مجلة الرسالة/العدد 250/أبي!!

مجلة الرسالة/العدد 250/أبي!!

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 04 - 1938



للأديبة بهية فرج الله زكي

أبي! سلاماً من وراء دجلة! سلاماً عليك من قلب وحيدتك! سلاماً من قلب جريح! سلاماً على الروح السابح في لجة الأبد، سلاماً على الجسد الهامد في التراب!

أبي! لقد مات أبي، وطار البرق الحزين ينعى بقية الأمل إلى القلب الحزين. . مات أبي، وفي مصر خمدت جذوة حياته الذاكية، فانطفأ في العراق مصباح رجائي المشتعل. . مات، وقد كان وهو حي رسول البسمات إلى الثغور، فأصبح وقد مات رسول الدموع إلى العيون

أبي! حتى في ساعة الموت لا أراك! وفي ساعة الوداع لا اطبع على جبينك القبلات، وفي ساعة الرحيل إلى المثوى البعيد، يحول دوني ودونك البحر المائج والبلد السحيق!

أبي! يا منى النفس، ويا روحا ضاقت بها حدود الأرض فطلبت فسحة الحياة في السماء. لماذا استسلمت للكرى فنمت نوم الأبد؟ لماذا تركتني وحيدة وكنت بك جمعاً لا يخذل. . صوتي يملأ الفضاء، وتجاوب أصداءه الأرض والسماء. ولكنى لا اسمع جواباً، فأين أبي؟

أبي! كنت تستلهم السماء خبر الغيب، فهل قرأت في لوح الأجل موعد هجرتك من دنياك الفانية إلى عقباك الباقية، فبكيت حين تحرك بي القطار، وأنت الرجل الجلد الذي يسخر بالعواطف، وجريت مع القطار وأنت الرجل الرزين الذي تخضع جوارحك أبداً لعقلك الكبير، واتبعتني النظر الحائر وما حيرك الدهر المضطرب بالحادثات. . . بلى لقد أحسست بالموت فكتمت سر الموت عن الأحياء

أبي! لأنك تحب العراق آثرت الرحيل إلى العراق؛ البلد الذي لم تبخل عليه بفلذة كبدك، البلد الذي خلت فيه حياة خصيبة لأملك الروحي. . . فلماذا تركتني في وطن قلبك ونزحت أنت إلى وطن الخلود

أبي! لن أنسى ما حييت رسالتك، رسالة المحبة والسلام، وسأظل ذاكرة إلى الأبد ما سطرته إلى يدك وأنت تعالج الموت: (عاشري الناس بروح المحبة. كوني قدوة حسنة، ارفعي الفوارق الموجودة بين الناس. . . إننا كلنا أوراق أغصان شجرة واحدة. . .)

أبي! سأعيش كما عشت بهذه المبادئ، وسأموت لها. وإذا كان الوفاء هو دين الميت على الحي، فان ديني الذي لا أمطله جهاد كجهادك، ودعوة إلى الحب كدعوتك، وذكرى طيبة ترضيك، وعمل في سبيل الإنسانية يرضى الله

أبي! سلام عليك في الذاهبين، سلام على قبرك بين قبور المخلصين، سلام على وحيدتك الجريحة، سلام على بغداد التي أحببتها وسأحبها من أجلك!

بهية فرج الله زكي

مدرسة بمدارس العراق