مجلة الرسالة/العدد 241/في القرية

مجلة الرسالة/العدد 241/في القرية

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 02 - 1938


من أحاديث العيد

أصبحت القرية الصغيرة غارقة في ضباب أمْشير البارد الأهوج كأنها قِطَع السحاب المركوم جثمت من ثقلها على الأرض. فالجو على قول (هوجو) كستار الغيب المسدول، والنسيم على قول (ابن المعتز) كذيل الغلالة المبلول، ووجه السماء كوجه الصحراء في يوم الدجن لا ترى فيه إلا تلولاً من الغمام الجون وسهولاً من السحاب الِهَفِّ. وكانت جدران المسجد تعج بالتكبير والتهليل، وأفنية الدور تنعم بالعناق والتقبيل، والطرقات من البيوت إلى الزاوية، ومن الزاوية إلى المقبرة، تزدان بالشباب القروي القوي العامل، وهو يطفر من مرح الصبي، ويخطر في زينة العيد، فيكسب الطبيعة العابسة المقرورة بشراً من طلاقة وجهه، وقيساً من حرارة قلبه

أخذت (المناظر) والمصاطب زخرفَها بالقوم بعد أن أقاموا الصلاة لله، وأدّوا الزيارة للموتى، وقدموا التهنئة للأهل، وانفضوا ثقالاً عن سماط العيد، ودارت عليهم أكواب القرفة وسكائر الطَّباق، وتشققت بينهم مقطَّات الحديث، فترامت إلى عيد الملة بحج البيت، وعيد الأمة بمولد الفاروق، وعيد الأسرة بيوم الأضحى. وكان اجتماع هذه الأعياد السنوية الثلاثة في يوم العيد الأسبوعي من مصادفات الدهر النادرة، وموافقات القدّر البعيدة، فتألقت في وجوههم أضواء مختلفة من السرور، وتدفقت في قلوبهم أحاسيس شتى من اللذة؛ منها المنبثق عن مشرق الإيمان بالله، ومنها الصادر عن منبع الإخلاص للمليك، ومنها المنبعث عن فيض النفس الراضية تفتحت في حرارة الحب كما تتفتح الأكمام في دفء الربيع

من الصعب أن تقيد الأحاديث المرسلة إذا جرت بين قوم لا يؤمنون بقواعد الجدل، ولا يحفلون بأمانة التاريخ، ولا يرون الحق للمتكلم أن يتم كلامه أو يشرح رأيه. وحديث الناس في القرية كشقشقة العصافير في الشجرة، تسمع كل عصفور يغرد، ولا ترى عصفوراً واحداً يسمع!

- كل عام وأنتم بخير. واللقاء في العام المقبل إن شاء الله على عرفات!

بهذه التحية وهذه الأمنية أبتدأ الحديث؛ وكأنما كان لفظ عرفات سبباً من الجذب الروحي حوَّل عواطف القوم وأمانيهم إلى مكة! فالذين حجوا أخذوا يذكرون وهم في غمرة الشو ونشوة الذكرى، تجلى الألوهية في مهابط الوحي، وإشراق النبوة في مطالع الرسالة، ويروون عن كل منسك حديثاً، ويقصون عن كل موقف حادثة. والذين لم يحجوا يصغون إلى صرف الحديث وهم من فعله الساحر في هيام غالب وطرب نزوع. ثم رجع الحديث مشرقَ الحواشي معطر الأطراف من الكعبة إلى عابدين، فأفاضوا في صلاح الملك الشاب وبره، إفاضة الخيال الشاعر في عدل عمر وفضل الرشيد. فهذا يقول إن جلالته يزور القرى متنكراً ليرى بنفسه منابت الشر ومواطن الفقر، فإذا كتب الله النعمة لبيت من البيوت عطفه إليه فدخله دخول الرحمة، وحل به حلول السعادة. ثم يروي الأعاجيب في هذا الباب مما تناقلته الأَفواه في الأسواق ورددته الأَلسنة في المجالس. وهذا يذكر أن الشيخ فلاناً رأى جلالته في المنام والنبي يقبله قبلة الرضى، ويقلده سيف الخلافة، ويِعَده نصر الله ما دام على النهج الواضح والعمِل الصالح والوحدة الجامعة. وذلك يقرر أن غضب الملك الصالح من غضب الله، إذا صُب على الباغي لا تعصمه منه قوة، ولا تدفعه عنه كثرة. لأن غضبه فوق الهوى والطمع، فلا يكون إلا للعدل في جوهره، وللشعب في صميم حقه

ثم انتقل الحديث من غضب الملك إلى حل مجلس النواب، فغاضت البشاشة من الوجوه وقالوا بلهجة الآسف الحزين: عدنا إلى الحرب الضروس، تفتك أسلحتها الأثيمة بالأموال والأنفس والأخلاق والقرابة. فالانتخاب بمآثمه ومغارمه هو المظهر الذي نحسه وتعرفه من مظاهر الدستور. وفترة الانتخاب هي الفرصة التي نرى فيها النائب طول الدورة البرلمانية. ومعركة الانتخاب بين الحكومة والأحزاب، وبين المرشحين والطلاب، هي التي تحمل أولياء الحكومة وأغنياء الأمة على أن يذكروا القرية، ويزوروا الفلاح، ويعطفوا على بؤس الأجير، ويمسحوا على رأس العامل، ويعدونا المواعيد، ويمنونا المنى، ويصوروا لنا البرلمان في صورة المسيح المنتظر؛ فلا ظلم وهو منعقد، ولا بؤس وهو قائم! فنقطع في رضاهم القرابة، وتنقض في سبيلهم الجوار، ونتحمل في نجاحهم العنت؛ حتى إذا فاز النائب، والتأم المجلس، وحكم الدستور، انصرف البرلمان إلى الأحزاب، واشتغلت الحكومة بالموظفين، واهتم النائب بنفسه! أما القرية والفلاح، وأما الدائرة والناخب، فمرآهم مقتحمَ العين، وشكواهم دْبرَ الأذن

ذلك بعض حديث القوم. وهو على سذاجته أو قل على تفاهته أخف على القلب وأندى على الكبد من حديث يزوره كاتب يتعاطى الأَدب، أو خطيب يحترف السياسة

أحمد حسن الزيات