مجلة الرسالة/العدد 253/مصطفى صادق الرافعي

مجلة الرسالة/العدد 253/مصطفى صادق الرافعي

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 05 - 1938


بمناسبة ذكراه الأولى

في مثل هذا اليوم من العام المنصرم سكن لسان وجف قلم وانقطع وحي. وفقد البيان الملهم والفكر المنير خسارة إنسانية لا يسهل العوض منها ولا العزاء عنها. والرافعي وأمثاله من عباقرة العلم والأدب والفن والمال، ثروة من ثروات الأمم لا تكتسب بالحيلة ولا بالإرث، وإنما هي نفثات من روح الله تنسم على الأنفس المختارة فتجعل طبيعتها بين النور والطين، ومنزلتها بين السماء والأرض، ورسالتها رفع الناس إلى الملائكة بالمجد، وتنزيل الملائكة على الناس بالخير. إذا جاء أجلهم عاد ذلك النور الإلهي إلى مصدره، وهو أشد ما يكون نزوعاً إليه وعلوقاً به؛ ثم لا ينبثق مرة أخرى إلا حين يأذن الله لخليقته أن تهتدي ولأرضه أن تصبح

لذلك كان أسى الأمم الداكرة الشاعرة على نوابغها أسى خالداً يستمر

في ذاكراتها، ويتجدد في ذكرياتها، ثم يتردد على عواطفها كلما صبت

إلى أمام فلم تجد الهداة، وهفت إلى فوق فلم تجد الأجنحة

على أن النابغ في أمم الشرق يعيش وكأنه لم يولد، ثم يموت وكأنه لم يعش. ذلك لأن الحياة فيها لا تزال نوعهاً من السكر الغليظ يذهل الناس عن الوجود أكثر العمر، فإذا أفاقوا - وقليلاً ما يفيقون - عربد بعضهم على بعض!

كذلك عاش الرافعي ومات! وكذلك يعيش أشباهه ويموتون! وما حيلة الزهرة الفواحة إذا أنبتها القدر القاهر في فقار الأرض بين سفي الرمال ولفح السمائم؟

رحم الله الرافعي لقد كان في الكتابة طريقة وحده! وحسب الكاتب مزية ألا يكون لأسلوبه ضريع في الأدب كله. فإذا قيل لك إن الرافعي قديم الأسلوب في التفكير والتعبير فاحمل ذلك على الحسد الذي لا حيلة فيه، أو على الجهل الذي لا حكم معه. وتستطيع أن تتحدى من تشاء أن يدلك على كاتب يترسم الرافعي مواقع قلمه أو قدمه. إنما هي شنشنة من ضعاف الملكة وقاصري الأداة، يرمون من يجيد لغته بالتخلف، ومن يتعهد كلامه بالتكلف، ومن يؤثر أدبه بالمحافظة أسلوب الرافعي يمتاز بالسلامة والسلاسة والإيجاز والعمق. وهذه المزايا نتائج حتمية لاكتمال عدته وغزارة مادته وصفاء ذوقه وذكاء فهمه. وأشد ما يروعك منه قوة الفن وحركة الذهن. فأما قوة الفن فهي الأستاذية التي تخلق المادة، وتصنع القالب، وتضع اللفظ، وتحدد الرسوم، وتوضح الفروق، وتتصرف بمفردات اللغة تصرف المصور البارع بألوان الطيف، وتخيل إليك أن الصناعة طبع والمعانة سليقة. وأما حركة الذهن فهي حركة الغواص الدائب لا يقف عند السطح، ولا يستقر على القاع، وإنما يضرب بيديه القويتين في أغوار البحر، وقد انقطع عن شواغل الناس بالعين والأذن. على أنها حركة الروية لا حركة العبقرية؛ فمعانيه تقطر ولا تفيض، ولكنها على طول الرشح واعتصار القريحة تصبح منهلاً طامي الجوانب صافي المورد

كان يحمل الفكرة في ذهنه أياماً يعاودها في خلالها الساعة بعد الساعة بالتقليب والتنقيب والملاحظة والتأمل، حتى تتشعب في خياله وتتكاثر في خاطره؛ ويكون هو لكثرة النظر والإجالة قد سما في فهمها على الذكاء المألوف. فإذا أراد أن يعطيها الصورة ويكسوها اللفظ، جلاها على الوضع الماثل في ذهنه، وأداها بالإيجاز الغالب على فنه، فتأتي في بعض المواضع غامضة ملتوية وهو يحسبها واضحة في نفسك وضوحها في نفسه. وذلك عيب المروين من صاغة الكلام وراضة الحكمة، كابن المقفع والمتنبي، وبسكال وبول فاليري. ومنشأ ذلك العيب فيهم أنهم يطيلون النظر ويديمون الفكر ويعمقون البحث حتى تنقطع الصلة بين عقولهم وعقل القارئ، وتتسع المسافة بين معانيهم وألفاظ اللغة، فيكتبون وأفهامهم سابقة سبوق الروح، وأقلامهم متخلفة تخلف الجسم. ويزيد في هذا الغموض أن سعة العقل في النوابغ تستلزم ضيق اللسان. فلا ترى الفضول والثرثرة والرغوة والثغاء إلا حيث يضحل الذهن ويقصر النظر وتنزر المادة. والرافعي كان يقتصد في أسلوبه، لأنه ينفق عليه من جهده ومن ذوقه ومن فنه ما يجعله أشبه بومضات الروح ونبضات القلب ونفحات العافية. فهو يفصل اللفظ على قدر المعنى تفصيل (المودة) الفاشية اليوم؛ يقصر ولا يطول، ويضيق ولا يتسع، ولكنه على ضيقه وقصره يظهر الجسم الجميل على أتم ما يكون حسناً وأناقة

وهو بعد ذلك أسلوب جيد التقسيم سليم المنطق، إلا أنه بعيد الإشارة يستسر جماله على القارئ العجلان والفهم البطيء. فإذا روي فيه الناقد المتذوق انكشف له في كل كلمة سر، وطالعته في كل فقرة آية. ولعل النفس الشاعرة لا تجد فيه من أنوثة العاطفة ما تجده النفس المنطقية من فحولة الفكرة. ومرجع ذلك في الرافعي غلبة الفكر على الشعور، وسطوة الفن على الطبيعة. . .

(للكلام بقية)

أحمد حسن الزيات