة صادقة كأنما تتحرك عن إلهام أو تعمل بوحي! وتمثلت فيه البشرية في سذاجتها وكمالها وفي ضعفها وقوتها وفي إسفافها وعلوها؛ وصار الناس يلمحون في سجاياه براءة الطفل وتوقد عاطفته إلى جانب نزعات الفيلسوف ورجاحة عقله! وكم للفقر من يد على العظماء! وكم أخرجت مثل تلك البيئة الطليقة الخالصة من رجال أماثل ومصابيح أعلام قادوا القافلة واستقاموا على الطريقة، أو على الأصح استقامت بهم الطريقة ووضحت المحجة!

ذلك هو لنكولن الناشئ في الشوك من أيامه، وتلك هي صفاته في جملتها كما ستتضح لك فيما سيأتي من حديثه. وكأنك تقرأ سجاياه في أسارير وجهه؛ وتحس فيها ما تعوده في حياته من البأساء والضراء. فإذا نظرت إلى صورته رأيت شبح حياته الأولى في رأسه الأشعث، ولمحت زكانة نفسه في جبهته العريضة العالية المجعدة، وأحسست طيب قلبه وصفاء طويته ورقة عاطفته ونفاذ بصيرته في عينيه الوديعتين المتسائلتين، وتبينت صرامته ومضاء عزيمته في أنفه الغليظ الأشم. ثم أبصرت قوة صبره وشدة تحمله وروعة استسلامه تختلج كلها على شفتيه المضمومتين المعبرتين عن مض الحوادث، وطالعتك من هاتيك الملامح في جملتها سذاجة الأطفال وهيبة الرجال؛ ثم تهلل من وراء ذلك كله سر العبقرية الذي يدق عن كل وصف ويسمو على كل تحليل!

فتح الوليد عينيه على الوجود في لوح أقيم من الكتل الخشبية في مقاطعة كنتوكي بعد استقلال الولايات بنحو ستة وعشرين عاماً، فنما كما ينمو وحشي النبات في ذلك الإقليم! نما على ما تجود به الحيوانات من ألبانها، وتدثر بجلودها، ثم تغذى ثمار الشجر واضطجع في مهد من أوراقها الجافة كأنه فرخ من أفراخ الطير. ولما بدأ يدر الأشياء وجد عالمه في ذلك الكوخ الذي لم يكن يزيد اتساعه على أربعة أمتار في مثلها والذي لم يكن فيه من الأثاث إلا وحشية وغليظة، من جلود مجففة إلى آنية جافة شوهاء إلى قطع غليظة من الخشب سوتها فأس أبيه التي كان يراها بين آونة وأخرى معلقة على الحائط بجانب أداة أخرى كانت تبدو غريبة في عينه الغريرة، تلك هي بندقية أبيه التي كان يحملها على كتفه كلما سار نحو الغابة، فهي لذلك تختفي في النهار وترى بالليل على حائط الكوخ

وكانت الغابة أو كان الجزء المحيط منها بالكوخ هو نهاية ما يصل خيال من هذا الوجود. حسبه الآن من الوجود أن يلعب ويمرح في هذا المضطرب وإن لم يكن له فيه من رفقة سوى أخته التي تكبره بعام؛ وأن يستمع إلى ما ترويه له أمه من أقاصيص وأنباء يلتهما التهاماً وأن يصغي إلى ما تجيب به عن أسئلته الكثيرة

على أنه كان ينظر إلى الغابة نظرة الرهبة والدهشة معاً؛ وكان يعجب كلما رأى أباه مقبلاً من بين الأشجار، بندقيته على كتفه ومعوله في منطقته، وفي يده طائر أو حيوان يدفعه إلى أمه إذا وصل إلى الكوخ فتأخذه في فرحة ظاهرة وتهيئ الطعام للأب وللأسرة جميعاً

في هذه السن الباكرة يرى الغلام الحياة من قرب رؤية مباشرة، فهو يعيش كما كان يطلب (روسو) في أحضان الطبيعة حيث يرهف حسه ويقوي وجدانه ويعمق خياله وتنبسط نواحي نفسه الصغيرة وتستشف ما في هذا الكون العجيب من سحر وجمال وتستشعر ما فيه من سر ورهبة

أليس يرى من كثب كيف تطعم الأسرة وكيف تكتسي؟ أليس يرى التعاون بين الوالدين وما ينتج من راحة واطمئنان؟ أليس يرى الكدح في سبيل العيش؟ وحسبه في سنة أن يرى ذلك وأن يلمسه

على أن مجال الحياة يتسع أمامه بعد أن تخطى سنته الخامسة إذا انتقلت الأسرة فأقامت كوخاً جديداً على طريق مطروقة كانت تؤدي إلى إحدى المدن القريبة. وهناك يرى الغلام أنماطاً من الناس غادين رائحين ويرى دواب وعربات وأشكالاً من الملابس تختلف اختلافاً كبيراً عما اعتاد رؤيته على جسد أبيه، فيتأمل ويعجب بينه وبين نفسه

وفي السابعة من عمره يصحب الغلام أباه إلى الغابة، هنالك حيث بدأ يقوم بنصيبه من العمل، فيساعد ذلك الأب الذي يقطع الأخشاب ويصنع الأثاث ويبيعه، ويكسب من وراء ذلك نقوداً تحتاج إليها الأسرة، وإنه لفخور الآن بمساعدة أبيه، لا يحفل بتعب في تلك المساعدة التي يباهي بها أخته، وإن كانت هي أيضاً تقوم بنصيبها في مساعدة أمها؛ ولكن هل كانت (سارا) تستطيع أن تسوي الخشب وتجره وترتبه؟ هل كانت تستطيع أن تحمل الصيد إلى الكوخ كما كان يفعل (أيب) الصغير؟

كان لا ينقطع عن العمل إلا في أيام الآحاد، إذ يجلس وأمه وأخته وأباه أمام الكوخ فيستمع في شغف ولذة لما تلقي أمه من أقاصيص وما تتلو من حكايات مشتقة من الإنجيل. ولقد أحدثت تلك الحكايات في نفس الغلام أثراً عميقاً وظلت مسحتها الدينية تلازمه بعد ذلك في جميع أطوار حياته

وجاء بعض ذوي قرباه فأقاموا إلى جوارهم وأقبل الغلام على خاله وخالته يستزيدهما الأنباء والأقاصيص، وكم كان معجباً بتلك الخالة التي تكتب وتقرأ وتحبذ أن يتعلم الغلام القراءة والكتابة على الرغم من إعراض أبيه عن ذلك وعدم اهتمامه به

وبدا للغلام يوماً فسأل عن أسرته، وأين نشأت، وممن انحدرت؟ فسمع ردوداً مبهمة لم ترو ظمأ نفسه، وماذا كان يتوقع الغلام؟ أكان يحسب نفسه سليل سادة أكابر؟ ولكن ما كان أبعد فكره عن هذا؟ وهل رأى غير بيئته وأسرته؟

ولئن سمع غيره من الأطفال من آبائهم عما كان عليه جدودهم من عظمة وما تقلبوا فيه من نعيم الحياة ورفيع المناصب، لما كان لمثله أن يسمع شيئاً من هذا. وأنى له ذلك وهو ابن الأحراج والأدغال!؟. وغاية ما سمعه عن جده ما حدثه به أبوه ذات مرة، أنه بينما كان يساعد أباه - جد (أيب) - في الغاب ومعه أخواه إذ انطلقت رصاصة من بين الأدغال فأصابت ذلك الأب فخر صريعاً، وجرى الأخوان نحو الكوخ، وبرز من بين الأشجار أحد الهنود الحمر وحمله يريد أن يأخذه إلى داخل الغابة بعد موت أبيه، لولا أن صوب أكبر الأخوين بندقيته التي أحضرها من الكوخ مسرعاً، إلى رأس ذلك الهندي فأرداه قتيلاً

فسمع الطفل ذلك الحديث وقد علقت أنفاسه ودق قلبه إذ رأى مبلغ ما أحدق بأبيه من الخطر، ورأى أنه أشرف على الموت لولا بسالة عمه لذهب كما ذهب جده، وهاله موت جده على تلك الصورة، وكان ذلك كل ما عرفه عن ذلك الجد، أو قل كان هذا هو نصيب جده من العظمة ومن جاه الحياة! ولكن متى كان الإنسان بجدوده وآبائه؟ وأي فضل لامرئ يرث الجاه ولا يكسبه ويُعْطى العظمة ولا يبنيها؟

تلك هي حياة (أيب) وذلك هو محيطه وهو في السابعة. أجل هي تلك حياة رئيس الولايات المتحدة في أولى مراحلها في أحراج مقاطعة كنتوكي حيث لا مدنية ولا تعليم ولا رفاهة! كلا، بل لقد ذهب الغلام إلى المدرسة في خاتمة تلك المرحلة؛ ولكن أية مدرسة هي؟ كانت كوخاً من كتل الخشب أقيم كما أقيم كوخه الذي يعيش فيه، وكانت تبعد عنه نحو أربعة أميال، وكان يذهب إليها كلما استطاع أن يطلقه أبوه من أعمال النجارة في الغابة فيجلس ساعات مع الصبية على الأرض إلى معلم يعلمهم الهجاء بأن يناولهم كتاباً واحداً يمر عليهم جميعاً الواحد بعد الآخر فيتعلمون الحروف ورسمها ونطقها! ويسأل الصبي نفسه في لهفة شديد متى يستطيع أن يكتب ويقرأ كما تفعل خالته وأمه؟ وإن ذلك غاية مبتغاه ومنتهى هواه

(يتبع)

الخفيف