مجلة الرسالة/العدد 253/القصص

مجلة الرسالة/العدد 253/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 05 - 1938



مطالعات في (ألف ليلة وليلة)

عبد الله البري وعبد الله البحري

قصة فلسفية دينية

للدكتور حسين فوزي

إنني أراه هذا الصياد المعدم وقد عاد من صيده فارغ الجعبة ينتظره بالبيت تسعة عيال وأمهم التي وضعت في هذا اليوم بالذات مولودها العاشر. أراه في عودته واقفاً بباب الخباز وسط الزحام وكان (وقت غلاء، ولا يوجد عند الناس من المؤن إلا القليل في تلك الأيام)، يرمق الأرغفة المتراصة بنظر زائغ، ويستعبر رائحة (العيش السخن) تشتهيه نفسه. أراه ماثلاً أمامي هذا الصياد (الغلبان) خرج صباح اليوم يلقي الشبكة (على بخت المولود الجديد) فلا تصيد إلا رملاً وحصى وأعشاباً. وهو يتساءل (كيف يخلق الله هذا المولود من غير رزق) وقد حفظ من أقوال الأقدمين: (من شق الأشداق، تكفل لها بالأرزاق، فالله تعالى كريم رزاق)

وإذا بالخباز يناديه ويسأله إن كان يطلب خبزاً. ثم يلح عليه في أن يحمل منه ما يريد فهو صابر عليه حتى يأتيه الخير. ويرضى الصياد على شريطة أن يقدم شبكته رهناً، فيرفض الخباز احتجاز الشبكة التي يقوم عليها أود الصياد، ويعطيه خبزاً بعشرة أنصاف فضة، ويقدم له عشرة أنصاف فضة (ليطبخ بها طبخة). على أن يجيئه بسمكة في الغد.

وفي اليوم التالي يخفق في صيده كما أخفق في اليوم السابق، فيخجل أن يقف بباب الخباز. بل هو يعجل بخطاه أما حانوته ولكن الخباز يناديه قائلاً (يا صياد، تعال خذ عيشك ومصروفك فإنك نسيت). ودام الحال على هذا أربعين يوماً حتى سئم الصياد هذه الحياة، وود أن لم يكن المخبز في طريقه إلى البحر حتى لا يضطر إلى المرور بالخباز الكريم. ولكن زوجه تشجعه على المضي إلى البحر، وتشكر الله الذي قيض لهم هذا المحسن

ويذهب الصياد إلى البحر في اليوم الواحد والأربعين وهو يدعو الله أن يرزقه (ولو بسمكة واحدة يهديها للخباز): وإذا بالشبكة متثاقلة يسحبها في مشقة. حتى إذا هي عادت إليه ألفاه تحمل. . . حماراً ميتاً! وهرب من الرائحة الكريهة إلى ناحية أخرى من الشاطئ. وتثاقلت عليه الشبكة أكثر من المرة السابقة، حتى إذا ما جذبها إليه خرج منها رجل حسبه الصياد (عفريتاً ممن اعتاد سليمان أن يحبسهم في القماقم يرمي بها إلى البحر). وصاح الصياد:

- الأمان، يا عفريت سليمان!

فيجيبه الرجل:

- تعال يا صياد، لا تهرب مني فأنا آدمي مثلك. خلصني لتنال أجري.

يخلصه الصياد ويعلم من أمره أنه ليس عفريتاً من الجن. فيسأله عمن رماه في البحر، ويجيبه بأن البحر مقره ومثواه. فهو من (أولاد البحر) وقع بالشبكة صدفة، وكان بوسعه أن يقطعها ليخلص نفسه، لولا أنه (راض بما قدر الله). ويسأل الصياد أن يعتقه (ابتغاء لوجه الله). ويتفق وإياه أن يجتمعا في ذلك الموضع كل يوم، فيأتيه الصياد بفواكه البر (وعندكم منها العنب والتين والبطيخ والخوخ والرمان وغير ذلك) ويأتيه هو (بمعادن البحر من مرجان ولؤلؤ وزبرجد وزمرد وياقوت وغير ذلك).

ويقرآن الفاتحة، ويخلصه الصياد من الشبكة ثم يتفقان أن ينادي الصياد عليه من البر كلما أراد، قائلاً (أين أنت يا عبد الله يا بحري!) فيلبي.

- والآن ما اسمك أيها الصياد؟

- اسمي عبد الله

- أنت إذن عبد الله البري، وأنا عبد الله البحري. انتظر حتى آتي لك بهدية

ويختفي عبد الله البحري في الماء هنيهة تبدو لعبد الله البري كأنها دهر. ويتأسف على تركه هذا المخلوق يفلت من يديه، وكان في استطاعته أن يأخذه إلى المدينة يعرضه في الأسواق، ويدخل به (بيوت الأكابر)

ويعود عبد الله البحري باللؤلؤ والمرجان والزمرد والياقوت ملء اليدين. ويعتذر لأخيه عبد الله البري عن عدم تمكنه من أن يحمل اله أكثر من ذلك. ولو أن (عنده مشنة لملأها له) ويتواعدان على اللقاء في الأيام التالية

وغدا عبد الله البري رجلاً واسع الثروة بفضل صداقته لسميه البحري. وقد أخفى سره إلا عن الخباز الذي أحسن إليه في عسره. وراح يقاسمه الجواهر البحرية ولكن هذه الثروة المفاجئة تستثير شكوك الناس. وينتهي الأمر إلى أن يتهمه شيخ الجوهرية بسرقة حلي ابنة الملك. ويقتاده الحرس إلى القصر، فتنكر الأميرة أن هذه جواهرها. وترسل إلى والدها من يقول له بأن بعض اللآلئ أجمل من لآلئ عقدها. فيغضب الملك وينهر شيخ الجوهرية وأتباعه. فإذا اعتذر الرجل بأن (الصياد كان فقيراً فاستكثرنا عليه هذا الغنى المفاجئ) صاح الملك فيه وفيمن حوله: (أتستكثرون النعمة على مؤمن؟ اخرجوا لا بارك الله فيكم)

وسأل الصياد عن قصته فسردها عليه. وهنا يطأطأ الملك الحكيم رأسه هنيهة ثم يرفعه قائلاً:

- يا رجل هذا نصيبك. ولكن المال يحتاج إلى الجاه، وأنا أسندك بجاهي

ثم يزوجه ابنته ويقيمه وزيراً له، ويحنو على أطفاله العشرة وتكون زوجة الصياد موضع تكريم الملكة (فتنعم عليها، وتجعلها وزيرة عندها)

وغداة الزواج يطل الملك من النافذة فيرى وزيره وصهره عبد الله حاملاً على رأسه (مشنة) ملأى بالفواكه فينكر عليه ذلك، ويجيبه صهره بأن لا قبل له بإخلاف ميعاد صديقه عبد الله البحري، خصوصاً في الظرف الحاضر إذ يحق له أن يتهمه بأن (إقبال الدنيا عليه، قد ألهاه عنه)

يحافظ عبد الله البري على عهد صاحبه البحري، ويواصل قسمة الجواهر بينه وبين صاحبه الخباز. ثم ينتهي إلى التحدث بشأنه مع الملك الذي يقول له (أرسل إلى صاحبك الخباز وهاته لنجعله وزير ميسرة)

وربما حسبت القصة منتهية عند هذا الحد، والواقع أن مجرد استقرار الحال قد يؤذن بختامها. فعبد الله البري يذهب كل يوم بسلة الفواكه يستبدلها بجواهر البحر. وحين تخلو البساتين من الفواكه يحمل إلى صاحبه الزبيب واللوز والبندق والجوز والتين. ويدوم الحال على هذا عاماً تتطور القصة في آخره تطوراً جديداً أسرده عليك

جلس عبد الله البري ذات يوم على شاطئ البحر يتحدث إلى صديقه عبد الله البحري فيبادره هذا قائلاً:

- يقولون يا أخي إن النبي مدفون عندكم في البر، فهل تعرف قبره؟ - نعم، فهو في مدينة يقال لها طيبة

- وهل يزوره أهل البر؟

- نعم.

- هنيئاً لكم يا أهل البر بزيارة النبي الكريم. فمن زاره استوجب شفاعته. هل زرته أنت يا أخي؟

- لا، فقد كنت فقيراً لا أجد ما أنفقه في الطريق. ولم أصبح غنياً إلا منذ عرفتك. والآن وجبت علي زيارته بعد أن أحج إلى بيت الله الحرام. وما منعني عن ذلك إلا محبتي لك

- وهل تفضل محبتي على زيارة قبر رسول الله الذي يشفع لكم يوم العرض على الله؟

- إن زيارته والله مقدمة عندي على كل شيء. وأطلب منك إجازة أزوره هذا العام

- أعطيك الإجازة بزيارته. وإذا وقفت على قبره فأقرئه مني السلام. وعندي أمانة فادخل معي في البحر حتى آخذك إلى مدينتي وأدخلك بيتي، وأعطيك الأمانة لتضعها على قبر الرسول

- يا أخي، أنت خلقت في الماء، ومسكنك الماء فهو لا يضرك. فهل إذا خرجت منه إلى البر يصيبك ضر؟

- نعم، يجف بدني وتهب علي نسمات البر فأموت

- كذلك أنا، خلقت في البر ومسكني البر. فإذا دخلت البحر يدخل الماء في جوفي ويخنقني فأموت

- لا تخف، فإني آتيك بدهان تدهن به جسمك فلا يضرك الماء، حتى لو قضيت فيه بقية عمرك

وعبد الله البري رجل كله إيمان واستكانة. فهو راض أن يأتيه بذلك الدهان يجربه. ويحمل عبد الله البحري (المشنة) ويغوص في البحر. ثم يعود بها ملأى (شحماً مثل شحم البقر، لونه أصفر كلون الذهب، ورائحته زكيه). ويخبر صاحبه بأنه شحم نوع من الأسماك يقال له (الدندان، أعظم أصناف السمك خلقة)

- وهو أشد أعدائنا علينا، وأكبر من أي دابة من دوابكم في البر. ولو رأى الفيل لابتلعه

- وماذا يأكل هذا المشؤوم يا أخي؟ - يأكل من دواب البحر. أما سمعت المثل القائل: مثل سمك البحر، القوي يأكل الضعيف؟

- يا أخي، إني أخاف إذا طوفت معك في البحر أن يصادفني هذا النوع فيأكلني

- خفف عنك، فإنه متى رآك عرف أنك ابن آدم فخاف منك وهرب. فالدندان أشد ما يكون خوفاً منكم. لأن شحم ابن آدم سم قاتل له. بل ليكفي أن يسمع صياح ابن آدم فيموت هلعاً

(وتوكل عبد الله البري على الله، وخلع ملابسه ودفنها في رمال الشاطئ. ثم دهن نفسه بشحم الدندان وغاص في الماء. وفتح عينيه ومشى يميناً وشمالاً والماء لا يضايقه. وجعل ينزل إلى القرار ثم يرتفع بكل سهولة)

واندفع عبد الله البحري أمامه دليلاً له في تلك النزهة البحرية النادرة. فرأى عن يمينه وشماله جبالاً. وشاهد أصنافاً عديدة من الأسماك (البعض كبير، والبعض صغير. منها ما يشبه الجاموس، ومنها ما يشبه الكلاب، وشيء يشبه الآدميين. وكلما قرب عبد الله البري من نوع هرب هذا منه. فيسأل صاحبه:

- يا أخي، ما لي أرى كل هذه الأسماك تهرب منا؟

- مخافة منك يا أخي. فجميع ما خلقه الله يخاف ابن آدم

ووصلا إلى جبل عال، فمشى عبد الله البري بجانب الجبل. وإذا بصيحة عظيمة اتجه إلى مصدرها بنظره فرأى شيئاً أسود منحدراً نحوه من الجبل، وهو (أكبر من الفيل والجمل). وسمع صديقه عبد الله البحري ينادي عليه:

- دونك وهذا الدندان، فهو متجه إلينا في طلبي ليأكلني. صح به!

وصاح عبد الله البري فزعاً وطائعاً في آن واحد. فإذا بالدندان يقع ميتاً. يتعجب عبد الله البري ويقول: (سبحان الله! لم أضربه بسيف ولا بسكين. وهاهو ذا على ضخامة جسده لا يتحمل صيحتي!)

ويدخل الصاحبان مدينة (بنات البحر)، فيهتم عبد الله البري بأمر هذه الإناث لا ذكور لها ويتساءل كيف تستطيع أن تخلف نسلاً

- إنهن منفيات في هذه المدينة بأمر ملك البحر. ولا يمكنهن الخروج من هذا المكان، أو تلتهمهن دواب البحر

- هل في البحر غير هذه المدينة؟ - كثير

وجعل عبد الله البري (يتفرج على عجائب البحر). وقد رأى لبنات الماء (وجوهاً كالأقمار، وشعوراً كالنساء. ولهن أيد وأرجل نابتة في بطونهن، وذنب كذنب السمك امتد من مؤخرتهن). وكان هذا شأن رجال المدن البحرية

- يا أخي، إني أرى الإناث والذكور مكشوفي العورة.

- لأن أهل البحر لا قماش عندهم

- وكيف يصنعون إذا تزوجوا؟

- أهل البحر - فيما عدا المسلمين منهم - لا يتزوجون. وكل من تعجبه أنثى. . .

ومازال عبد الله البحري بصاحبه يدور به على المدائن وأهلها في أغوار البحر مدى ثمانين يوماً. فيسأله عبد الله البري

- يا أخي، هل بقيت في البحر مدائن؟

- لو كنت فرجتك ألف عام، كل يوم على ألف مدينة، وأريتك في كل مدينة ألف أعجوبة، لما أظهرتك على قيراط من مدائن البحر وعجائبه.

- يكفيني هذا، فقد سئمت أكل السمك، وأنت لا تطعمني صباحاً ومساء إلا سمكاً طرياً، لا مطبوخاً ولا مشوياً. فرجتني على مدائن كثيرة، فأين مدينتك منها؟

ويبلغان مدينة عبد الله البحري، فيقوده إلى مغارة ويقول له:

- هذا بيتي. وكل من أراد أن يكون له بيت ذهب إلى الملك وعين الموضع الذي اختاره مسكناً. فيرسل معه الملك طائفة من السمك تعرف بطائفة (النقارين)، لأن لها مناقير تفتت الجلمود

وإذ يدخلون البيت، تتقدم ابنة عبد الله البحري وتبادر أباها بالسؤال، وقد نال منها العجب أن ترى مخلوقاً لا ذنب له:

- يا أبي، ما هذا الأزعر الذي جئت به؟

- هذا صاحبي البري يا بنيتي، من كنت أجئ لك من عنده بالفاكهة البرية. تعالي سلمي عليه

وتتقدم إليه الغادة، وتسلم عليه (بلسان فصيح، وكلام بليغ) وتقدم له القرى، سمكتين كبيرتين (كل واحدة منهما مثل الخروف) فيأكل متبرماً بهذا السمك النيئ

وتحضر امرأة عبد الله البحري، وهي (جميلة الصورة. ومعها ولدان، كل ولد في يده فرخ سمك يقرش فيه كما يقرش الإنسان في الخيار). وما أن رأت عبد الله البري حتى صاحت:

- أي شيء هذا الأزعر؟

وتتقدم هي وولداها، يطيلون النظر إلى مؤخرة عبد الله البري ويقولون (أي والله إنه لأزعر) ويتضاحكون طويلاً حتى يضيق ذرع عبد الله البري بهذا الضحك فيلتفت إلى صاحبه ويقول:

- يا أخي، هل جئت بي إلى هنا سخرية أولادك وزوجك؟

ويعتذر عبد الله البحري عنهم مؤكداً له أن المخلوق الذي لا ذنب له في البحر نادر. وإنه إذا وجد واحد من غير ذنب فإنهم يأخذونه للسلطان ليضحك عليه. فلا تؤاخذ هذه المرأة وهؤلاء الصغار، فعقولهم كما تعرف ناقصة)

وبينما هم في الحديث يفد عليهم عشرة أشخاص كبار شداد، ويقولون لعبد الله البحري (لقد عرف الملك بأنك جئت بأزعر من زعر البر، وهو يريد أن يراه حالاً)

ويأخذونه إلى الملك فيتلقاه ضاحكاً وهو يقول (مرحباً بالأزعر). وجعل من في حضرة الملك يتضاحكون مرددين (أي والله إنه لأزعر!)

ويقص عبد الله البحري على الملك قصة صاحبه، ثم يستأذنه في أن يعود به إلى البر (لأنه سئم أكل السمك نياً، ولا يحب أكله إلا مطبوخاً ومشوياً). ويأذن الملك له بالرحيل بعد أن يزوده بهدية عظيمة من درر البحر وجواهره

ثم يعود به عبد الله البحري إلى مغارته، ويسلمه الهدية التي يرجو أن يوصلها إلى قبر النبي، ويصطحبه عائداً إلى البر

وبينما هما في طريقهما وسط الماء، يلتفت عبد الله البري إلى جماعة من أهل البحر يغنون ويرقصون حول سماط ممدود من السمك. فيسأل عما إذا كان عرساً هذا، ويجيبه عبد الله البحري: إنما هو مأتم

- أو إذا مات عندكم ميت تفرحون له، وتغنون وتأكلون؟

- نعم. وأنتم يا أهل البر، ماذا تفعلون؟ - نحن نحزن عليه ونبكي. وتشق النسوة جيوبهن، ويلطمن ويندبن الميت

وهنا يحملق عبد الله البحري في صاحبه البري، ويستأذنه في أن يسترد الأمانة. وعند وصولهما إلى البر يقول له:

- لقد قطعت صحبتك وودك، فلن تراني بعد اليوم

- لم هذا الكلام؟

- ألستم يا أهل البر أمانة الله؟

- نعم

- كيف يحزنكم أن يأخذ الله أمانته؟ وكيف أعطيك أمانة النبي وأنتم إذا أتاكم المولود تفرحون به، وقد أودع الله الروح فيه أمانة. فإذا استردها تندبون وتولولون؟ كلا، ما بي حاجة إلى صحبتكم بعد اليوم يا أهل البر!

ويختفي عبد الله البحري وسط الأمواج

ويعود عبد الله البري إلى صهره الملك يقص عليه ما رأى من عجائب البحار

وقد لبث زمناً طويلاً يذهب إلى الشاطئ ينادي صاحبه عبد الله البحري فلا يلبي النداء

وتنتهي القصة بالصيغة التقليدية إذ تقول بأنه أقام والملك نسيبه وأهلهما في أسعد حال، حتى أتاهم هادم اللذات، ومفرق الجماعات، وماتوا جميعاً. فسبحان الحي الذي لا يموت، ذي الملك والملكوت

أما أن الموت مفرق الجماعات فليس من شك في ذلك. ولو أنه يشترك في هذا مع الحياة ذاتها، فقد تكون الحياة مفرقة الجماعات، ويمتاز الموت عنها بأن تفرقته نهائية لا مرد لها في هذه الدنيا

وأما أن الموت هادم اللذات، فهو أيضا نهاية الآلام. وصاحب أو أصحاب قصص (ألف ليلة) هم آخر من يتكلمون عن اللذات، وعن أن الموت هادمها. فإن أبطال قصصهم يلاقون الأهوال، ويعانون آلام النوى والبعاد والفقر، وغير هذا من متاعب الحياة. نعم إن القصص تنتهي في الغالب إلى خاتمة سعيدة، يحاول المؤلف أن يلقي في روعنا دوامها حتى مجيء مفرق الجماعات وهادم اللذات، إلا أن هذا أمر نشك في صحته كثير الشك

وهذه مسألة ثانوية على أية حال. والأهم لنا أن نكشف عما في قصة (عبد الله البري، وعبد الله البحري) من نفحة دينية عميقة، تجعل لها مقاماً خاصاً بين قصص (ألف ليلة)

فهذا رجل معدم كثير العيال تقول القصة بأنه لا يمتلك إلا شبكته، يروح بها كل يوم إلى البحر. فإن اصطاد قليلاً باعه وأنفق على أولاده بقدر ما رزقه الله. وإن اصطاد كثيراً (طبخ طبخة طيبة، واشترى فاكهة، ومازال يصرف حتى يأتي على آخر ما معه وهو قائل في نفسه: رزق غد يأتي غداً) ويوم تضع زوجته مولودها العاشر يخرج على بركة الله تعالى إلى البحر (على بخت هذا المولود الجديد) فتقول له امرأته (توكل على الله)

يمارس هذا الرجل الفقير وزوجه إذن فضيلة من الفضائل الدينية بإيمان كامل. ولكن التجربة في الولد العاشر كانت شديدة الوقر على الصياد. فقد مضى عليه أربعون يوماً لا يجد في شبكته رزقاً.

وهنا تنتقل بنا القصة إلى طبقة اجتماعية أرقى قليلاً من طبقة الصياد. وتقدم لنا مثلاً جديداً من أمثلة الطيبة والورع في صاحب المخبز الذي يتكفل بأود الصياد وأسرته أربعين يوماً دون تذمر وفي لباقة مؤثرة إذ يؤكد للصياد أنه لا يعطيه إحساناً. بل هو محاسبه يوماً على ما قدم خبز وعشرات فضة، ولكن عندما يأتيه الخير، لا قبل ذلك. ولندع القصة نفسها تتكلم، فتفصح لنا عما انطبعت عليه نفس هذا الخباز من الخير:

(ووقف الصياد ينظر ويشم رائحة العيش السخن. فصارت نفسه تشتهيه من الجوع. فنظر إليه الخباز وصاح عليه: تعال يا صياد. أتريد عيشاً؟ فسكت. فقال له: تكلم ولا تستح فالله كريم. إن لم يكن معك دراهم فأنا أعطيك، وأصبر عليك حتى يجيئك الخير)

ثم انظر إلى امرأة الصياد يشكو لها زوجها أمره مع الخباز فتقول له: الحمد لله الذي عطف قلبه عليك. هل آذاك بكلام؟ فيجيبها: كلا، وهو يقول لي دائماً، انتظر حتى يأتيك الخير. وأنا أسألك، متى يجيء الخير الذي نرتجيه؟ ويكون رد الزوجة: الله كريم. فلا يتردد الصياد في القول: صدقت. ويحمل شبكته إلى البحر في اليوم الأول بعد الأربعين.

فإذا بها تصيد حماراً ميتاً (منفوخاً ورائحته كريهة) فيقول (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) ثم يكاد إيمانه يتزعزع وهو يخاطب نفسه (قد عجزت وأنا أقول لهذه المرأة، ما بقي لي رزق في البحر، دعيني أترك هذه الصنعة. وهي تقول: الله كريم سيأتيك بالخير. فهل هذا الحمار الميت هو الخير؟) ويتوجه في غم شديد إلى مكان آخر مبتعداً عن رائحة الحمار ويلقي شبكته فتحمل إليه الخير كل الخير، في صورة سميه البحري يبادله فاكهة البر بجواهر البحر.

ويقيني أن صاحب القصة لم يختر اسم عبد الله اعتباطاً. وهذا الاسم يعزز ما أنا ذاهب إليه من أن القصة يحركها روح ديني، ويسري في أعطافها إيمان عميق. فلم يختص المؤلف عبد الله البري وعبد الله البحري بهذا الاسم. فهذا الملك يسأل صهره عمن يكون صديقه الخباز وما اسمه، فيجيبه الصياد (اسمه عبد الله الخباز. وأنا اسمي عبد الله البري. وصاحبي اسمه عبد الله البحري) فيقول الملك (وأنا اسمي عبد الله، وعبيد الله كلهم إخوان)

وهانحن أولاء نرى شخصاً آخر من أشخاص القصة - وليس من الطبقة الفقيرة كالصياد، ولا من الطبقة الوسطى كالخباز، بل هو ملك البلاد بالذات - مفعماً إيماناً وثقة بالله، فهو قائل لشيخ الجوهرية ومن جاءوا يتهمون الصياد بالسرقة (يا قبحاء! أتستكثرون النعمة على مؤمن؟ لماذا لم تسألوه أولاً؟ ربما رزقه الله من حيث لا يحتسب. اخرجوا، لا بارك الله فيكم)

وهو القائل بعد سماعه قصة الصياد (يا رجل، هذا نصيبك ولكن المال يحتاج إلى جاه، فأنا أسندك بجاهي) ثم يزوجه الأميرة ابنته

وماذا تتوقع أن يكون اسم الأميرة بعد هذا؟ أم السعود! لو أن كاتباً رمزياً كتب قصة الإيمان لما اختار للأميرة اسماً أفضل من هذا. (أم السعود)، السعود الذي يلمع في طالع المؤمن القانت.

وتعال معي إلى القسم الثاني من القصة، ماذا نرى؟

هذا عبد الله البحري يسأل صاحبه عن قبر النبي ويقول:

(هنيئاً لكم يا أهل البر بزيارة هذا النبي الكريم). ثم يدعو عبد الله البري أن يغوص بصحبته في أغوار البحر ليحمله هدية إلى قبر النبي

وتتجه القصة بعد ذلك اتجاهاً فلسفياً واضحاً لمن يطالع ما وراء السطور. فهذا البحر مظهر من مظاهر الكون تتضاءل حياله الأرض التي نعرفها. وهاهو ذا (الدندان) أكبر أحيائه طرا يأكل من دواب البحر (أما سمعت المثل القائل: مثل سمك البحر القوي يأكل الضعيف؟) حكمة الخالق يصدع بها المخلوق ويخشى عبد الله البري إذا نزل مع صاحبه إلى البحر (أن يصادفه هذا النوع فيأكله). وهنا يكشف صاحب القصة عن مرماه الفلسفي، إذ يؤكد لنا بأن (الدندان) يموت لساعته إذا أكل ابن آدم. وليكف أن يصيح فيه الإنسان صيحة ليموت. أي تأمل ما تميز به الإنسان الضعيف بجسمه، فهو يستطيع بعقله أن يتغلب على المخلوقات الأخرى. وهذا عبد الله البري يسبح في أمواه البحر فيرى جميع الأحياء البحرية تهرب منه. ويسأل صاحبه عن هذا فيجيبه (مخافة منك، لأن جميع ما خلقه الله يخاف ابن آدم)

ويشهد بطل القصة عجائب البحار كما تخيلها المؤلف. وخياله في أغلبه شبيه بتخيلات الشعوب الفطرية التي ترى في آلهتها صوراً مما تشاهده حولها، إنساناً أو حيواناً أو جماداً، ففي هذا البحر الخيالي جبال ووهاد ومدائن. وفيه (شيء يشبه الجاموس وشيء يشبه البقر، وشيء يشبه الكلاب، وشيء يشبه الآدميين)

وخيال صاحب القصة قائم على الـ حسب ما اصطلح عليه الباحثون في نفسية الشعوب الفطرية. فهو يصور بعض الأحياء البحرية تصويراً آدمياً مع تغيير طفيف اقتضته حياتها في الماء: كالزعنفة الذنبية، وتلك الأطراف النابتة من بطونها. ولهذا التصوير أصل من الواقع. وربما سمع صاحب القصة أو رأى نوعاً من الفقم يعرف بالدوجونج لا تزال تعرض بعض نماذجه على شواطئ المحيط الهندي باعتبارها (أبناء البحر وبناته). وقد عرض علي بعض اليمانيين في عدن ذكراً أو أنثى من تلك الحيوانات اللبونة على هذا الاعتبار

وللقارئ أن يفاضل بين قصة (عبد الله البري وعبد الله البحري) وبين قصص (السندباد) - وربما عالجت تلخيصها على هذه الصفحات يوماً - ليرى في هذه الأخيرة خيالاً أغزر مادة وأبرع أسلوباً. وفي رأيي أن الخيال في قصص (السندباد) غاية ينتهي إليها الوصف. بينا هو في قصة (عبد الله) واسطة لغاية هي ما نحن بسبيله من المرامي الفلسفية للقصة

وأود بهذه المناسبة أن أشير إلى قصيدة (شيللر) وعنوانها (الغواص). وفيها يرسم لنا خيال الشاعر (الرومانتيكي) صورة لأعماق البحر من نوع يختلف كثيراً عما نحن بصدده في قصة (عبد الله البحري). إذ يطلق (شيللر) العنان لخياله في أسلوب جمع كافة المميزات الشعرية. بينما ينهج صاحب قصة (ألف ليلة) نهجاً واقعياً مباشراً في وصف عالم البحار.

كأن عبد الله البحري أحد الأدلاء يشرح للسائح عبد الله البري ما تقع عليه باصرته تباعاً

وبرغم هذا الأسلوب الواقعي، يلقي علينا المؤلف درسه الديني من طرف خفي. ويظهرنا على قدرة الخالق بما يسرده علينا من وصف أنواع غريبة من المخلوقات. وإذ يبدي عبد الله البري عجبه لكثرتها، يجيبه عبد الله البحري (وأي شيء رأيت من العجائب. أما سمعت المثل القائل: عجائب البحر أكثر من عجائب البر؟). وهذه حقيقة لا مغالاة فيها، يعرفها كل من درس علم الأحياء

ويدخل الصديقان مغارة عبد الله البحري. وهنا منظر عائلي كله أنس وبهجة. تأمل كيف تتندر الأسرة بالضيف (الأزعر) وانظر إلى دخول ولدي صاحب البيت (وفي يد كل ولد فرخ سمك يقرش فيه كما يقرش الإنسان في الخيار)

فهذه القصة اشتملت على عناصر كثيرة تجعلها في رأيي من أحسن قصص (ألف ليلة وليلة) بل ومن أفضل القصص في آداب العالم. كتبت بأسلوب واقعي يتجنب فيها الكاتب الارتفاع الشعري. وصاحب القصة مع هذا يتدرج بك من عالم الواقع حيث الصياد كثير العيال يكدح لكسب قوته وقوتهم، إلى عالم بين الواقع والخيال حين يقع عبد الله البحري في شباك عبد الله البري، إلى عالم كله خيال حين ينزل الصاحبان إلى أغوار البحر يتجولان في أرجائه دون أن يغير في أسلوبه كأن الأمر عادي، وكأن الصاحبين غادرا البصرة أو مسقط إلى بلاد السند أو زنجبار

والكاتب في هذا لا يغفل عن غرضه الفلسفي الأول: قدرة مبدع الكون، وقوة الإيمان، والخضوع لأحكامه. ومع أنه لا ينسى أن يميز الإنسان على سائر المخلوقات كما رأينا، إلا أنه يلقي عليه درساً كبيراً تختتم به القصة. ذلك حين يغضب عبد الله البحري إذ يسمع بأن الإنسان يبكي موتاه، وهم في البحر يفرحون إذا ما استرد الله أمانته، أي (الروح التي أودعها الجسد).

لا مراء إذن في أن قصة (عبد الله البري وعبد الله البحري) من أولها إلى آخرها تختلج بروح ديني عميق تميزت به عقائد أهل الشرق عن عقائد أهل الغرب. هو روح استكانة المخلوق للخالق، واعتباره الخضوع لأحكامه صورة مثلى للإيمان

ولسنا في حاجة أن نعرف إذا كان صاحب القصة قصد إلى ذلك أو لم يقصد. فأمامنا القصة بنصها في الجزء الرابع من كتاب (ألف ليلة وليلة). وقد حللنا العناصر التي تتألف منها واستخرجنا من بين سطورها ذلك الروح بلا عناء، ودون أن نجد فيها ما يناقض أو ما يضعف الاستنتاج الذي خرجنا به.

حسين فوزي