مجلة الرسالة/العدد 241/القصص

مجلة الرسالة/العدد 241/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 02 - 1938



الوحدة والجريمة

للكاتب الإنكليزي القدير لورد لبتون

للأستاذ أبو جاويد أكمل

ولدت إنجليزياً ولكني قضيت الأيام الأولى من عمري في بلدة نائية أجنبية، وليس لي اخوة ولا أخوات، وقد توفيت والدتي وأنا في المهد فوجدت في والدي الرفيق والمعلم والصديق، وقد كان هذا الوالد الأخ الأصغر لأسرة شريفة وبيت عريق. أما ما حدا به إلى ترك بلدته وأصدقائه وتجنب المجتمعات والإقامة ببلدة كالصخرة فقصة قائمة بذاتها لا دخل لها بقصتي هذه

قلت أن والدي أقام ببلدة كالصخرة لأن بلدتنا لم تكن في الواقع إلا كذلك: قفار حالكة عرضة للسافيات، وأشجار عجزت عن النمو، وعشب جاف، وتجاويف لم تهتد إليها النجوم ولم يعرف ضوء الشمس مكانها إلا من بعض فجوات بالصخور التي تعلوها، تجتازها مياه قاتمة مغبرة ترغى وتزبد أثناء سيرها في طريقها الصخري. هضاب غطتها الثلوج المتراكمة تأوي إليها الطيور الجارحة وينبعث منها صوتها المرعب المخيف إلى عنان السماء التي أبت أن تتدثر بالسحب على ما بها من شحوب وخوف وهرم. كل هذا ينم على حال تلك البلدة التي سلخت بها الأيام الأولى من حياتي. أما مناخها فلم يغير من المناظر التي تحيط بمنزلي إلا قليلاً وإن كان في بعض الأحياء الأخرى يحل صيفها المفاجئ الذي لا يعقبه خريف بشهوره الثلاثة لطول شتائها؛ وربما في فترات قصيرة الأمد يذوب الثلج في الأودية وتفيض المياه ويظهر نبات أصفر غريب يفتر ثغره عن بسمات خبيثة موجهة لبعض أجزاء من هذه الصخرة العالية لأمثال هذه المناظر التافهة من تقلبات الفصول. قضيت أيام حياتي عاماً فعاماً. وكان والدي مغرماً بالعلوم الطبيعية ومشاركاً في باقي العلوم فدرس لي كل ما عنده. وكان للطبيعة الفضل في سد النقص بما أوحت إلى قلبي من دروس عميقة صامتة وهي تكشر عن نابها وتعبس. علمت قدمي الركل وذراعي اللكم ونفثت في رغباتي روح الحياة وألهمت طباعي الجد لا الهزل. علمتني كيف أعانقها وإن كان قوامها معوجاً وشكلها غير مغر. أفر من سواها وأهرب من مصادقة رجل وأنثني من ابتسامة أنثى. أهرب من بكاء الطفولة وأخشى من التقيد والآمال وملذات الوجود كما أخشى من اللعنة والعذاب؛ ومع ذلك كانت لي في هذه الصخرة العابسة وتحت هذه السماء الشاحبة متعات لا يهتدي إلى كنهها أهل الحضر الذين يجدون لذتهم في أريج العطر وعبيق الورد، فما هذه المتعات؟ إن لها من المتنوعات والأشكال المختلفة عشرات الألوف كما لها من أفياء السرور، ولكن ليس لها من الأسماء المتداولة إلا أسم واحد، فما هي هذه المتعات؟ هي (الوحدة)

مات والدي وأنا في الثامنة عشرة فانتقلت إلى كنف عمي وأزمعت الرحيل إلى لندن فوصلتها نحيفاً عبوساً مفتول الساعد قوي البنية؛ بيد أني في نظر من حولي كنت وحشاً في هيئتي وطباعي. كان لهم أن يضحكوا مني، ولكني أرهبتهم بصورتي؛ وكان لهم أن يغيروا من طبعي، ولكني أثرت فيهم وألقيت على بهجتهم رهبة فكانوا وجلين مني وإن لم أتكلم إلا نادراً ولم أجالسهم إلا مجلس الغريب الصامت المنقاد. ما من أحد منهم يستطيع معاشرتي ويكون مسروراً أو مرتاحاً. هذا ما شعرت به وقد أبغضهم إذ لم يمنحوني حبهم

مضت ثلاث سنين بلغت فيها سن الرشد، فطالبت بثروتي واحتقرت الحياة الاجتماعية، وذبت شوقاً مرة أخرى إلى الوحدة، فصممت على الرحيل إلى الأراضي النائية الخالية من السكان، تلك الأراضي التي لم يرجع منها زائر يتحدث عنها ممن طوحت بهم الأقدار في أحضانها التي لم يرجع منها زائر يتحدث عنها ممن طوحت بهم الأقدار في أحضانها

استأذنت عمي وزوجه وأولاده وبدأت الحج فاجتزت الرمال المحرقة، وقطعت الفيافي الشاسعة، حتى وصلت إلى غابات أفريقيا الكثيفة التي لم تطأها قدم، ولم يشوش صوت إنسان هذا الجلال المهيب الذي يخيم على وحدتها كما كان يخيم قبل الوجود على العوالم المضطربة. هناك حيث تنمو الفطرة الأزلية وتذبل بغير إزعاج أو تغيير يطرأ عليها من اضطراب ما يحيط بها من العوالم. هناك حيث تنبت البذور أشجاراً تعيش أعماراً لا تحصى ولا تعد، ثم تتساقط أوراقها ويسطو عليها البلى ويعتريها الفساد ويدركها الفناء. هناك حيث يخطو الزمن المتثاقل لم يشهد تقلباته الهائلة الصامتة إلا أسد شارد، أو أفعوان جسيم، يكبر مائة مرة تلك البوا التي يباهي السائحون برؤيتها. هناك تحت الظلال الوارفة التي آوى إليها وقت القيلولة كنت أسمع وقع أقدام كالجند وأصغي إلى وسوسة الأشجار الباسقة وهي تدك وتنهدم، وأرى من خلال فروع الأشجار الملتفة البهموث عابراً سبيله الوعر وعيناه تتقدان كالجمر وأنيابه البيضاء في فكه الشرس جاثمة براقة كأعمدة من الصوام تشع في غار. ذلك هوا الوحش الذي جعلت له دون غيره هذه الفدافد موطناً؛ ذلك هو الوحش الذي لم يتبدل من يوم أن عرفت المياه سبيلها في الكون؛ ذلك هو الوحش الذي لم تبصره عين آدمي غيري

تسللت فصول الأعوام لم أحصها عداً، إذ لا أنيس يخببها إليَّ، ولا أثر يترسم من أعمال أبن آدم القذرة يبغضني فيها. أقول كرت الفصول ونضج شبابي حتى بلغت الرجولة وجلل الشيب مفرقي بالثغام، ولم ألبث أن استولى عليَّ ميل دفين لا يقر على حال وناجيت قلبي المذنب أن لابد من نظرة أو عودة إلى عشيرتي

قفلت أطوي الفدافد إلى أن بلغت المدائن فتدثرت بلباس أهلها إذا لم أكن في البيداء إلا عاري الجسد، ولما بلغت الثغر أقلتني سفينة إلى إنجلترا كان فيها رجل هو وحده الذي لم يتجنب صداقتي ولم يخش غضبي، يستولي عليه النزق، ويملأه الغرور، ويتيه عجباً كما يختال عادة هؤلاء الذين استوطنوا المدائن، واتخذوا الكلام غذاء عقولهم. وكان طفيليًّا سخيفاً ونسيجاً قذراً من آراء سافلة، وكان الرعب الشائن هو الخصلة الفريدة التي لم تفارقها نفسه، فمحال أن ترهبه أو تسكته أو تهزمه؛ يتعقبني دائماً ويلازمني كظلي ليس لقوة أن تنزعه مني، وكلما بصرت به شعرت بدوار، وكان هؤلاء الطغام المحتقرين الذين ترتعد الفرائض لرؤيتهم

كنت أقاطعه مراراً كلما خاطبني. ولكم هممت أن أقبض عليه وأقذف به إلى البحر للحيتان التي كانت تسبح ليل نهار حول السفينة بعيون براقة وأنياب تواقة، إلا أن نظرات الجميع كانت متجهة إلينا فكبحت جماح نفسي وعدلت عن ذلك مغمضاً عيني على مضض؛ وكلما فتحتهما ثانية وجدته بجانبي وصوته الأجش يرن في أذني الكارهة سماعه

في ذات ليلة تنبهت من نومي على صياح الرجال وهم يقسمون فأسرعت إلى سطح السفين وكنا قد ارتطمنا بصخرة فما أروعه منظراً! إنه كان هائلاً. فضوء القمر هادئ والبحر على فيروزته نائم. في وسط هذا السكون الصامت الناعم الذي شمل كل شيء انمحى أثر ثلاثمائة وخمسين نسمة من الوجود. لزمت عزلتي لم أساعد أحداً من المغرقين بل ظللت أنظر، وإذا بصوت كصوت أفعى ينساب إلى أذني فالتفت ورأيت مزعجي وقد انعكس ضوء القمر على وجهه وهو يتمتم كالسكارى وعينه الذابلة الزرقاء تحملق وهو يقول: لا نفترق حتى في هذا المكان

جرى الدم حاراً في عروقي وعزمت على أن أرميه في البحر الذي كان يغمرنا سريعاً، ولكن خيل إليّ أن القمر يرمقني كما ترمقني عين السماء ولم أتجاسر على أن أقتله. ولما كنت لا أستطيع البقاء كي أموت مع المغرقين قذفت بنفسي نحو صخرة وقد طاردني حوت فأرهبته، وبعد برهة وجيزة كان لديه القدر الكافي لإشباع نهمه سمعت دوياً فصيحات يأس ممتزجة مزعجة، بأس ثلاثمائة وخمسين قلباً سكنت في لحظة. قلت في نفسي وقد داخلني سرور عميق إن صوته لا محالة بين أصواتهم وقد افترقنا. وما وصلت الشاطئ حتى اضطجعت للنوم

وفي صباح اليوم الثاني انفتحت عيناي على أرض أجمل من أحلام الشباب وقد ابتسمت الشمس وأشرقت على أنهار فضية، ومالت الأشجار بثمار أرجوانية عسجدية، وتلألأ كالماس الندي في أرض تحلت بأزهار ذات أريج عبق ممتع، وقد حلقت عشرات الألوف من الطير بأجنحة براقة امتزجت ألوان قزح بها وطارت من على النبات والأشجار وملأت الجو تغريداً من سرورها. البحر يزأر تحت قدمي لا أثر في جبينه اللامع لتأكل سالف؛ أما السماء فكانت تدفئ عروقي بأشعتها الذهبية التي لم تعترضها سحب. استيقظت نشيطاً مرحاً وجست خلال هذا المكان الجديد الذي اهتديت إليه فتسلقت تلاً ووجدت أنني في جزيرة صغيرة لا أثر لرجل فيها، فارتاح قلبي وصحت طرباً لما رأيت أني سأكون وحيداً مرة أخرى، ولكني لم أكد أنحدر من التل وأصل إلى نهايته حتى لمحت رجلاً يقترب مني. نظرت إليه فارتاب، قلبي ثم دنا مني فإذا بالغيض المضطهد يقف أمامي بعد أن نجا من الغرق! لقد عاد بتمتمته وعينه البراقة، وما لبث أن طوقني بذراعيه فشعرت بأن أفعى تحتضنني وقال بصوت أجس خشن: مرحى مرحى! سنبقى معاً أيها الصديق

فنظرت إليه وأنا مقطب الجبين لم أتلفظ بكلمة، وكان بجانب الشاطئ غار كبير فقصيدته ودخلت فيه وهو يتبعني قائلاً: سنعيش في هناء هنا لا نفترق إلى الأبد. فارتعشت شفتي وانقبضت يدي.

قد انتصف اليوم وغلبني الجوع فخرجت واصطدت غزالاً وشويت جزءاً منه على نار من أخشاب عطرية فأخذ الرجل يأكل ويزدرد ويقهقه، وتمنيت لو غص بالعظام. ولما انتهى قال ليس لدينا هنا إلا النذر اليسير من الأنشراح، بيد أني لم أزل محافظاً على صمتي، وأخيراً تمدد في ركن من الغار ونام، فنظرت إليه ورأيت نومه عميقاً ثم خرجت ودحرجت حجراً كبيراً عند باب الغار واتخذت سبيلي إلى الجزء المقابل من الجزيرة. وجاء دوري في الضحك ووجدت غازاً آخر وهيأت فراشاً من العشب والأوراق، ومن الأخشاب صنعت منضدة، وتطلعت من فوهة الغار فرأيت البحار العريضة أمامي وقلت الآن سأكون منفرداً. ولما أقبل اليوم الثاني خرجت مرة أخرى واصطدت جدياً وعدت به وجهزته كما سبق. ولما كنت غير جائع لم أستطع تناول الطعام وهمت على وجهي في أنحاء الجزيرة، وعند عودتي كانت الشمس قد غربت فدخلت الغار، فجلست على فراشي؛ ولكن بجوار منضدتي كان الرجل الذي ظننت أني دفنته حياً بالغار الأول. وما إن وقع نظره عليّ حتى ضحك وألقى بالعظمة التي كان ينهشها وقال: آه لقد عولت على أن تعلمني خدعة نادرة، ولكن بالغار نفقاً لم تفطن إليه وقد خرجت منه للبحث عنك، وهذه مسألة هينة، لأن الجزيرة صغيرة، أما وقد تقابلنا فلا فراق بعد

فقلت: قم واتبعني. ففعل، وما ترك من الطعام كان قذى في عيني لأنه مد إليه يده، وأخيراً فكرت أأزرع ليحصد هذا المخلوق؛ وشعرت بقلبي وقد تحجر

صعدت إلى صخرة عالية وقلت: أنظر حولك وتطلع إلى هذا الجدول الذي يشطر الجزيرة فستقيم في شطر وأقيم في الآخر. ومن المحال أن تجمعنا بقعة واحدة أو يضمنا خوان، فقال: لا يتأتى ذلك إذ ليس في مقدوري أن أصطاد الغزلان أو أقتنص الجديان. وإذا لم تتعهدني بالغذاء فسأموت جوعاً. قلت: ألا توجد فاكهة وطيور تستطيع اقتناصها، وسمك يقذف به البحر؟ فقهقه وقال: لا أهواها كما أحب لحم الجديان والغزلان. فقلت: أفهم الآن وأنظر إلى هذا الحجر الداكن من الشاطئ الثاني لهذا الجدول. سأترك لك كل يوم عنده جدياً أو غزالاً حتى تنال من الطعام ما تشتهي، ولكن إذا اجتزت هذا الجدول ودخلت في ملكي فمن المؤكد أني سأذبحك. نزلت من الصخرة وأرشدت الرجل إلى شاطئ الجدول، فقال: لا أعرف السباحة، فحملته على كتفي واجتزت الجدول ووجدت له غاراً وهيأت له فراشاً ومنضدة كما صنعت لنفسي، ثم تركته، ولما حاذيت شاطئ الجدول ثانية كدت أطير من الفرح ورفعت صوتي قائلاً: سأكون الآن وحيداً

مر يومان وأنا منفرد، وفي الثالث خرجت للقنص وكان وقت القيلولة وأعياني التعب حينما عدت؛ وإذ دخلت مغارتي وجدت الرجل منطرحاً على فراشي وقال: ها، ها. أنا هنا لقد سئمت الوحدة في منزلي وجئت لأعيش معك ثانية. فعبست وقطبت ما بين حاجبي وقلت: من المؤكد أني ذابحك. وجذبته من فراشي بذراعي وأخذته في الهواء الطلق ووقفنا سوياً على الرمال قريباً من البحر العظيم. استولى عليّ الخوف وداخلني ذعر من السكون الشامل الذي يخيم على الوحدة مع أني لا أبالي بالناس لو أحاطوا بنا آلافاً لذبحته أمام أعينهم. وما راعني إلا أننا وحيدان في الصحراء لا ثالث معنا إلا الله. أرخيت عنان قبضتي، وقلت له: أقسم لي بأنك لا تضايقني بعد، وأنك تحافظ على حدود منازلنا ولا تجتازها وأنا أعفو عنك. فقال: لا أستطيع القسم، وخير لي أن أموت في الحال من أن أفارق وجه آدمي صبوح ولو كان عدواً لي. ولهذه الكلمات عاودني حنقي فطرحته أرضاً ووضعت قدمي على صدره ويدي في عنقه، فحاول الخلاص برهة، ثم كان جثة هامدة. تولاني الخوف على أثر ذلك؛ ولما نظرت إلى وجهه ظننت أنه عاد إلى الحياة وخيل إليَّ أن عينه الذابلة الزرقاء ترنوا إليّ، وأن ابتسامته الخبيثة لم تفارق شفتيه، كما أن يديه اللتين كانتا قابضتين على الرمال في حشرجة الموت امتدتا نحوي فضغطت على صدره مرة أخرى وحفرت حفيراً بجانب الشاطئ وواريته التراب وقلت: صرت الآن وحيداً

هنا تجلت لي المعاني الحقيقية للوحدة والكآبة ولعدم الاستقرار والعزلة، فارتعشت وترنح كل عضو من هيكلي الجبار كأني طفل ترتعد من الظلام فرائصه، وقف شعر رأسي وتقلصت عضلاتي، ولم أستطع البقاء في هذه البقعة دقيقة واحدة، ولو عاد إلي شبابي. غادرتها هرباً وجبت هذه الجزيرة، وكلما يممت شطر البحر واصطكت أسناني واشتقت إلى صحراء شاسعة لا نهاية لها أتوارى فيها إلى الأبد

عند الغروب عدت إلى مغارتي وجلست في زاوية من الفراش وأخفيت وجهي بكلتا الراحتين، وتوهمت أني أسمع ضوضاء فرفعت بصري. ولعمري لقد رأيت الرجل الذي أجهزت عليه ودفنته مقيماً بالطرف الثاني من الفراش

هناك على بعد ست أقدام مني كان جالساً يشير إليّ برأسه وينظر بعين شاحبة ويقهقه. وليت الأدبار من الغار ودخلت في غابة واستلقيت، ولكن هناك على بعد ست أقدام مني كان وجه ذلك الرجل أيضاً

أيقظت شجاعتي وخاطبته ولكن لم يبد جواباً. حاولت القبض عليه فأفلت وكان على بعد ست أقدام، وجهه دائماً أمامي

خررت على الأرض ساجداً وغطيت وجهي بأديمها وآليت لا أرفع رأسي حتى يحين الليل وينسدل الظلام

وقتئذ قمت وعدت إلى الغار واضطجعت في فراشي، فنام بجانبي الرجل، فغضبت وحاولت أن آخذ بتلابيبه فلم أتمكن

أخيراً أغمضت جفني ورقد بجانبي. مرت الأيام والحال لا تتغير في الداخل ولا في الخارج، في المنزل وفي الفراش، في القيام وفي الرقاد، بالليل أو أثناء النهار. هناك في طرف فراشي وعلى بعد ست أقدام لا أكثر ولا أقل كان الميت الشاحب

وما كدت أنظر إلى الأرض الجميلة والسماء الصافية وإلى هذا الصاحب المخيف حتى قلت: لا أعيش وحيداً بعد ذلك، فضحك الرجل بملء شدقيه. رست في النهاية سفين فحييتها وأقلتني وما وطئت قدمي سطحها حتى ظننت أني بمنجى من مزعجي، ولكن سرعان ما رأيته يعتلي سطحها، واجتهدت عبثاً أن ألقيه في اليم، ولكنه كان بجانبي دائماً يأكل معي وينام كسابق عهده

وصلت إلى مسقط رأسي واندمجت في الزحام. شهدت الولائم وسمعت الألحان، جعلت ثلاثين رجلاً يجلسون معي وظللت أراقبه ليلاً ونهاراً، ولكن رفاقي كانوا واحداً وثلاثين وأخيرهم كان أكثرهم ألفة وعشرة

فخاطبت نفسي: أهذا وهم أم هو خِداع الحواس؟ ولابد أن أستشير الأخصائيين في هذا الاضطراب لكي أعود إلى الوحدة؛ دعوت عرافاً ذائع الصيت في طرد ما علق برأسي من الأوهام واستحلفته أن يكتم السر ورويت له قصتي، وكان رجلاً جريئاً عالماً فوعدني الخلاص والنجاة، ثم سألني مبتسماً: أين هذا الشخص الآن فإني لا أراه، وإن كان حقاً ما تقول فإن حواسي لا تقل اداركاً عن حواسك؟ وكان في خطابه كما يكون الأستاذ مع تلميذه وأنا لا أعارضه ولا أساجله، وأمرت الخدم أن يهيئوا غرفة ويكسوا أرضها بالرمل. ولما صدعوا بالأمر التمست من طبيبي أن يتبعني إليها وأحكمت رتاجها، فسألني: أين الشخص الآن؟ فقلت: إنه على بعد ست أقدام منا. فأبتسم الطبيب فأهبت به أن ينظر إلى الأرض وأشرت إلى بقعة منها قائلاً له: مادا ترى؟ فأرتجف وتعلق بي حتى لا يهوى ثم قال حينما دخلنا: كان الرمل ناعماً ولكني أرى في هذه البقعة أثراً لأقدام آدمي، فضحكت ومشيت مع رفيقي الحي إلى الأمام وقلت له: أنظر ماذا يتبعنا كلما تحركنا، فحاول الطبيب أن يتنفس الصعداء ثم قال: صاحب هذه الأقدام، فصحت به فجأة صيحة اليأس الغضوب: ألا تستطيع أن تدبرني وهل قضى على ألا أعيش بعد منفرداً؟ غير أني رأيت آثار هذا الهالك تخط على الرمل هذه الكلمات:

(لم تخلق الوحدة للمجرمين. الأفكار السيئة رفيقات الساعة، ولكن الأعمال السيئة صديقات إلى قيام الساعة)

أبو جاويد أكمل