مجلة الرسالة/العدد 250/التاريخ في سير أبطاله

مجلة الرسالة/العدد 250/التاريخ في سير أبطاله

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 04 - 1938



ابراهام لنكولن

هدية الأحراج إلى عالم المدنية

للأستاذ محمود الخفيف

- 8 -

يا شباب الوادي! خذوا معاني لعظمة في نسقها الأعلى من

سيرة هذا العصامي العظيم

نجح لنكولن في الانتخاب، فظفر بمقعد في المؤتمر ظل ينزع إليه سنوات أربعا طويلة؛ وكان هذا النجاح كفيلاً أن يبث في قلبه من الغبطة والبهجة بقدر ما بثه فيه الانتظار الممل من السأم والضجر، ولكنه كتب إلى صديقه سبيد ينبئه أنه لم يهتز كثيراً للنجاح كما خيل إليه قبل أنه فاعل إذا ظفر. وتلك حالة من حالاته العجيبة، بل هي حال من حالات النفس البشرية تدعو إلى العجب والاعتبار! فكثيرا ما يتمنى المرء ما ليس في يده حتى لتكون سعادته كلها مجتمعه في أن ينال ذلك الذي يتمناه، فإذا اقترب من بغيته أو شه له أنه مقترب راح يطفر من الفرح، ورأى في كل شئ حوله معاني الحبور والغبطة، وإذا بعد عن ضالته أو خيل إليه أنه مبتعد، ضاقت في وجهه الدنيا وبات من همه كأنه في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج؛ حتى إذا قدر له آخر الأمر أن يرسو على الشاطئ وأن يلمس بيده مبتغاه وقف حياله وقفة من لم يجد شيئاً، وفتحة عينيه على الحقيقة كمن يفيق من حلم ذابت ألوانه وتلاشت أطيافه وتبددت رؤاء. . . ذلك هو غرور الحياة، ولكن ما ألذه من غرور! وما الحياة في جملتها أن هي خلت من هاتيك الأحلام؟

وانقضى عام بين نجاحه وذهابه إلى المؤتمر. ولقد صحبته زوجه إلى وشنجطون العظيمة، وزارت البيت الأبيض، ولعلها كانت تحدث نفسها في زهو أنه في غد مقر بعلها. ومشى ابن الأحراج في المدينة تستوقف الأبصار هيئته إذ كانت لا تزال روح الغابة تصحبه كأنما هو نوع من الشجر جئ به إلى غير منبته. . . وسرعان ما أنس الناس به، فهم إذا جلسو إليه يشعرون أن روحاً قوياً يسرى إليهم منه وإن لم يتبينوا ما هو؛ وكذلك أخذت تطل عليهم نفسه في فيض من قصصه. . .

أما في المجلس فقد كان أول الأمر بحيث لا يحسب أحد أنه سيكون يوماً من النابهين، ولكنه ما لبث أن بدد هذا الزعم بخطاب احتفل له وجعل له كثيراً من الأهمية، يتبين لنا ذلك فيما كتبه في هذا الشأن إلى صديقه هرندن؛ وكان الخطاب يدور حول الحرب القائمة في تكساس، وجه فيه لوماً عنيفاً إلى رئيس الاتحاد أن خرج بهذه الحرب عن الدستور كما فرط بها في جانب العدالة والخلق

قال لنكولن: (ليذكر الرئيس أنه يجلس حيث كان يجلس وشنجطون، وليجب إذا ذكر كما كان يجيب وشنجطون، وكما أنه لا يليق بأمة أن تهرب من الحق، والله لا يسمح أن يهرب منه. كذلك ليتجنب الرئيس الهرب والمراغة؛ فإذا استطاع بعد ذلك أن يقيم الدليل على أن الأرض التي سالت عليها الدماء أول ما سالت هي أرضنا فإني موافقه فيما يسوق من مبررات. ولكنه إن عجز عن ذلك أو أحجم عنه فإني حينئذ خليق أن آخذ على اليقين ما يقوم في نفسي فعلاً مما هو أكثر من الظن، فأرى أنه يشعر بخطئه، وأنه يشعر أن الدم الذي سال في تلك الحرب هو كدم قابيل يستصرخ السماء ضده)

ولكن تلك الحرب كانت في نظر الناس أمراً مستساغاً لأنها ستضم إلى الولايات أرضاً جديدة، كما أن جيوش الولايات كانت ظافرة فيها. من أجل ذلك لم ينل ابراهام بخطابه من الرئيس، كما أنه لم يظفر بتأييد أو قبول من جانب زملائه. ولقد أحس هو بضعف موقفه ولهذا جعل الأمر في المهاجمة أمر خلق لا أمر سياسة؛ وأخذ يندد بضم تكساس على رغمها ويستنكر ذلك الفعل على الأخص أن كان صدوره من دولة تدعو إلى الحرية وتباهى العالم بأنها أرض الحرية

وكان مما جاء في ذلك الخطاب قوله: (إن من حق أية أمة في أية جهة إذا أحست في نفسها الميل واستثمرت القوة أن تثور في وجه الحكومة القائمة وتعصف بها، ثم تقيم بعد ذلك من الحكومات ما يكون أكثر ملاءمة لها). وإنا لنراه بذلك يجعل للثورات صفة شرعية، كما إننا نفهم من هذا المبدأ مبدأ آخر جاء ضمنه ألا وهو مبدأ سلطة الأمة ووجودها في أساس كل سلطة! تلك هي خطبة لنكولن التي احتفل لها وافتتح بها عمله في المؤتمر؛ تراها وإن لم تصب بموضوعها موضع العطف من نفوس أعضاء المؤتمر، قد رفعت ذلك المحامي في أعين رجال السياسة، وعلم من لم يكن يعلم منهم مقدار ما أوتيه ابن الأحراج من قوة المبادهة ومتانة الحجة وفصاحة اللسان، ومقدار ما رزق من قوة الجنان ويقظة الوجدان، ورأوا فيه إلى جانب القصاص الذي لا يبارى، الخطيب الذي يعرف كيف يسحر السامعين وإن كانوا عن آرائه معرضين.!

وكم للتاريخ من مواقف تدعو إلى العجب! فهذا لنكولن اليوم في المؤتمر يندد بالحرب، وقد تعاظمه سفك الدماء وإزهاق الأنفس؛ وهذا لنكولن يقرر حق الشعوب في اختيار ما ترضى من الحكومات. . . ولسوف يتخذ أهل الجنوب في غد من أقواله حجة عليه؛ يوم يهمون بالانسلاخ من الاتحاد وهو يأبى عليهم ما يبتغون، ويعمد إلى الحرب فيصليهم ناراً حامية ويسفك الدماء ويزهق الأرواح حتى يكرههم على الاتحاد وهم صاغرون!

وتهيأت له الأسباب ليسير في البلاد فيزداد بالناس اتصاله ويستزيد منهم أعواناً له ومحبين. فلقد انتهت وهو في المؤتمر مدة الرئيس القائم أخذت البلاد تنتخب رئيساً جديداً؛ وكان حزب الهوجز الذي كان ابراهام من أفراده قد رشح للرياسة أحد زعمائه ويدعى تيلور. وهل نسى إبراهام تيلور وقد كان رئيسه في الحرب ضد الصقر الأسود؟ على أنه على الرغم من محبته لتيلور يأسف أن يراه ممن يتملكون العبيد على نمط أهل الجنوب. . . ولكن لا ضير الآن فهو ممن لا يريدون أن تزداد ولايات العبيد، كما أنه اقل من منافسة من الحزب الديمقراطي تشيعاً لمبدأ اعتناقه العبيد واضعف منه استمساكا به. . .

اخذ لنكولن يجوب البلاد شرقاً وغرباً ويخطب في الناس مؤيداً رجل حزبه؛ فكان إذا قام في جماعة لم يروه من قبل جذب إليه الأنظار بطول قامته وغرابة ملامحه، فإذا أطلق العنان لكلامه سرت في الجموع منه روح عجيبة لا يدرون كنهها وإن أدركوا فعلها. . . ورأوا عينيه تلتمعان حتى ما يعرف الناس أنهم رأوا مثلهما قبل، وأبصروا في ملامحه معاني ابلغ من كل كلام، واعمق أثراً من كل حجة. . . والخطيب ينتقل بهم من مثل إلى مثل ومن حكاية إلى حكاية؛ ثم يرسل الجملة بين حين وحين، فإذا هم يضحكون ملء نفوسهم؛ وهو في حماسته يشمر ردني حلته ويفعل مثل ذلك بقميصه. ولقد يحل رباط عنقه أو ينتزعه من موضعه كأنه مقبل على مبارزة! ولا يكاد يفرغ من خطابه حتى يهرع الناس إليه متدافعين بالمناكب لكي يزدادوا نظرا إليه من كثب. . . وظفر تيلور بالرياسة، وعرف لإبراهام يده وحسن صنيعه. . .

وكان مما صادفه في تجواله هذا أن استمع في بوستن إلى خطبة من أقوى الخطب التي وجهت ضد امتلاك العبيد، وقد ألقاها رجل من كبار الداعين إلى التحرير، هو سيوارد ذلك الذي سيكون له في غد شأن في هذا الأمر مع لنكولن حين يهم بتأدية رسالته. استمع لنكولن إلى الخطبة في بوستن واستشعرتها نفسه، وكان مما عقب به عليها قوله: (أعلن أنك محق. لقد آن أن نطرق معضلة العبيد وان نلقي إليها من اهتمامنا بأكثر مما كنا نفعل من قبل)

وفي عودته إلى وشنجطون أخذ يعضد حركة أخرى كانت موجهة ضد العبيد على يد داعية آخر من دعاة التحرير، هو ولت الذي كان يدعو بكل قواه إلى منع انتشار العبيد في الأراضي التي تستخلص من المكسيك؛ وفي المؤتمر تقدم لنكولن يطلب القضاء على العبودية في ولاية كولومبيا وفي عاصمة البلاد، وكان في مقترحه عادلا يجمع إلى العدالة الكياسة وبعد النظر، ولكن ذلك المقترح وا أسفاه قد حيل بينه وبين أن يكتسب الصفة الشرعية إذ عمل رجال المؤتمر على تأجيله مخافة أن يثير من الجدل ما لا يحبون، حتى أوفى دور الانعقاد على الانتهاء فاعتذروا من عدم النظر فيه على الرغم مما بذله لنكولن من جهود وما أنفقه من حيلة. . .

وانقضت أيام ذلك المؤتمر، وهو المؤتمر الثلاثون في تاريخ الولايات وعاد لنكولن وهو يخطو إلى الأربعين ليعيش من جديد في سبرنجفيلد. . .

عاد ابراهام إلى سبرنجفيلد وهو يحس بينه وبين نفسه مرارة الهزيمة في السياسة، فلقد خذله رجال المؤتمر في مقترحه كما رأينا وأعرضوا عن خطبته التي وجهها ضد الحرب في تكساس، تلك الخطبة التي لامه عليها الكثيرون من رجال حزبه حتى هرندن نفسه احب أصحابه إليه

لذلك انصرف عن السياسة وعاد من جديد إلى المحاماة؛ بيد أن رجال حزبه يزينون له أن يطلب منصباً رسمياً ويشيرون إلى حقه في ذلك وهو من جانبه لا يحجم فيطلب إلى الرئيس أن يهيئ له منصباً ثم يزيد فيطلب منصباً معينا لا يلبث أن ينافسه في السعي إليه آخرون حتى يفلت من يده، ويريد الرئيس أن يجامله فيعرض عليه منصباً غيره؛ ولكن زوجه تقف بينه وبين هذا المنصب، وتصر على موقفها معلنة أنها لن تقبل لزوجها عملا يعود بهما إلى الأدغال حيث كان مقر ذلك العمل واحدا من تلك الأصقاع الداخلية؛ ويرفض ابراهام المنصب آخر الأمر. وهكذا نرى زوجه للمرة الثانية حريصة على أن توليه القبلة التي لا ترضى له غيرها قبلة. . .

وكانت المحاماة وظيفته الطبيعية إذا فرغ من السياسة إلى حين؛ فما باله يريد أن يتنكب طريقه ويستبدل بعمله عملا آخر لا يتصل بطبعه ولا يستقم مع خلفه؟ ما باله يريد أن يحيد عن الغاية وقد قطع في سيره إليها شوطاً ليس باليسير؟ ترى ماذا كان يحدث لو أنه كان غير وجهته واخذ له غاية غير غايته؟ ولكن الدهر يضمن به ويدخره لغد ويأبى أن يغير تاريخ قومه بطمس رسالته. . .

عاد من السياسة إلى المحاماة عودة ظن الناس معها أنه يقرب السياسة بعد ذلك؛ وكان قد ترك العمل كله لصديقه هرندن؛ وهو اليوم في المحاماة أعظم خبرة من ذي قبل وأكثر معرفة بأحوال الناس وشئون حياتهم

وكان من أبرز صفاته سرعة أُلفته للمواقف الجديدة في حياته، وترك مواضيها حتى تبعثها الأسباب. لذلك أقبل على المحاماة إقبالا لا يظن امرؤ معه أن قد كانت له صلة بمهنة سواها، وكأن العمل في السياسة لم يكن إلا عارضاً مر وانقضى فليس إليه رجعة. . . هذا والسياسة مستكنة في نفسه ومعضلة العبيد في أعماق وجدانه تنتظر أول صيحة لتبرز من جديد وهي أعظم قوة واشد وضوحا واكثر اقتراباً من الغاية. . .

وضاق ابراهام ذرعا بما تثيره زوجه من عوامل الشقاق فهي ما تفتأ تريه التبرم والسخط وتأخذ بألوان من العنف يوشك أن ينفذ لها صبره ويطيش حلمه، لولا أنه يعود بالسبب على مزاجها الحاد؛ وإن كان ليسأل نفسه بين حين وحين أهي مغضبة عليه حانقة لما أصاب من فشل في السياسة، فما تزال تتعلق بأوهى الأسباب لمجادلته ومغاضبته وقد صغر في عينها وهان لديها شأنه؟. . . ولكنه يحس من زوجه أنها على شغفها بتعنيفه تضمر له المحبة والإعجاب كعهده بها فيطمئن قلبه ويرد الأمر في هذا الشقاق إلى ما يعرف من طباعها ولكن الشقاق متصلة حلقاته وإن وهت دواعيه؛ والمدينة أضيق في عينه اليوم منها قبل، وهو ابن الإحراج والغابات والبقاع المترامية؛ وهو الذي لم يألف الاستقرار في موطن. لذلك عود على أن يعمل في المحاكم المتجولة فيقضى اشهراً بعيدا عن المدينة وعن بيته، يتبع المحكمة أينما سارت، إذ كانت المحاكم يومئذ في تلك الأصقاع هي التي تذهب إلى الناس!

وبرزت في المحاماة مواهبه من جديد وظهرت خلاله، وأخذ ينشر مبادئه بالعمل لا بالقول. جعل الحق رائده والصدق شعاره كما جعل مرد كل شئ عنده إلى معاني الإنسانية والفضيلة لا إلى أصول القانون وملابساته. وليس معنى ذلك أنه أهمل جانب القانون كلا إنما كان يهمل جانب القانون إذا أدت ملابساته إلى التعمية وإظهار الباطل في زائف من ثياب الحق؛ ولذلك جعل الفضيلة فوق القانون، والصدق فوق المهارة في الحوار واللباقة في المجادلة. وكان يحث أصدقاءه من المحامين ومحبيه من الناشئين على ألا يفرطوا في جنب الفضيلة قائلا في صراحة وفى بساطة: أن هناك رأيا شائعاً في الناس مؤداه أن المحامي رجل يتهاون عادة في حق الأمانة؛ ولذلك فلا بد من أن يتمسك المحامي بالأمانة فيما صغر أو كبر من الأمور لكي يدرأ تلك التهمة الشنعاء عنه وعن طائفته. ومن عباراته الشهيرة في ذلك قوله: (يجب أن تثبت في المهنة روح الفضيلة لكي تطرد تلك الروح الأدنين) وقوله ينصح أحد الناشئين: (أعمل على أن تكون محامياً أميناً. فإذا لم تستطيع أن تكون أميناً وأنت محام فخير لك أن تكون أميناً وألا تكون محامياً)

أما عن مسلكه في معاملة الناس فظل هو هو الرجل المتواضع القنوع. كان يرضى بالقليل من الأجر إذ كان يعتبر طلب الأجر الباهظ من اكبر آثام المهنة. ويذكر أنه دافع مرة عن حق رجل في مبلغ ستمائة دولار ولم يتقاضه أجراً على ذلك سوى ثلاثة ونصف! ويذكر أيضا أنه لم يتفق على الأجر مرة. فلما ربح القضية أرسل إليه موكلوه خمسة وعشرين دولاراً، فرد إليهم عشرة منها قائلاً: أن ما بقى هو ما يستحقه!

وكان أينما حل يأمر القلوب بسجاياه، فهو لا يتكلف ما ليس له. ولذلك كان يخالط الناس كأنه أحدهم، يضاحكهم ويلاطفهم ويسرى عنهم بأقاصيصه، والناس يفطنون إلى عذوبة روحه وطيب قلبه ويقظة وجداته، فيفرحون أن عرفوه ويحرصون اشد الحرص على مودته. ولا فرق عنده بين غنيهم وفقيرهم أو بين كبيرهم وصغيرهم، حتى الصبية كان يغمرهم بعطفه فيذهب أحيانا إلى جماعاتهم يتفرج على ألعابهم لحظة، ثم إذا هو بينهم طفل كبير. ولا عجب فقد كان قلبه الكبير مليئاً بمعاني الإنسانية في نسقها الأعلى. وتلك لعمري هي العظمة الحق التي تعمر قلوب بعض البشر فتسمو بهم عن بشريهم وهم بين الناس يعيشون كما يعيشون

وكان في لمحكمة كما كان في خارجها الرجل المتواضع العف يدخل وجيوبه منتفخة بأوراقه، وقبعته ثقيلة بما حوت، لا يعرف أبهة المظهر وقد سلم له الجوهر، ولا يدرى ما التطاول والتعاظم وقد عظم حتى صارت العظمة هي كما يفعل!

كان الصدق في الدفاع أول وسائله في الإقناع. وقد يتبين له أثناء دفاعه أن الحق قد ألبس عليه بالباطل فيترك القضية لأنه لا يستطيع أن يلائم بينها وبين طبعه، أو أن يرفعها إلى مستوى حماسته وصدق شعوره. على أنه ما كان ليفعل ذلك لو أنه استطاع. وكان المنطق السليم والإنصاف بعد ذلك أدواته ووسائله؛ يضاف إليهما الدراسة الدقيقة لما ينهض له، والإحاطة بجميع تفاصيله. هذا إلى ما امتاز به من صفاء الذهن صفاء يساعده على تبين الطريق إلى غايته في يسر ووضوح، حتى ما يلتوي عليه امرأ ويغرب عن ذهنه حادث

وعرف عنه فيما عرف الأناة حتى لقد كانت تغضب منه زوجه وترميه بالبلادة. وكثيراً ما تبرم صديقه هرندن وتململ لأناته. فانظر إلى إبراهام يسأله أن يأتيه بمبراة وسكين فإذا أحضرهما قال له: أن سلاح تلك المبراة أقصر وأحد ولعلك تظنها بذلك انفع من السكين إذ هي اسرع، ولكن أيتهما أبعد من الأخرى غوراً إذا نفذتا في جسم؟ ويقتنع صاحبه بعدها أن التأني في الأمور أبعد في سير الأمور غوراً، ولا يشتكي بعد من أنانه ويطيق معه صبراً!

وكان مما يهابه منه المحامون تهكمه، فهو يعمد في دفاعه أحياناً إلى التهكم اللاذع فيزلزل به قدمي خصمه حتى ليذهل عن رشده بين ما ينبعث من جوانب القاعة من الضحكات. . .

وكان إذا جاءه أحد الناس يطلب إليه المدافعة عنه استفهمه حتى يستقصي خبره، وهو على طيبة قلبه يقرأ في وجه محدثه إمارات الكذب إذا هم أن يكذب، فما يزال به حتى يرده إلى الصدق في مهارة دون أن يسيئه في شعوره! فهو وإن لم يك من الماكرين لا يقدر أحد أن يمكر به. فإذا جاء دور الأجر طلب إلى موكله أن يدفع ما يستطيع. فإن كان موكله مملقاً فكثيراً ما كان يكتفي من الأجر بالثواب وبالجميل يغرسه في قلبه. ذلك ما حدث حين قام يدافع عن ابن متحديه القديم ارمسترنج وقد اتهم في جناية فانه لم يتقاضه على تبرئته أجراً إلا المودة

(يتبع)

الخفيف