مجلة الرسالة/العدد 245/فلسفة التربية

مجلة الرسالة/العدد 245/فلسفة التربية

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 03 - 1938



تطبيقات على التربية في مصر

للأستاذ محمد حسن ظاظا

- 12 -

(لا معرقل لنهضة الأمة أشد وأفدح من تباعد ثقافتها وانقسام عقليتها)

(* * *)

(لقد قررنا أن نجعل كل مواطن موضع عناية الدولة وحمايتها، فعشرات الملايين محرومة الآن مما نسميه بمقاييسنا الدنيا (ضرورات الحياة)! ولذلك سيكون مقياس نجاحنا هو: لا هل أضفنا زيادة لأغلب أولئك الذين عندهم الكثير! بل هل قدمنا الكفاية لأولئك الذين ليس عندهم إلا أقل القليل)؟!

(الرئيس وشنطن)

2 - الأمية وانقسام الثقافة

تبينت في المقال السابق أهمية الموضوع وخطورته بالنسبة لمصر ولاسيما في عصرها الراهن، وعلمت بأمر هذه الرسالة النقدية الحصيفة التي قد أخرجها (الدكتور جاكسن) أخيراً متناولاً فيها بعض نواحي النقص بالتجريح والعلاج، وستقرأ منذ اليوم تلخيصاً وتعليقاً على هذه الرسالة الفريدة، كما ستقرأ فيما بعد ما أستطيع أن أقدمه من ملاحظات واقتراحات. . .

1 - فرصة ملائمة للإصلاح

والحق أن الفرصة الحاضرة ملائمة من جميع نواحيها لإصلاح التربية في مصر. ذلك أن تيار الوطنية الجارف قد أوجد شعوراً عاماً بوجوب النهضة، وبعث المجد القديم، والاحتفاظ بما كسبنا من حقوق، فالتنبيه إلى أن التربية الصالحة خير أداة لتحقيق هذه النهضة المنشودة يجد صداه بسهولة في الرأي العام، ويجد مكانه اللائق به في برامج الأحزاب ونفوس الزعماء؛ وإذاً فلا مندوحة لنا من انتهاز هذه الفرصة المواتية والعمل على الاستفادة منها، ولنحذر تماماً مغبة الاندفاع الكلي إلى شئون الدفاع الوطني وحده لأن السيف كم يقولون لا يعمل إلا في يد بطل! ولنكتف بما كان فنصرف الطلبة إلى شئون الدراسة وحدها لأن السياسة قد جنت على ثقافة البلد وأخلاقه بتخفيضها نسبة النجاح نزولا على صيحات الكسالى الراسبين!!

2 - الحاجة إلى الزعماء الكثيرين

فترى إذاً ما هي حاجة النهضة المرموقة؟ أحسب أن هذه النهضة تتطلب أولاً وقبل كل شيء زعماء كثيرين جديرين، يستطيعون أن يحملوا الشعلة وينطلقوا إلى تبديد الظلام في شتى نواحي الضعف والنقص بقلوب فتية، ونفوس حازمة، وضمائر نقية تقدر المسئولية وتتفانى في التضحية وضرب المثل الأعلى؛ زعماء لا سياسيين فحسب، ولكن أخلاقيين واقتصاديين ورياضيين واجتماعيين وغير ذلك مما تتطلبه نواحينا الكثيرة المتباينة. . . ويقع عبء تخريج هؤلاء الزعماء على المدرسة والبيت بما فيهما من معلمين وآباء!! أو قل إنه يقع على المعلمين بوجه خاص، فإذا نجحنا في إخراج هؤلاء فقد وضعنا الأساس القوي المكين. ولا سبيل إلى هذا النجاح إلا بتعليم إنساني يحفز ويثير ويقوي الشخصية ويخلق رجل المشروعات. . .! وهنالك تنحط الزعامة على كثير من الخريجين وتسعى إليهم. . .! أما تعليم الحفظ والاستيعاب والجمود والانكماش فلا يخرج إلا فراداً مصبوبين في قالب واحد، لا خلق فيهم ولا تكوين، ولا إزهار ولا إبداع!

3 - محور الأمية وتوحيد الثقافة

ثم ماذا؟؟ يتبقى بعد تكوين هؤلاء الزعماء أن نجد (الشعب) الذي يتبعهم عن فهم وتقدير وبحماس واتحاد؟! فهل لدينا ذلك الشعب؟ ثمانون في المائة يا عزيزي أميون! وأغلب الأقلية المتعلمة لا يدري من شئون العلم غير مجرد القراءة والكتابة!! وأغلب ما يتبقى بعد ذلك سطحي الثقافة فج العلم ملتوي الشخصية خامد الشعور!! ثم ليت هؤلاء - مع الأقلية الراقية الثقافة - متحدين في العقل والقلب والعقائد والأماني!! أليس فيهم المصري الشرقي والمصري الغربي؟! أليس فيهم المعمم بكل ما له من منطق يخالف المطربش ولا يكاد يتفق معه في فهم الحياة ولا سيما ناحيتها الحديثة؟؟ كيف إذاً نستطيع أن نرجو لهذه الأمة نهضة وهي جاهلة ومنقسمة؟؟ كيف نستطيع أن نسوقها إلى الحرية والاستقلال والمجد وسوادها الأعظم يعيش كما تعرف في كفاف العيش، وظلام العقل، ومستوى الحيوان؟! وكيف نستطيع أن نطمع في اتحادها وزهرة رجالها متباعدون لا يجمعهم عقل واحد، ومتنازعون يحاول كل منهم أن يفرض تقاليده على الآخر؟؟

4 - روح التعليم الراهن

ومع كل فهل روح التعليم في الثقافة الشرقية (وتتمثل في الأزهر الشريف وكلياته وما يقترب منه) والثقافة الغربية (وتتمثل على الخصوص في المدارس الابتدائية والثانوية والمخصوصة والجامعة) صالح كل الصلاح؟ يرى (الدكتور جاكسون) أن ذلك الروح ما يزال مشوباً في كلتا الثقافتين بألوان من النقص كثيرة. فالتعليم الشرقي بالرغم من سموه على التعليم الغربي بروحانيته العالية، وأخلاقه الدينية، وعقائده السليمة، يعنى كثيراً بالتكرير والتقليد لا بالكشف والخلق والإبداع. ولذلك كانت نتائجه سالبة أكثر منها موجبة، وكان أثر خريجيه في إصلاح الشعب أقل مما يجب وإن كان في مجموعه عظيماً. ولئن قيل إن العلوم الحديثة قد أدخلت أخيراً في هذه الثقافة فالراجح أن إدخالها لم يزل شكلياً في طريقته ونتائجه، ولذلك لم تزل هناك حاجة قصوى للتعديل فيه والإصلاح؛ أما التعليم الغربي فنواحي نقصه كذلك كثيرة. ومن هذه النواحي إخراج الطالب مخالفاً لتقاليد عائلته وأمته ومنقسماً عليها، وراغباً في التجديد الأعمى الذي لا يحفظ له شخصيته كمصري وشرقي، ولئن كانت به عناية أكثر بالكشف والخلق والإبداع فإن تكوين الروح الاجتماعية ما يزال ضعيفاً فيه، وعنايته بالحفظ والحشو تكاد تطغى به على غيرها

هذا من ناحية. ومن ناحية إعداد (المعلمين) في كلتا الثقافتين نرى كذلك من التباعد وعدم توحيد المجهود واختلاف النزعة الشيء الكثير. . . وقد نجم عن ذلك تباعد طوائف المعلمين في المشرب وعدم تعاونهم واتحادهم في دراسة قضية التربية مع أنهم جميعاً تلك الطائفة المختارة التي قد ألقت إليها الأمة بفلذات أكبادها لإعدادها خير إعداد! أفي المحامين أو الأطباء انقسام وتباعد كما في المعلمين؟

5 - ضرورة التقارب والتوحيد

هناك نزاع إذاً بين الثقافتين عنيف، والواجب هو التقريب والتوحيد بقدر المستطاع! مهما حاولنا أن نبقي الشرق شرقاً والغرب غرباً، لأن الاتصال بينهما يزداد كل يوم ويتضاعف، ولأن في الغرب من القوة والحياة كل ما هو جدير بالاتساق والانسجام مع عظمة الشرق ومجده! لسنا ندعو إذاً إلى طغيان أحدهما على الآخر، لكنا نريد تناسقاً يخلق لنا حياة أغنى وأعمق وأكثر بعثاً للرضى والتآلف والارتياح. يقول فرويد (إن عدم التغيير موت)! فلنأخذ من الغرب مثلاً رياضته وهندسته وتربيته وفنه، ولنبق للشرق خلقه وكرمه وروحانيته، وليكن رائدنا في جميع ما نأخذ وما ندع هو الرغبة في التقدم الذي يحفظ لنا شخصيتنا ولا يتركنا متخلفين وراء الغرب، ولتكن خطتنا هي التقريب بين المعاهد المختلفة لتحسين خططها وتوحيد غرضها وتقليل نفقاتها، بحيث ينجم عن ذلك التقارب تعاون متناسق يعمل من أجل غرض واضح مرسوم. ذلك أن العقل الناجح هو ذلك الذي تعمل خلاياه باختلاف ولكنها ترجع جميعاً إليه كعقل واحد منتظم. وإذا بحثنا عن ذلك العقل الموحد في هيئاتنا التعليمية لم نجد بين خلاياه اتصالاً معقولاً، ولم نجد له غرضاً واحداً موضوعاً تعمل الجهود المختلفة على تحقيقه

6 - اقتراحات للإصلاح

ولئن كانت مصر قد أخذت بكثير من نواحي العلاج، وستستفيد بلا ريب من احتكاكها بعصبة الأمم في نواحي الصحة والطفولة والعمال والتعاون الفكري فلاشك أنها محتاجة لبحث الشئون الآتية كوسائل ضرورية للعلاج:

(1) النظر في أية ثقافة جديرة بالتشجيع؟ وأية حياة مثلى يجب أن تسيطر على نظام التربية؟

(2) نشر التعليم ومحو الأمية والارتقاء بمستوى السواد الأعظم إلى حيث تتحقق الحياة الديمقراطية الصحيحة

(3) تعديل التعليم الثانوي على نحو أكثر تحقيقاً للحياة العملية والاجتماعية درءا لأزمة البطالة الراهنة

(4) تقريب معاهد الثقافة بعضها من بعض على النحو الآنف. ويشمل هذا التقريب الطلبة والمدرسين على السواء

(5) حسن اختيار المعلمين والارتفاع بمستواهم حتى تصبح مهنتهم جديرة بالاحترام اللائق مغرية للنبهاء والنابغين بالعمل فيها

(6) تكوين مجلس أعلى للتعليم يضم كبار رجال التربية إلى جانب رجال الاقتصاد والدين والفكر والاجتماع

ولما كانت ناحية محو الأمية وتثبيت قدم الديمقراطية أهم هذه النواحي جميعاً، فإنا سنعرض لها بإسهاب في العدد القادم إن شاء الله

(يتبع)

محمد حسن ظاظا

مدرس الفلسفة بشبرا الثانوية الأميرية