مجلة الرسالة/العدد 241/من مآسي التاريخ الإسلامي

مجلة الرسالة/العدد 241/من مآسي التاريخ الإسلامي

مجلة الرسالة - العدد 241
من مآسي التاريخ الإسلامي
ملاحظات: بتاريخ: 14 - 02 - 1938



فرار عبد الرحمن الداخل

للأستاذ محمد عبد الله عنان

ليس بين أمراء الدولة الأموية، سواء في الشام أو الأندلس، من تقدم إلينا حياته وسيرته تلك الصفحة المدهشة التي يقدمها إلينا عبد الرحمن بن معاوية المعروف بالداخل؛ فقد كان هذا الأمير بطل مأساة خارقة مؤثرة؛ ولم تكن روعة هذه الصفحة في أنه أقام من العدم ملكاً عظيماً فقط، وأقام لمجد أسرته الذاهب صرحاً شامخاً فحسب، ولكن روعتها تبدو بنوع خاص في معترك المحن الأليمة التي نشأ في غمارها هذا الأمير القوي النابه. وإذا كانت حياته السياسية لا تحمل على كثير من الحب، وتبدو لنا حياة مغامر يشق طريقه إلى السلطان بوسائل ليست دائماً مشروعة، فان المحنة التي طبعت بها حياته الخاصة، وما صقلت هذه المحنة من خلاله الباهرة، لمما يستثير منا أيما عطف وإعجاب

وقد لا نجد لحياة الداخل صورة أبلغ وأقوى من تلك التي رسمها لنا خصمه وعدو أسرته أبو جعفر المنصور العباسي إذ نعته بصقر قريش، ولخص لنا حياته المدهشة في قوله: (عبر القفر، ودخل بلداً أعجمياً منفرداً بنفسه، فمصر الأمصار، وجند الأجناد، ودون الدواوين، وأقام ملكاً عظيماً بعد انقطاعه بحسن تدبيره، وشدة شكيمته. إن معاوية نهض بمركب حمله عليه عمر وعثمان، وذلّلا له صعبه؛ وعبد الملك ببيعة أبرم عقدها؛ وأمير المؤمنين بطيب عترته واجتماع شيعته؛ وعبد الرحمن منفرد بنفسه، مؤيد برأيه، مستصحب لعزمه، وطد الخلافة بالأندلس، وافتتح الثغور، وقتل المارقين، وأذل الجبابرة الثائرين)

تلك هي حياة عبد الرحمن بن معاوية، حياة نشأت من العدم، وسلسلة حافلة بالمحن والصعاب الفادحة، تبدأ في المشرق بفرار عبد الرحمن أمام مطارديه وقتله أسرته ومغتصبي عرش آبائه وأجداده، وتنتهي في الغرب وبسائط الأندلس بالظفر والملك الموطد. ولقد كان هذا الفرار أول وأعجب فصل في هذه المأساة، وكان عنوان القدر المدهش يدبر من الحوادث الواقعة ما لا يخطر تصوره على الذهن المغرق في الخيال

كانت سنة 132هـ سنة حاسمة في تاريخ الإسلام والخلافة، ففيها أنهار صرح الدولة الأموية تحت ضربات بني العباس، وقامت في المشرق خلافة جديدة هي الخلافة العباسية؛ ورأت العصبة العباسية الظافرة أن تتوج ظفرها بسحق الأسرة التي استولت على تراثها واجتثاث أصولها وفروعها، فنظمت مطاردتها الشهيرة لبني أمية، وتتبعتهم بالقتل الذريع في كل مكان، وقتلت منهم جماعة كبيرة من الأمراء والسادة ولم تبق حتى على النساء والأطفال؛ ولكن هذه المطاردة الدموية الشاملة لم تجتث الشجرة من أصلها، وشاء القدر أن يفلت بعض فروعها، وأن يزكوا ليستعيد أصله الراسخ في أرض أخرى؛ فكان ممن نجا من المذبحة الهائلة فتى من ولد هشام بن عبد الملك، اختاره القدر ليحمل مصاير الدولة الأموية إلى وجهة أخرى

هذا الفتى هو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام. وكان وقت أن حلت النكبة بأسرته يقيم مع أهله وإخوانه في قرية تعرف بدير يوحنا من أعمال قنسرين، وفيها كان مولده قبل ذلك بعشرين عاماً؛ وكان أبوه معاوية قد توفى شاباً في أيام أبيه هشام، فكفله واخوته جدهم هشام؛ ولما وقعت النكبة وأمعن الظافرون في مطاردة بني أمية فر عبد الرحمن بأهله وولده إلى ناحية الفرات وحل هنالك ببعض القرى، واختفى بها حيناً يدبر أمره؛ وكان يرقب الموت في كل لحظة، ولكنه كان في الوقت نفسه يتجه بذهنه إلى مستقبل بعيد غامض. وبينا هو في هذا الجزع القاتل يدبر أمره، وإذا بجند المسودة تطوق القرية، وتستقصي آثار بني أمية؛ وإذا بعيد الرحمن يرى شبح الموت أمامه فجأة، فيحاول اجتنابه بالفرار من مطارديه

وقد انتهت إلينا عن هذا الفرار قصة مؤثرة نقلها إلينا مؤرخ أندلسي مجهول عن لسان عبد الرحمن ذاته، ونقلها عنه بعد ذلك أبو حيان مؤرخ الأندلس وخلاصتها أن عبد الرحمن حينما علم أن القرية قد غصت بجند المسودة، بادر إلى شيء من المال فحمله، وفر مع أخيه الأصغر، وهو صبي في الثالثة عشرة من عمره، وقصدا إلى شاطئ النهر (الفرات) فدل عليه بعض الخونة فما شعر إلا والخيل في أثره، فألقى بنفسه في النهر مع أخيه وأخذا يقطعانه سباحة، واستطاع عبد الرحمن أن يصل إلى الضفة الأخرى؛ ولكن الغلام عجز عن قطعه، وآثر أن يعود إلى الضفة الأولى بعد أن وعده الجند المطاردون بالأمان؛ ولكنه ما كاد يقع في أيديهم حتى انقضوا عليه وقطعوا رأسه أمام عيني أخيه وقلبه يتفطر روعة وأسى

ولما أمن عبد الرحمن خطر مطارديه سار مختفياً إلى الجنوب وقطع فلسطين ثم مصر، وهو يحمل حياته في كفه متأهباً للقاء الموت في كل لحظة. وكانت عيون العباسيين ترقبه وتشيعه خلال هذه الهضبات والفيافي الشاسعة، وتكاد تكشفه من آونة إلى أخرى؛ ولكن طالعه كان يهديه، فجاز مصر إلى برقة ناجياً بنفسه، والتجأ إلى أخواله بني نفرة، وهم بطن من بربر طرابلس وكانت أمه بربرية منهم تدعى راح، وأقام لديهم يرقب الفرص، وأنفذت إليه أخته أم الأصبغ مولييه بدراً وسالماً ومعهما شيء من المال والجوهر. والظاهر أن عبد الرحمن كان يتجه منذ الساعة الأولى ببصره إلى إفريقية، وأن نفسه كانت تحدثه بما قد يكون له في الأندلس من شأن. فلما هدأ روعه استأنف سيره، ونفذ إلى إفريقية يحاول اختراقها؛ وكان المتغلب عليها يومئذ عبد الرحمن ابن حبيب الفهري، وكان وقت أن دالت دولة بني أمية في المشرق قد دعا لبني العباس، وكان يخشى على سلطانه من ظهور بني أمية في إفريقية، فطارد اللاجئين إليها منهم، وقتل بعضهم واعتقل البعض الآخر وصادر أموالهم. ولما شعر بظهور عبد الرحمن بن معاوية حاول القبض عليه، ولكن عبد الرحمن استطاع أن يتجنب المطاردة، وأن ينجو مع صحبه إلى المغرب الأقصى

وهنا تتفتح آمال عبد الرحمن وأطماعه؛ فعلى مقربة منه في الضفة الأخرى من البحر بلد غني زاهر من تراث الدولة الأموية الذاهبة لم تمتد إليه يد المسودة، ولم تقتحمه دعوتهم، وفيه عصبة قوية من بني أمية وأنصارهم ومواليهم، وفيه يستطيع - إذا حالفه حسن الطالع - أن يعيد بناء الصرح الذي انهار في المشرق، ويستأنف لأسرته حياة جديدة في السلطان والملك. وكانت الأندلس في الواقع، منذ انجلت عنها يد السلطة المركزية، مهبط الطامعين والمتغلبين، وكان يحكمها ويقودها يومئذ يوسف ابن عبد الرحمن الفهري؛ وكان قد وليها قبل ذلك بنحو عشرة أعوام باتفاق الجماعة عقب معارك داخلية طاحنة، ولكن حكمه لم يتوج قط بالصبغة الشرعية؛ ولم تستكن الأندلس نهائياً إلى حكمه بل كانت تتطلع دائماً إلى مصيرها وترجو أن تظفر بالاستقرار السياسي في ظل أميرها الشرعي. وهكذا فإن عبد الرحمن الأموي حينما سبر غور أحوال الجزيرة على يد بعض رسله وموالي أسرته، آنس أملاً في العمل وفي النجاح؛ ثم عبر إلى الجزيرة، والتقى في أنصاره وعصبته بيوسف وقواته في (المسارّة) على مقربة من قرطبة في أوائل ذي الحجة 137هـ (756م)؛ وكان النصر حليفه، إذ هُزم يوسف وحلفاؤه هزيمة شديدة، ودخل عبد الرحمن قرطبة في يوم الأضحى، واستقبلت الأندلس عهداً جديداً

على أن يوم المسارة كان بالنسبة لعبد الرحمن فاتحة الظفر لا غايته؛ فقد استطاع بعد أحداث وخطوب جمة أن يجوز إلى الأندلس، وأن يفتتح عاصمتها وينتزع إمارتها لنفسه؛ ولكنه ظفر بعرش لم يتوطد سلطانه؛ وكان ثمة بينه وبين ملك الأندلس الحقيقي مراحل شاقة؛ بيد أن هذا الفتى الذي شحذت المحنة والخطوب هممه، استقبل مهمته الفادحة بعزم مدهش، وقضى بقية حكمه وحياته ثلاثة وثلاثين عاماً يغالب صعاباً لا نهاية لها. وكانت الأندلس خلال هذه الفترة كالبركان الثائر، يضطرم كل يوم في ناحية، فلا تكاد الثورة تخمد في ناحية منها حتى تضطرم في ناحية أخرى. وكان عبد الرحمن في خططه وأساليبه طوال هذه المعركة مثال الجرأة والصرامة والقسوة، بيد أنها لم تكن شهوات طاغية ظامئ إلى الدم، بل كانت أساليب عنف يمليها العنف والخطر الداهم. كان عبد الرحمن يعيش من يوم إلى يوم في غمر الخلاف والثورة والخيانة، ولم يترك له الكفاح المضطرم المستمر فرصاً كثيرة لأعمال السلم، بيد أنه خرج ظافراً من المعركة، ظافراً بإعادة الصرح الأموي الذي تهدم في المشرق؛ وتوطيد دعائم الملك الذي غلب، وإنشاء أسرة أموية جديدة في الغرب، قدر لها أن تسير بالأندلس في سبيل العظمة والفخار أحقابا

بيد أن هذا الظفر الباهر كانت تغشاه دائماً آلام نفس معذبة ذلك أن المحنة طبعت نفس عبد الرحمن وروحه إلى الأبد بطابع الكآبة والشجن؛ وهو لم ينس قط أنه سليل دوحة تقصفت واجتثت أصولها الراسخة حيث كانت يانعة زاهرة، وأنها اجتثت في مناظر دموية مروعة كان من شهودها وكاد يغدو في ضحاياها؛ ومن ثم نراه حتى آخر حياته محزون النفس يتلهف على ماضيه، ويبكي مجد أسرته، ويتحسر على فراق وطنه، وعلى نفيه وغربته وقد انتهت إلينا من شعره أبيات مؤثرة تفصح عن آلامه المعنوية مثل قوله في التشوق إلى ربوع الشام:

أيهذا الركب الميمم أرضى ... أقْر من بعضيَ السلام لبعضي

إن جسمي كما علمت بأرض ... وفؤادي ومالكيه بأرض قدر البين بيننا فافترقنا ... وطوى البين عن جفوني غمضي

وقوله وقد رأى في الرصافة نخلة منفردة:

تبدت لنا وسط الرصافة نخلة ... تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل

فقلت شبيهي في التغرب والنوى ... وطول التنائي عن بنيّ وعن أهلي

نشأت بأرض أنت فيها غريبة ... فمثلك في الاقصاء والمنتأي مثلي

تلك هي مأساة عبد الرحمن الداخل؛ ونقول مأساة لأن الظفر الذي اختتمت به لم ينزع عن هذه الحياة الشاقة لونها المؤسي. وقد كان الداخل بلا ريب من أعظم شخصيات التاريخ الأندلسي؛ بيد أنه في حياته الخاصة يبدو لنا دائماً ذلك الطريد تثير محنته وآلامه في النفس شجنا، قبل أن تثير أعماله الحافلة في النفس إعجاباً

محمد عبد الله عنان