مجلة الرسالة/العدد 241/رسالة العلم
مجلة الرسالة/العدد 241/رسالة العلم
ما بعد الطبيعة
الروح ,
للسيد محمد حسن البقاعى
- 3 -
لقد بحثنا في الفصلين السابقين عن المادة والحياة، وأتينا على ذكر النظريات والنتائج التي وصل إليها الفلاسفة على اختلاف آرائهم، وتعدد مذاهبهم. ولا يسعنا الآن إلا أن نقول: إن نتائج تلك الأبحاث والبراهين والاعتراضات التي أثارها الفلاسفة للوصول إلى كنه المادة وحقيقة الحياة، لم توصل العقل البشري إلى نتيجة حاسمة، بل لا تزال الصعوبات قائمة. ولكننا نظن، أن الله سبحانه وتعالى سوف لا يعدم البشرية من نور مفاجئ يرسله إلى عقل بعض الفلاسفة الجادِّين في الوصول إلى الحقيقة النيرة في هذه الأبحاث؛ فيكشف اللثام عن تلك المسائل التي لم تتعدَّ حيز الفرض والاعتراض، ويأخذ بيد العقل البشري إلى شاطئ السلامة، فيخرجه من الظلمات إلى النور. وهانحن مقدمون على البحث في الروح فنقول:
إن البحث في الروح لم يكن نصيبه أكثر من نصيب البحث في الحياة؛ فخلاصته ما شغل عقول الفلاسفة من معرفة حقيقة الروح وماهيتها هو إقرارهم - إقراراً ضمنياً - يعجز العقل البشري عن سبر غورها، وقرع باب حقيقتها. فإن الروح هي من أمر الله، فكيف يتأتى لعقل قاصر إدراك ماهية أمر الله تعالى - وهو لم يستطع إدراك الأشياء البسيطة بالنسبة إلى الروح مثل المادة والحياة
وسنأتي الآن على ذكر النظريات التي وضعها العلماء والفلاسفة الذين عالجوا البحث في الروح وطمحوا في الوصول إلى حل نهائي معقول؛ ولكنهم - ويا للأسف - لم يصيبوا غرضهم المقصود. فالبحث في الروح إما أن يكون عن طريق الرأي العام والحس السليم الذي يقرر أن الروح والجسد مختلفان في طبيعتهما: ويضع الروح فوق الجسد أي إنه يقرر: أن الحياة النفسية فوق الحياة الجسدية، ويعتبر الروح مبدءاً معنوياً يدير الجسد.
وإما عن طريق آراء الفلاسفة والبحاثين التي يمكن تقسيمها مبدئياً إلى قسمين
1 - نظرية الماديين
2 - نظرية الروحيين
أما الماديون فيقولون: (لا يجوز أن نقبل أن الروح والجسد مختلفان بطبيعتهما، أي لا يمكننا القول بأنهما عنصران بل عنصر واحد) فهي إذن نظرية توحيد لا نظرية تثنية وهي تجعل النفس خاضعة للعناصر المادية التي في الجسد. وهم يستندون على طائفة من الأدلة التي يمكن أن تعتبر فيزيولوجية وهي:
1 - إن ما توصل إليه الفلاسفة من تعيين مناطق الكلمات والرؤية والنطق في الدماغ يثبت لنا أن كثيراً من الأمراض العصبية تولد بذاتها اختلافات نفسية واختلافات فكرية.
2 - إن الدورة الدموية في الدماغ تزداد أثناء التفكير. وقد ذكر الدكتور جميل صليبا أن العالم الإيطالي (موسو) شاهد أدمغة أشخاص أصيبوا بمرض في الجمجمة فرأى من وراء القحف أن العمل الذهني والاضطراب النفسي والأحلام كل ذلك يبعث على ازدياد ضغط الدم في الدماغ؛ حتى لقد فكر في إثبات ذلك بتجربة محسوسة فصنع ميزناً كبيراً على صورة منضدة يمكن أن ينام عليها الشخص؛ فكلما أجهد الشخص النائم فكره رجحت جهة الرأس من الميزان لانصباب الدم عليها. فيستنتج من ذلك أن الحياة الجسدية هي المؤثر الأول على الحياة النفسية
3 - نرى في علم التشريح أن ارتقاء الجملة العصبية متناسب مع ارتقاء الحوادث النفسية. فكلما تكاملت الجملة العصبية تكاملت الحوادث النفسية؛ فالأفاعيل الفيزيولوجية إذن ترافق الأفاعيل النفسية
4 - إن التأثير الحاصل من الجسد في النفس كتأثير الصحة والمرض والكبر في النفس نبرهن على اتحاد الجسد والنفس في الماهية
5 - لقد بَيَّنتْ مباحث علماء (البسيكوفيزيولوجيا) - بالرغم من كونها ابتدائية أولية - أن هناك قوانين تربط الحوادث النفسية بالحوادث المادية، فيقول (فيخنر): إن النفس من محصول الجسد، ولكن الشعور في هذه النظرية ليس إلا عرضاً زائلاً كالنور وتأثيره في حركة القطار. . . فلو عرفنا أحوال (لوتر الفيزيولوجية فهل نستطيع أن نكتشف الأسباب التي دفعته للقيام على البابا؟ الجواب على هذا السؤال بحسب هذه النظرية التي ليست إلا نظرية الشعور الملحق هو بلا شك (كلمة نعم!). أما القول في مناقشة هذه النظرية فيتلخص في أربع فقرات:
1 - نستطيع أن نقول عن هذه النظرية إنها لا تزال في عالم الخيال؛ فقد أخطأت باعتبارها أن الشروط الضرورية في الفكر هي المادة.
2 - إذا أنعمنا النظر في هذه النظرية وجدناها لا توضح الشعور بل تعتبره حادثة زائدة لا أثر لها في الحوادث النفسية؛ على أننا لا ننكر اتصال الجسد بالروح؛ ولكن هؤلاء الماديين تجاوزوا هذه الحدود، فهم يعتبرون الأمور النفسية ناشئة عن الجسد بينما نجد بينهما موازاة فقط؛ ويقررون أن الشعور ناشئ عن الحركة، مع أن بينهما فرجة في الحقيقة. ولو سَلَّمنا أن الشعور حادثة عرضية فكيف يمكن إيضاح ارتقائه على مَرِّ العصور وتكامله تكاملاً تدريجياً؟ ألم يقرر الفيزيولوجيون أن العضو الذي لا فائدة منه يزول في التطور؟ فكيف بنا ونحن نراه يرتقي ويتكامل عوضاً عن أن يضمحل ويتلاشى! إذن لابد أن يكون حادثة من حوادث النفس لا. . . بل هو ذلك الحَدْسُ النفسي الذي نطلع به على حوادثنا النفسية
3 - إنهم ينكرون تأثير الحوادث الروحية (النفسية) ولا ينكرون العكس مع أننا نعلم أن للفكر والعاطفة وغيرهما من الحياة الانفعالية تأثيراً بيناً في الجسد. وقد وضع الفيلسوف (ويليام جمس نظرية يدعم بها رأي القائلين بتأثير النفس في الجسد فقال: (لا يمكن أن نقبل أن الجسد يؤثر في النفس ونترك تأثير النفس في الأخير) لأننا نرى أن الشخص عندما يبكي لا يكون بكاؤه فجأة بل لابد من أن يحزن أولاً ثم يبكي؛ إذن لا يمكن للمرء إهمال الفكرة. وكثيراً ما استغرق الإنسان في فكر من الأفكار، فأنساه استغراقه هذا ألماً من آلامه المادية. فالرغائب والأهواء تلعب دوراً هاماً في الجسد وتسبب حركته، وهذا كله كاف لدحض حجة الماديين التي يمكن أن تعتبر حجة بتراء
4 - إننا نرى أن الحاضر مثقل بالماضي، وهو يهيأ للمستقبل فتتجمع آثار الماضي في الحاضر. إذن فالحاضر والماضي متصلان؛ واتصالهما هذا يؤول إلى القول بأن كل حالة من أحوال النفس تحوي كل حالات النفس؛ فالكل موجود في الجزء والجزء موجود في الكل؛ ولكن الحقيقة أن الكل موجود في الكل. وكل هذا مخالف لاعتقاد الماديين بل يستحيل عليهم قبوله؛ فلا يستطيع الماديون إذن أن يوضحوا أمراً هاماً جداً وهو الحكم والمحاكمة؛ ولا اتفاق الناس وتبادلهم بالأفكار؛ بل يقولون إن تبادلهم في الأفكار إنما يكون باتفاقهم في الحوادث الفيزيولوجية؛ فليست هذه النظرية إلا ضرباً من الخيال فهي نظرية ميتافيزيكية أكثر مما هي عقلية
أما اللاماديون أي الروحيون الذي عارضوا نظريات الماديين فقد قالوا: يجب أن نقبل وجود شيئين مستقلَّيْن عن بعضهما بطبيعتهما، أي هما مختلفان بمادتهما. وأول مدافع بل أول واضع لهذه النظرية هو أفلاطون الذي يقول: (إن النفس هي أخت المثل العليا الخالدة، وهي خالدة مثلها؛ فالنفس إذن محبوسة في الجسد كأنها في حجرة من حجرات هذا الجسد؛ أي إن النفس كالرُّبان في السفينة يُسِّيرها ولا يتأثر بما تتأثر به هذه السفينة. وعلى ذلك فالموت هو رجوع النفس إلى إخوانها حيث تسترجع علمها الأبدي الذي نسيته في الجسد). أما (ديكارت) فهو يعتبر أيضاً أن النفس والجسد من طبيعتين مختلفتين؛ فماهية النفس هي الفكر، وماهية الجسد هي الامتداد؛ فهما إذن غير متجانسين ولا متشاكلين، بل لكل منهما طبيعة خاصة به. إلا أنه ينكر على أفلاطون قوله بعدم اتصالهما ببعضهما وتشبيه النفس بربان السفينة الذي لا يتأثر بما تتأثر به السفينة فيقول: (إنني لا أنكر أن لي جسداً يتألم عندما أشعر بألم؛ وأحس بالجوع والعطش عندما يكون بحاجة إلى الأكل والشرب؛ وإنني لست ساكناً بجسدي كما يسكن الرُّبان في السفينة بل أنا أكثر من ذلك؛ أنا متصل بجسدي أكثر من اتحاد الربان في السفينة، ولو كنتُ مثله لكنت إذا جُرحت لم أتألم، بل على الأقل كنت أرى جرحاً فقط دون أن أشعر بألم، فأنا إذن عبارة عن شخص مفكر)
فديكارت إذن يقول بتأثير الجسد في النفس ويقول: (إن الحركة لا تتغير) أي لا تزيد كمية الحركة في العالم. وهو يصرح بقبوله لفكرة العلاقة بين الجسد والنفس، ولكنه يوضح هذه العلاقة بقوله: (إن كلاً من - الروح والجسد يؤثر في الآخر بمعونة الإله). ولقد اعتبر بعض الفلاسفة أن هذا الإيضاح مبهم وقالوا: إن إيضاح تلاميذ (ديكارت) أتم وأوسع من إيضاح (ديكارت) نفسه. فتلميذه (ماليبرانش) الذي وضع نظرية الأسباب المصادفة - أي العلل الاتفاقية - يقبل كل أقوال أستاذه ويشعر بالصعوبة في اتحاد الجسد في النفس وكيفيته وأسبابه؛ ولكنه يحل ذلك بشرح مبتكر، فيقول: (إنني أرى أن الروح لا تؤثر في الجسد والجسد لا يؤثر فيها، فمن الذي يؤثر إذن. . .؟ لا شك أن الإله وحده هو الذي يؤثر. مثال ذلك: عندما تحترق يدي فلا تستطيع نفسي أن تحدث في الألم بل الإله هو وحده الذي يحدث فيَّ الألم). فمن ذلك ترى أن (ديكارت) و (ماليبرانش) قد فتحا في حل مسألة الروح فتحاً جديداً؛ فهما بتعليلهما هذا يقرَّان بالعجز عن إدراك حقيقة اتحاد الروح بالجسد. وليس هذا إلا رضوخاً للحق واعترافاً بالواقع؛ فيجب عدم الاكتراث باعتراضات بعض الفلاسفة المتعنتين أو الملحدين عن الأصح، فهم يقولون: (يؤخذ على ديكارت إسناده كل فعل إلى الإله، وتوقفه على إرادته ومعونته؛ فبذلك يحذف كل فاعلية للجوهر اللامتناهي، ويجعل الإله كعامل من العمال غير كامل لأنه صنع آله لا تمشي إلا إذا كان هو موجوداً فيها)
فمناقشة هذا الاعتراض تتلخص بقولنا: ليس هذا الاعتراض إلا كلمة حق أُريد بها باطل. ولنفرض أن للجوهر فاعلية، فمن أوجد هذه الفاعلية؟ ومن أوجد الجوهر؟ ومن هو مرتِّب ومنسق هذا النظام في عالم الكون والفساد. . .؟ هل يستطيع هؤلاء المعارضون المنكرون للقوة الإلهية أن يجيبوا على هذه الأسئلة بأن المؤثر والفاعل الأول لذلك هو غير الله عز وجل؟ هبهم أجابوا بذلك وقالوا: إن الطبيعة هي الفاعلة، فما هي هذه الطبيعة ومِمَّ تتركب؟ وما هو مبلغ قوتها واقتدارها؟. لاشك أنهم يقفون حيارى تجاه هذا الأمر ولا يسعهم إلا الرجوع إلى القدرة الإلهية. .
ولقد وضع (سببنوزا نظرية جعل فيها الامتداد والفكر جوهراً واحداً وقال إنه جوهر الإله؛ بل قال إن كل الجواهر كالروح والجسد هي أعراضٌ لجوهر الإله. فهذه النظرية تسمى بالنظرية الحلولية فهو ينتقل من مذهب التثنية إلى مذهب حلوليٍ واحدٍ مُوحَدٍ لجميع الجواهر. وخلاصة هذا المذهب هي: لا يوجد غير الإله؛ وكل ما نراه هو أعراضٌ وصفاتٌ له؛ فالجواهر إذن هي لا نهاية في لا نهاية؛ ولكننا لا نعرف منها إلا صفتين فقط وهما: الامتداد والفكر لننظر إلى العالم المحسوس فنرى لوناً وصوتاً وحركة، وكل هذه هي عبارة عن أحوالٍ وهي متناهية، إلا أن عددها غير متناهٍ، فالفكر صفة الإله وأحواله غير المتناهية كالرغائب والذكريات. . . فأحوال الامتداد الإلهي هي الأجسام؛ وأحوال الفكر الإلهي هي النفوس وعلى ذلك فالعالم والإله شيء واحد. ويقسم هذا المذهب الطبيعة إلى قسمين:
1 - الطبيعة الطابعة
2 - الطبيعة المطبوعة
فالطبيعة الطابعة هي مجموع العلل الثابتة الدائمة الموجودة في جوهر الإله؛ والمطبوعة هي مجموع الأعراض المتغيرة المتبدلة التي لا تستقر على حال. فبحسب هذه النظرية يكون الإنسان مركباً من مجموع نوعين من الأحوال الإلهية؛ وهما الفكر والجسد ولا يمكن أن يعتبر جوهراً؛ وعلى ذلك فلا يوجد عقل ولا إرادة بل إرادات، فجموع الأحوال النفسية يوازيها مجموع الأحوال الجسدية، فهي تشبه نظرية الموازاة فهذه النظرية لا تقبل تأثير النفس في الجسد ولا العكس بل تقول إن بينهما موازاة فقط؛ وهي تنكر الحرية؛ واعتراضنا عليها هو نفس الاعتراض على النظرية المادية السابق
أما (ليبنيز فيقول إن مذهب الحلول هو مذهب فاسد لا يستند إلى مبدأ ديكارت. ويجب أن تكون هذه المبادئ نفسها فاسدة لأنه لا يمكن أن ينتج الفاسد من الصحيح، فهو إذن ينتقد مبدأ ديكارت. وقد وضع نظريةً تدعى (نظرية الموناد التي لا تقبل أن الجوهر هو امتدادٌ بل هو في القوة. فالروح والجسد من طبيعة واحدة؛ وبما أن النفس مركبة من موناد واحد فالانعكاسات التي تنعكس فيها تظهر جلية، بعكس الجسد المركب من مجموع الموناد. فالانعكاسات فيه مختلطة وكل موناد ينعكس على الآخر، فموناد النفس ينعكس على الجسد؛ وموناد الجسد ينعكس في موناد النفس؛ على أن ليبنيز لا يستطيع أن يقبل كيف يؤثر جسم في جسم فيقول: (أخذت أتأمل في مسألة اتحاد الروح بالجسد، فلم أجد واسطة تدخل بعض أشياء في النفس، وبالعكس لم أدرك أن جوهراً يؤثر في جوهر؛ فلا أستطيع قبول تأثير الجواهر بل أقول: لا يؤثر إلا الإله) ومن هنا نشأت نظريته المسماة (نظرية التناسق التي يقول فيها: إن كل موناد هو عبارة عن عالم صغير يعكس كل العوالم الأخرى ولكن بإرادة الإله وحده. ويقول أيضاً: إن الإله خلق النفس أو أي وحدة أخرى حقيقية؛ بصورة أن كل شكل يتولد داخلها بعضويته بالنسبة إليها: وبصورة متوافقة تماماً مع الأشياء الخارجية؛ وهذا التوافق مراد منه - أي من قبل الإله - ولعمري إن نظريات ليبنيز لهي خلاصة ما توصل إليه جمهور الفلاسفة في أمر الروح؛ ولقد انكشفت له الحجب عن الحقيقة، وهو الفيلسوف الأوحد الذي يكاد يقترب من الحقيقة الناصعة
محمد حسن البقاعي