مجلة الرسالة/العدد 256/التاريخ في سير أبطاله

مجلة الرسالة/العدد 256/التاريخ في سير أبطاله

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 05 - 1938



ابراهام لنكولن

هدية الأحراج إلى عالم المدينة

للأستاذ محمود الخفيف

يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من

سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .

- 13 -

أحس لنكولن ذلك فهو وإن يكن يعرف الذهاب بنفسه يدرك اليوم قد صار له في السياسة مكانة الزعماء، فلقد انتشر اسمه خارج مقاطعة الينوس وتقبله الناس بقبول حسن، فهم يضمرون لصاحبه المودة والإجلال. رشحه رجال الحزب الجمهوري في مؤتمرهم الأهلي أثناء الانتخاب لمركز نائب رئيس الولايات على غير سعى منه إلى ذلك فنال من الأصوات عشرة ومائة وهو بعيد؛ فلما جاءه نبأ ذلك تبسم ضاحكاً وقال: (حسبت أول الأمر أن هنالك رجلا آخر عظيما في مسَّاشوست يدعى لنكولن)

ولقد تألمت نفسه وانكدرت لذلك الحكم؛ تلمح ذلك فيما عقب به عليه، إذا أخذ يقارن حال العبيد يومئذ بما يرجى لهم غداة إعلان الاستقلال قال: (في هاتيك الأيام كان إعلاننا الاستقلال أمراً يعتبره الناس جميعاً مقدساً كما اعتبره ينتظم الجميع؛ أما اليوم فقد هوجم وسخر منه وأوَّل وفق الأهواء، ومزق شر ممزق، حتى لو أنه أمكن أن يبعث صانعوه اليوم من مراقدهم لما أمكن أن يتعرفوه؛ وذلك بما فعلنا من محاولتنا جعل عبودية الزنجي أمراً عاماً أبدياً. فإن جميع قوى الأرض لتظهر كأنها تتحد سريعاً عليه؛ فإله المال (ممون) في أعقابه ومن ورائه الطمع، ثم من وراء هذا الفلسفة، تتلوها جميع نظريات العصر التي تتكاتف جميعاً في سرعة لتؤيد الصيحة ضده. لقد ألقوا به في سجنه بعد أن فتشوه ولم يدعوا في يده أي آلة ينقب بها الجدار؛ وأغلقوا عليه الواحد بعد الآخر أبواباً ثقيلة من الحديد؛ والآن يذرونه في سجنه وعلى بابه قفل من الحديد ذو مائة مفتاح، لا يمكن فتحه إ أن تتفق على ذلك كل هاتيك المفاتيح؛ وإنها لفي أيدي مائة من الرجال مختلفين مبعوثين في مائة مكان مختلفة سحيقة؛ وإنهم ليفكرون فوق ذلك ليتبينوا أي اختراع في كافة نواحي العقل والمادة يمكن أن يضاف إلى ذلك ليكون استحالة هربه أكثر توكيداً مما هو عليه.

وحق لأبراهام أن ينطلق لسانه بمثل هذا الغضب، وأن تجزع نفسه لهذا الحكم فإنه ليراه ينطوي على كثير من المعاني وكلها على غير ما يحب لحزبه الوليد وللقضية الكبرى التي يتوقف على مآلها مصير البلاد. أليس يقضي هذا الحكم بأن المجلس التشريعي للولايات هو الذي يحدد من غير قيد ماذا تكون عليه حال الولايات من حيث مسألة العبيد؟ وإذاً فما قيمة اتفاق سوري، ثم ما نصيب هذا الحزب الجديد من القرب أو البعد من روح القانون وهو الذي يجعل اتفاق سوري القاعدة التي يصدر عنها في أعماله؟

إنها في الحق لمعضلة؛ ولكن هل كان يضيق هذا القلب الكبير بالمعضلات؟ وهل يتخاذل إيمانه لدى الصعاب وهو الذي يفل الصعاب وينهض لجسيمات الأمور؟ كلا، إنه ليحس قوة نفسه تعظم بقدر ما تعظم الشدائد. وهو كغيره من أولي العزم من الرجال لا يتذوق حلاوة النصر إلا في مرارة المقاساة. . .

وظلت الأحداث تأتي بعضها في أثر بعض، فهذه كنساس تتوثب فيها الفتنة ويتحفز الشر، راحت تضع لها دستوراً فأخذت تختار من رجالها من يعقدون مؤتمراً لهذا الغرض، فانظر كيف يحال بين الأحرار وبين أمانيهم بالقوة المادية فيجري الانتخاب فيها على صورة تشعر النفوس البريئة بالألم اللاذع أن ترى الأغراض الوضيعة تنزل فيها بالعقلاء من البشر إلى مرتبة البهائم، ويبيت الناس وكأنما لم يكن الوجدان يوماً ناحية من نواحي نفوسهم. فهم في ضراوتهم وبهتانهم يظهرون في مظهر تخجل منه الآدمية التي تشعر بحقيقتها

ويأبى الرئيس بيوكانون إلا أن يعتمد قرار المؤتمر فيقبل الولاية في الاتحاد على أنها إحدى الولايات التي تأخذ بنظام العبيد كما جاء في دستورها! ولشد ما تألم لنكولن لهذا، ولكنه كان عنده ذلك الأم الذي يلد العمل ويبعث الأمل ويغري المجاهدين بالجهاد؛ ولولا أن كان من المؤمنين الصادقين لتطرق إلى نفسه الوهن ومشى في عزمه اليأس. . .

ووثب لمناهضة دستور كنساس رجل آخر يعد موقفه في ذلك غريباً لأول وهلة، وذلك هو دوجلاس عضو مجلس الشيوخ ومنافس لنكولن الشديد البأس. رأى أن قرار المحكمة العليا قد قضى على ما راح يدعو إليه من توطيد مبدأ سيادة الولايات في تقرير مصائرها. ذلك المبدأ البراق الذي ظل يخلب به الألباب ويلوح به لأهل الجنوب ليكونوا عدته في الوصول إلى الرياسة. ولقد بات من أمره في حيرة شديدة، فهو يخشى أن يفقد محبة أهل الجنوب إذا عارض دستور كنساس؛ بينما هو يخشى كذلك أن يفقد ثقة أهل الينواس إذا هو نسى مبدأ سيادة الولايات وسلطانها فيؤدي ذلك إلى خذلانه في الانتخاب لمجلس الشيوخ وقد أوشكت مدته فيه أن تنتهي. . .

ولكنه آثر الآن أن يحرص على ثقة أهل مسوري فأعلن عداءه لدستور كنساس، ووقف يحمل عليه في المجلس حملات شديدة بعثت في قلوب الديمقراطيين الغيظ وأثارت في عقولهم، فهذا الرجل الذي يعدونه من أقوى رجالهم لا يستحي أن يخرج عليهم على هذه الصورة ولا يتورع أن يعارضهم في غير هوادة كأنما انقلب بغتة فصار من رجال الحزب الجديد!

ولقد هلل بعض زعماء الحزب الجديد لموقف دوجلاس واستبشروا به، بل لقد أخذوا يمهدون السبيل لانضمام دوجلاس إلى حزبهم ليزدادوا به قوة ومنعة! وراح جريلي أحد رجال الصحافة من قادة هذا الحزب يدعو القراء إلى انتخاب دوجلاس وأخذ يثني على صفاته ويتوخى في مديحه الأطناب والمغالاة. وكان هذا الرجل من اشهر رجال الصحافة في الشمال وكانت له عند الناس مكانته؛ كما كان لصحيفته عدد كبير من المعجبين

ولكن ابراهام قد أنكر على نفسه أن يقبل ذلك من رجال حزبه. وهنا تعود للظهور خصلة من أبرز خصاله ألا وهي الاستقامة إذا صح أن تعبر هذه الكلمة عن المعنى الذي نريد، والذي نراه ينحصر في إطلاق النفس على سجيتها وسيرها على نهج من فطرتها في غير تناقض أو تذبذب أو اضطراب. وما كان ابراهام يتكلف شيئاً لا يتحرك به وجدانه أو تستشعره نفسه، ومن هنا كانت خطواته بطبيعتها مسدودة إلى الغاية مفضية إليها مهما كثر ما يعترضه من الصعاب. ثم من هنا كان خطره إذا تحرك. انظر إلى قوله حين سمع بتلك الدعوة الجديدة: (لقد أتى جريلي نحوي بما لا يعد عدلا. إني جمهوري من صميم الجمهوريين ولقد وقفت دائماً في طليعة الصفوف عند المعركة. والآن أراه يفاوض دوجلاس خير من يمثل رجل الاتفاقات، ذلك الذي كان مرة آلة أهل الجنوب والذي هو اليوم أحد معارضيهم؛ ذلك هو الرجل الذي يحاول أن يضعه في صفنا الأمامي. . . أنه يحسب أن مكانه الرفيع وشهرته وتجاربه ومقدرته إذا أحببت، تقوم مقام حاجته إلى مركز جمهوري خالص، بل وتزيد على ذلك. . . ولذلك فأن إعادة انتخابه على أن يمثل قضية الحزب العامة أجدى علينا من انتخاب من هو خير منه من رجالنا الجمهوريين الخلص الذي ليست لهم مثل شهرته؛ ماذا تعني (نيويورك تريبيون) بذلك الإطراء والإعجاب والتعظيم الذي تزجيه دائبة لدوجلاس؟ هل تعبر بذلك عن شعور الجمهوريين في وشنجطون؟ هل وصلوا نهائياً إلى أن قضية الحزب الجمهوري على العموم تتقدم خيراً من ذي قبل بتضحيتنا هنا في النيواس؟ إن كان ذلك كذلك فنحب أن نعلمه عاجلا؛ على أني إلى الآن لم أعلم بجمهوري هنا يرغب أن ينضم إلى دوجلاس؛ وإذا استمرت (التريبيون) ترن باسم دوجلاس في مسامع الخمسة أو العشرة الآلاف من قرائها في الينواس فأن ذلك يكون أكثر من أن نأمل معه أن يظل الشمل مجتمعاً؛ إنني لا أشكو ولكني أرغب في أن أصل إلى بينه من الأمر)

ذلك هو لنكولن اليوم؛ انظر كيف يجمع بين منطق المحامي وحصافة السياسي، وانظر كيف يدفع عن نفسه بما نشأ عليه من دماثة ما يحس فيه عدواناً على شخصه ونيلا من كرامته؛ فهو يطيق أن يكون دوجلاس خصما له ولكنه لن يطيق أن يراه مرشح حزبه في الينواس؛ نعم أنه لن يستطيع أن يحمل نفسه على الركوب معه في قارب واحد يراه يأخذ فيه مكان الربان وهو فيما يعتقد لا يرى كفايته تتقاصر عن ذلك المكان

وأرسل لنكولن بعض أصدقائه إلى الأقاليم الشرقية ليروا ما حال الحزب هناك؛ وكان من هؤلاء صديقه هرندن، وقد عاد إليه ينبئه بأن اسمه يقابل بالاحترام لدى الكثيرين من قادة الحزب بيد أنه يحمل إليه مع ذلك أنباء لا تسره؛ فرجال الحزب منقسمون بعضهم على بعض، فأن لجريلي آراءه ولستيورد أطماعه ولغيرهما من أساطين الحزب من أوجه الرأي ما يخشى منه انحلاله. . .

هكذا صارت السياسة شغله الشاغل، وهو لا يستطيع اليوم إلا أن يكون كذلك؛ لا لأنه يتخذ من السياسة وسيلة إلى تحقيق أغراض شخصية كما عسى أن يفعل غيره؛ ولكن لأن عقيدة تحرك نفسه وتستثير وجدانه، ولأن رسالة من الرسالات الإنسانية الكبيرة ينبض بها قلبه الكبير. وهل عهدنا عليه من قبل ما نحمل معه اشتغاله بالسياسة على غير محمله؟ حاشا أن يكون ذلك من صفات أمثاله وإلا فما أضيع البشرية وما أهون أمرها.

على أنه لم ينفض يده من المحاماة بعد؛ فحرفته التي يكسب منها قوته لا زالت حتى اليوم هي تلك الحرفة التي مال إليها بفطرته والتي ارتفع بها إلى مستوى إنساني يحق معه لأربابها جميعاً في كل جيل أن يذكروا أسمه كعلم من أعلام المدنية، وأن يضيفوه إلى ما يعتبرونه في مهنتهم من دواعي الشرف وبواعث المفاخرة

ومن أفعاله في المحاماة يومئذ حادثة نرويها لدلالتها على ما كانت تنطوي عليه تلك النفس الكبيرة من المعاني الإنسانية، تلك النفس التي لم يتطرق إليها ما يتطرق إلى النفوس في هذا العالم الخبيث من خبائث تشوهما وأوشاب تذرى بها وهي في حال غريبة، تحار معها هل تعدها آدمية أم تعدها بهيمية؟

وقع بصره في إحدى الصحف على جريمة قتل يدعى أحد المتهمين فيها أرمسترنج، فدهش وتساءل هل يكون ذلك ابن متحديه ثم صديقه القديم عندما كان فتى يبيع في الحانوت وهو غريب في نيو سالم. ولما تبين له أنه هو كتب إلى أمه يقول: (عزيزتي مسز أرمستنج: علمت الآن بألمك العميق وبإلقاء القبض على ابنك متهماً بالقتل؛ ويصعب على أن أصدق أنه عسى أن يرتكب ما اتهم به. إن ذلك لا يبدو ممكناً. وإني لارجوا أن يجري معه تحقيق عادل على أي حال؛ وإن عرفاني بالجميل نحوك وما كان لي منك أيام شدتي من عطف طالت أيامه ليحدوني أن أتقدم في سماحة نفس بخدماتي المتواضعة لصالحه؛ فأن هذا سوف يتيح لي الفرصة أن أرد بقدر ضئيل تلك المبرات التي نلتها على يديك ويدي زوجك المأسوف عليه، حيثما لقيت تحت سقفكم مأوى كريماً بغير مال وبغير ثمن)

وتبين لابراهام براءته فعمد في دفاعه إلى طعن حجج المبطلين من الشهود. ومن ذلك أنه سأل أحدهم كيف رآه ينفذ الجريمة فأجاب إنه رأى ذلك على ضوء القمر، فطلب المحامي نتيجة، ومنها تبين للمحكمة أن ليلة القتل كانت ليلة ممتعة؛ ودار الدفاع حول تسفيه آراء الشهود حتى أصدرت المحكمة حكمها بالبراءة

(يتبع) الخفيف