مجلة الرسالة/العدد 256/بين العقاد والرافعي

مجلة الرسالة/العدد 256/بين العقاد والرافعي

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 05 - 1938



للأستاذ سيد قطب

- 5 -

يقول العقاد في قصيدة (خليج ستانلي):

هذى معارض صنعة ... لله تبهر من وصفه

حي الجمال كما بدا ... أولا فدونك والجيف!

يقول هذا وهو يقف أمام هذه (المعارض) وقفة الفنان الحي، المتذوق لكل صنوف الجمال فيها، المتنبه لومضاته وخفقاته، لا تكاد تغرب عن نظرة ولا عن حسه لفته من لفتات الجمال في هذا الخضم العاري. ثم يسمع من ناحية أخرى صيحات (الخرف) التي لا تقدر هذه المعارض، وتنحي باللاتمة على بروز هذا الجمال، فيصبح بهم: هذه معارض للجمال يتملاها الأحياء المعنيون بالحياة، فمن شاءها فليحيّ الجمال فيها، ومن أبي أن يعجب بالحياة الخافقة فليس له إلا أن يوكل نفسه بالجيف الهامدة!

ولكن (الرافعي) لا يلقى باله إلى شيء من هذه اللفتات، فيأخذ منخره بين أصابعه ويزم شفتيه، ويشيح برأسه، ويروح يتصنع التأفف والمبالغة فيه، لأن هناك رائحة لا يطيقها في كلمة (الجيف!)

طيب!. ولا بد أن صاحبنا بلغ من إرهاف الحس - ولا سيما حاسة الشم - إلى درجة شديدة، تقرب من الدائرة المرضية فاللذين يبالغون في التأفف كثيراً ما يكون الإرهاق بلغ بهم إلى حد مرض الأعصاب، وهو عذر على أية حال. ولا بد أنه متجنب في أعماله الخاصة كل ما تنبعث منه أية رائحة!

ولكن ماذا عساك قائل، إذا رأيت هذا الرجل الذي يمسك منخره بأصابعه، لأن فناناً تهكم بخصوم الجمال، فجعلهم ممن لا يحسنون إلا ملازمة الجيف، إذا رأيته هو نفسه يصف فم حبيبته مستجملاً - وألق بالك إلى هذا - بأنه (حانة)!

أي والله. . . (حانة) هي فم حبيبته (الرافعي)، حانة ينبعث من روائحها ما ينبعث، ويفوح منها ما يفوح، ويعج بين جدرانها ما يعج. وفيها (من كل شيء) كما يفهم الرافعي وتلميذه الأستاذ شاكر. (من كل شيء) على حقيقتها وبمدلوها كما أوّلاه في تعسف واستغ وما أبعد بك فهذه قولته:

(مسكرة للعاشقين كأن نهر الخمر في الجنة جعل فمها لهذا العاشق حانة)

ولعل أحداً من المتعسفين في التأويل والتخريج، حسب الأهواء والميول، يروح يقول لك: يا لله! إن نهر الخمر الذي في الجنة هو الذي جعل فمها حانة. فهي حانة من خمر الجنة لا من خمر الدنيا!

ولكن أفما كان هناك معدي عن هذا التعبير وهذا التشبيه؟ ألا يمكن أن تكون مسكرة حتى يكون فمها حانة، لا كأساً لطيفة، ولا قارورة مختومة، ولا دناً أو (برميلاً) من الخمر؟ ولا يكون حانة كاملة بما فيها من الدنان والكؤوس والشاربين والندمان، وبما فيها من عبث الشاربين وأنفاسهم وما يلي ذلك من عواقب السكر وصرعة الخمر

الذي لا يطيق أن يرمي فنان خصوم الجمال بأنهم غير أحياء وأنهم موكلون بالجيف، هو الذي يطيق أن يرمي حبيبته نفسه بأن فيها حانة بما فيها؟!

هو ذلك. لأنه لا عقيدة فيما يكتب، فهو ينقد لشفاء الحزازات ويتلمس مواضع التشنيع التي لا سقطة فيها على الحقيقة، وإن كان له هو على غرارها - مع الفارق - سقطات وسقطات!

ويقول العقاد متفكها، وفي فصل يسميه (فكاهة) ويعنون له بهذا العنوان

من رأى زُهرة الجمال فهذي ... زهرة القبح أسفرت تتحدى

طلعة الشؤم من رآها يخلها ... خلقت من وجوه سبعين قرداً!

فما يلمح الرافعي هذا القول، حتى يغرق في ضحك مصطنع طويل؛ وهو يقول وما الفرق بين أن تكون طلعة الشؤم هذه خلقت من وجه قرد، أو من سبعين أو سبعمائة؟

والمسألة هنا ليست هكذا، فوجه القردليس كل ما فيه قبيحاً، فشدة الاحتياط في (الفكاهة) جعل العقاد (طلعة الشؤم) مؤلفة من القبح المستخلص من وجوه سبعين قرداً، ليكون قبحاً خالصاً مركّزاً!!!

وهي على كل حال (فكاهة) والإغراق فيها يزيد حسن وقعها، ولا يعطل من قوتها شيئاً، وهو كل المقصود بالفكاهات.

أما الرافعي الذي يعيب ذلك فاسمه يقول جادّا لا متهكما ولا متفكها. (وأصعب ما تكون الإنسانية على من يعظم بحيوانيته وحسب، فتراه وكأن مائة حمار ركبت منه في حمار واحد، ولكنه حمار عظيم. . .)

أرأيت إلى حمير الرافعي المائة، وعملت ما شأنها هنا؟

إنها لمجرد المبالغة في شدة الحيوانية. والمبالغة في موضع الجد والقصد، لا في موضع الدعابة والنادرة

فلماذا يباح للرافعي في الحمير مالا يباح للعقاد في القرود؟ وهذه سبعون وتلك مائة. وهذه قرود تحمل الدعابة والخفة في اسمها وجسمها، وتلك - أعزك الله - حمير تحمل الغباء والثقلة في (صورتها ونعتها)؟

إنه التعنت، وشفاء الحزازات التي عملت سببها فيما أسلفت من حديث

وبعد فما أعني بما أوردت من كلام الرافعي هذا، فمثله لا يعد نقدا، والذي يعنى بهذه المآخذ لا يكون إلا سخيفا؛ وإنما أردت فقط أن أصور هذا العنت الذي كان الرافعي يلج فيه وهو واقع في شر منه، وأن أبين كيف يصنع الحقد ببعض الناس، وكيف ينكشف (الذوق) المتصنع عن ثقلة وغفلة

وأحسب أنني حتى الآن قد أوضحت رأيي في الرافعي بالأمثلة الكافية كما وعدت في أول مقال. وبقي أن أوضح رأي في العقاد على ذلك النحو

ولكني قبل هذا سألقي نظرة على ما كتب الأستاذ محمود محمد شاكر متقيداً في هذا بوعد أسلفته في الكلمة الفائتة، أكثر من اقتناعي بأن هناك ما يستأهل هذه النظرة

فلننظر ماذا قال؟

كنت في حاجة أن أستعير أسلوب العقاد في الرد على الرافعي وأمثاله، أواجه به الأستاذ شاكر، إذ كان الموقف لم يتغير. ولكنى لحسن الحظ أهدأ من العقاد، وطبيعتي أقل حدة وضراما فلهذا كان أسلوبي هنا غير ما يحتاج إليه الموقف!

والأمر بيني وبين الأستاذ شاكر يمكن تقسيمه وتبويبه للاختصار

فهو (أولا) راح يطعنني في (حسن أدبي، ومروءة نفسي، ونبل قلبي، وشرف مقصدي، فيما كتبت. وراح يتهمني بمجانبة (الدين والتقوى، والحياة والتذمم). وبأنه ليس ما بي (هو النقد ولا الأدب، ولا تقدير أدب العقاد وشعره، فما هو إلا الإنسان وجه يكشفه النور ويشف عما به، وباطن قد انطوي على ظلمائه فما ينفذ في غيبه إلا علم الله)

وكل ذلك والأستاذ شاكر لا يعرفني، ولا يعرف شيئاً عن أدبي ولا نفسي أو قلبي، ولم تكن التهمة في فهم الأدب أو فهم الحياة، حتى يكون له مبرر في مجال النقاش الأدبي، وإنما هي تهمة خلقية محضة؛ وأنا إنما كان حديثي عن نفس الرافعي في أدبه فماذا كنت أصنع للأستاذ؟

أكنت أرد عليه شتائمه وأكيل له صاعاً بصاع؟ إذن فما أنا بخير الرجلين!

أكنت أنفي عن نفسي هذه التهم؟. . . لأنا إذن ظالم لنفسي فما هي مما يستحق النفي. وأنا أعرف نفسي ودافعها في الحياة - وهذا حسبي - وهناك مئات يعرفوني معرفة الحقيقة والتقدير، وهناك ألوف يعرفون بالقراءة ونقد الكلام ما يجب أن يعرف، فما بي من حاجة بعد هذا كله إلى كلام

ولقد رددت على الأستاذ سعيد العريان ما عرض بي من جهل بأدب الرافعي. ولم أرد على الأستاذ شاكر فيما عرض به من شتائم خلقية، إذ كان الأول بسبب من الموضوع الذي أتحدث فيه، وإذ كان بيني وبينه من الصلات ما يبيح لي أن أتعتب عليه بشدة. فأما الأستاذ شاكر، فلم يكن له عندي هذا ولا ذاك فتركته يقول:

على أنه ماذا يورد من حجة على انزلاقه إلى الطعون الشخصية الوبيلة؟ إنه حديثي عن الرافعي الميت في إبان ذكراه الأولى

ولقد لقيني أديب كبير بعد هذا، فقال يتفكه: إن هؤلاء الجماعة يجلسون في المأتم ويرجمون المار بالحجارة، فإذا رجمهم الناس، صاحوا وولوا، وملئوا الدنيا تسخطاً ونعياً على الأخلاق لأن الناس لا يقدرون حرمة المأتم، وهم الذين استهانوا بهذه الحرمة حينما رجموا المارة!

ولقد كان ذلك فكاهة وحقاً!

فالمسالة أن الأستاذ سعيد العريان كان يكتب عن الرافعي، حتى لقد بلغ رقم مقالاته السادس والعشرين، فما رأيت ما يدعو أن أكتب أو أعلق، فهو صديق وتلميذ يقوم بحق الوفاء، وهو على هذا مشكور مبرور؛ ولكنه بعد ذلك انحرف عن نهج المؤرخ إلى نهج الناقد، فقال عن نقد الرافعي لوحي الأربعين إنه منزه عن العيوب، وقال عن رد العقاد إنه سباب وشتائم، فكان ذلك حكماً لا تاريخاً؛ وقال عن دوافع العقاد للرد وطريقته كلاماً لا يصدق على العقاد، ويخطئ تفسير دوافعه في الحياة حسبما أرى، وأنا بذلك أدري

وعندئذ فقط تدخلت، لأعيد إلى الأذهان شيئاً من النقد (المنزه عن العيوب) ولأفسر دوافع العقاد وخطته في الحياة، ولأبين الفوارق الأصيلة بين مدرسة العقاد ومدرسة الرافعي في الأدب وفي الحياة

هكذا كان تدخلي، وهو مفهوم، ولم تكن هناك حاجة للتخمين والتأويل

وهو (ثانياً) شاء أن يدافع عن الرافعي، وأن يثبت له ما نفيت عنه من الطبع والعقيدة فقال كلاماً لا احسبني قلت سواه فيما كتبت!

فهو قد قال: إنه كان للرافعي رأي في أدب العقاد غير ما أبداه وإنما الملاحاة وحب الغيظ والكيد، هي التي جعلته يقول ما قال.

وحكم على العقاد كذلك بما حكم به على الرافعي

فأما الشطر الأول فهو اعتراف يؤيد رأيي، في أن الرافعي لم يكن يصدر عن عقيدة فيما يكتب. وذلك حسبي

وأما الشطر الثاني فهو الذي أنكرته من قبل على الأستاذ سعيد، وهو الذي لا زلت أنكره؛ لأنني أعلم من حقيقة رأي العقاد في الرافعي، ما يؤكد نعته له، ورده عليه. وما كان هذا الرأي ليختلف لو لم تقع بينهما جفوة وملاحاة، إن صح أن التعبير عن الرأي كان يمكن أن يتغير، من لفظ قاس مكشوف، إلى لفظ لين ملفوف

وليس العقاد هو الذي يبدي رأياً ويبطن آخر، فهو رجل عقيدة يهمه التعبير عنها، ولولا في ذلك كل عنت وملاحاة

هذا رأيي في صاحبي، لا زلت أنافح عنه، وذلك رأيه في صاحبة وهو به اعرف!

وهو (ثالثاً) أخذ نفسه بإبطال ما أوردت من نقد لنقد الرافعي. فلننظر ماذا قال

إنه راح يتقصى ما قيل فيما يقرب من قول العقاد:

فيك منى ومن الناس ومن ... كل موجود وموعود تؤام

سائراً في تقصيه على النسق الحالي من كتب النقد العربي لقدامة وأبي هلال العسكري، ومن ينقلان عنهما. . . من تتبع المعنى تتبعاً زمنياً، وحسبان كل شاعر متأخر أخذ هذا المعنى عن شاعر متقدم، وزاد فيه أو نقص، وتصرف أو ولد. . . الخ وليس هنا مجال انتقاد هذا المذهب في النقد، ولكني أكتفي بإثبات سوء رأيي فيه، وظني به القصور والجمود

إنما يهمني ما قال الأستاذ من أن العقاد ذكر (من كل شيء) دون أن يضع للفظ المطلق شيئاً من الحواجز والحدود التي تمنع إرادة الإطلاق والتعميم، فلم يبق إذن بد من أن يفهم الرافعي، وأن يتابعه هو في الفهم، أن (من كل شيء) تشمل ما ذكر من قاذورات وأوحال

ويبدو لي أن الحواجز والحدود المقصودة لا يمكن أن تكون إلا من نوع الحواجز التي توضع للخيول والكلاب في السباق، أو الحبال والأسلاك الشائكة التي تصدم الجسم وتخز اللمس!

ويبدو لي كذلك أن (الذوق الإنساني) الذي يمنع إرادة مثل تلك المقاذر، هو الأمر الوحيد الذي لا يحسب حسابه عند الرافعي وبعض متابعيه. وإلا فقد كان حسب الأستاذ أن يحيل حديث الرافعي في هذا إلى ثورة حقده، وحبه للمكيدة والإغاظة، فيخرج من تلك الأشواك التي ألقى فيها دون حساب!

ثم ماذا؟

ثم ذكرني بشيء كنت قد نسيت الإلمام به، بعد ما التفت خاطري إلى فساده وسوء دلالته على فهم الرافعي للأدب الحي. وذلك بقية ما كان عقب به على هذا البيت من أن أعرابياً قال وقال. . . فجعل حبيبته (أصفى شيء، وأغلى شيء، واسعد شيء)

هذا في الواقع مفرق الطريق بين الرافعيين والعقاديين؛ أو بين المدرسة القديمة والمدرسة الجديدة على الإطلاق. ولا بأس من توفية الكلام فيه بعض حقه، وربما عدت إليه في كلمة منفصلة أو في ثنايا كلمات أخرى

المبالغة عند المدرسة القديمة هي مناط البلاغة، لا يستثنون من هذا إلا ما اعتبروه مغالاة، تمس العرف أو الدين، أو تناقض الحس والمشاهد. والصدق الجميل هو مناط الاستحسان عند المدرسة الحديثة

فليس يهم الشاعر المجد في هذا العصر أو في قديم الزمان، أن يجتمع في حبيبته كل ما تفرقه الأوصاف في الجميلات، ولكن يهمه أن يصور محاسنها هي، الخاصة بها، وأن يعبر عن شخصيتها ومميزاتها كما هي في نفسه ومن هنا يختلف في وصفه حبيبه عن حبيبته، لأنه لا يتحدث عن تمثال من الرخام، ولكن عن إنسانة حية تعيش في نفسه بمميزات خاصة. هذه المميزات قد يكون بعض العيوب فيها أعز على نفسه من بعض المحاسن، وأدعى لتعلقه بها، كالوالد لا يحب أبناءه لهدوئهم وآدابهم وحدها، وقد يكون الطفل المتعب أو الشاذ أكثر استمتاعاً بعطفه، وقد يكون حبه لهم على حسب ما بذل مع كل منهم من جهد، وما أنفق من علاج، وتلك من أسرار النفس الإنسانية

الصدق الجميل، الذي يعبر عن الحقائق النفسية، ويصور الحياة المتدافعة المتماوجة هو الذي أملى على العقاد ما كتب عن حبيبته، لأنها كانت هكذا في نفسه؛ فما يهمه أن يختار لها أجود النعوت، واحسن الأوصاف، بقدر ما يهمه تصويرها على حقيقتها في نفسه

فمن شاء أن يلتمس المبالغة الصفات المستحسنة وحدها من كل ما يتخيل فيه الجمال، فسبيله إلى ذلك شاعر آخر غير العقاد، ممن لا يحبون بقلوبهم وأعصابهم، بل بأذهانهم وأسماعهم. وهذا مفرق الطرق، والرمز الذي لا يخطئ في تميز المدرستين

ثم شاء أن يتحدث عن قصة (قزح وقوسه) على مثال ما تحدث عن (من كل شيء) فلم يشأ أن يفهم ما في الدعابة من طرافة وحيوية، لأن (قزحاً) هذا ليس (مشتهراً) بالجمال حتى تصلح المقابلة بينه وبين الجميلات

فهنا رجل يتصدى للنقد، ولكنه يتوكأ على أحكام السلف، فان وجد فيها أن قزحاً مشهور بالجمال فذاك، وإن لم يجده مشهوراً فلا يمكن أن يكون جميلاً، ولا يستطيع هو أن يرى إن كان هكذا أو كان قبيحاً، لأنه لا يستمد النقد مما يحس ويرى، ولكن يستمده مما يقرأ ويحفظ

ومثل هذا لا نطمع أن يماشي العقاد في سموقه وتفرده، ولا أن يتابع كذلك شروحنا للعقاد وطريقته، ولكني سأتحدث لمن يشاء أن يستمع

إن العقاد فنان دقيق الحسَّ في تميز الألوان والأضواء والظلال، وفي نفسه غرام بالنور يجعله يلتفت أبدا لومضاته وخفقاته (وقد وفيت شرح هذا في محاضرة لي عن وحي الأربعين عام 1934 نشرت وقتها بالجهاد، فليرجع إليها من شاء)

ومن هنا كان انتباهه لقوس قزح وألوانه وأطيافه، وكان تشبيه (مطارف الحسان وطرفهن) بهذه الألوان والأطياف، التي زاحمن قزحاً عليها حتى ظفرن بها منه، فألقى لهن بها وأدبر وانصرف! ومن هنا كانت الطرافة والحيوية التي حسبنا الإشارة إليها تكفي أول مرة للفت النظر والفهم، فأخطأنا التقدير

وقد فهم الأستاذ شاكر أننا نعني بتلاعب الرافعي بالألفاظ، أنه قال مرة إن قزحاً لا يفصل عن قوس ثم عاد ففصلها! وما إلى شيء من هذا قصدت، وما يمكن أن يفهم ما قلته على هذا الوجه. إنما عنيت بالتلاعب أن يترك الناقد هذه الطرفة في الحس والخيال، ويعني بتخريج الألفاظ اللغوية، غافلاً عن النكتة المقصودة من فصل (قزح) عن (قوس) أو متجاهلاً لها، وهو ما صنعه الرافعي

أما ما ذكره الأستاذ شاكر من قول شوقي ورأي العقاد فيه فالأمر فيه مختلف جداً، فشوقي في بيته لا يذكر (قوس) أي ذكر، وإنما يورد (قزحا) وحدها ويقصد بها (قوس) كما يفهم من معنى البيت:

قصراً أرى أم فلكا ... وشجراً أم قزحا؟

فكان الحق مع العقاد أن يقول: (ولا تذكر قزح إلا مع قوس) ولكنه لم يوجب في قوله هذه ألا تفصل منها كما أوجبه الرافعي خطأ. وفريق بين تحتيم ذكرهما معاً وتحتيم اتصالهما كما لا بد أن يفهم الأستاذ!

على أنه يبقى بعد ذلك كله أن كلام شوقي لم يكن يتضمن (نكته) خاصة كالتي تضمنها كلام العقاد، وتوجيه الكلام يقتضي بعض التصرف في عرف الأحياء!

هذا حديث قد أطلت فيه، ولكنه ليس موجها لأن يكون رداً على الأستاذ شاكر فيما كتب، وإلا فالمسألة أهون من هذا؛ إنما أردت به تصفية الموقف في طرق النقد. وما يجب أن يتوفر لها من فهم ودقة ويقظة. . . وحياة!

(حلوان)

سيد قطب