مجلة الرسالة/العدد 258/تأملات في الأدب والحياة

مجلة الرسالة/العدد 258/تأملات في الأدب والحياة

مجلة الرسالة - العدد 258
تأملات في الأدب والحياة
ملاحظات: بتاريخ: 13 - 06 - 1938



للأستاذ إسماعيل مظهر

شذوذ

تاريخ الصراع الأدبي في مصر، وتاريخ الصراع السياسي، يتلخصان في معارك تقوم بين أشخاص، ولقد أدركت هذه الظاهرة النقد أيضاً. فتاريخ النقد في مصر عبارة عن موازنة بين كاتبين أو شاعرين يحاول الناقد أن يعلي أحدهما على الآخر. أما مذاهب الأدب ومذاهب السياسة ومذاهب النقد. فهذه لا قيمة لها في نظر الأديب ولا في العرف السياسي ولا في تقدير الناقد وعامة ذا شذوذ، بل خروج على طبيعة الأشياء

أفهم أن يقوم الصراع الأدبي بين مذهبين يمثلهما كتاب أو شعراء يعتنقون في الأدب مذهباً محدود المرامي بين الغايات. وأفهم أن يقوم الصراع السياسي بين أحزاب تقتتل على مبادئ عامة تتعلق في أكثر الأمر بالخير المنشود للعدد الأكبر من الناس. وأفهم أن يقوم النقد على فكرة منطقية يقتنع الناقد بصلاحيتها وحقها في البقاء، فيمضي في نقد الكاتب أو الشاعر انتصاراً لتلك الفكرة. وأفهم فوق هذا كله أن يقتتل كاتبان ولكن انتصاراً لمذهبين يعتنق كل كاتب مذهباً منهما، والغلبة للأصلح من المذهبين. أما الذي لا أفهمه ولا أستطيع أن أفهمه يوماً من الأيام، فأن يتطوع ناقد لنصرة كاتب على آخر، أو شاعر على شاعر غيره احتساباً لوجه الله الكريم، من غير أن يكون الناقد في نقده مخلصاً أول شيء لمذهب بين في الأدب يعتنقه الكاتب المنتصر له

وما أبرئ نفسي؛ فأن عدم قدرتي على فهم هذه الأشياء قوة لم أشهدها في نفسي إلا منذ عهد قريب، وما بعثها إلا ذلك الصراع الذي قام على صفحات (الرسالة) بين أنصار صديقي الأستاذ العقاد، وصديقي المرحوم الأستاذ الرافعي، صديقان مات أحدهما وأدعو الله أن يمد في عمر الآخر. سكت أحدهما وطواه الزمن، وصمت الآخر على ما كان بينه وبين الأديب الراحل تجلة للموت وتحية لذكرى أديب جاهد في سبيل الأدب، ودفعاً لحزازات ما أجدر الموت أن يكون ماحياً لآثارها وذكرياتها

لقد صمت صاحب الحق الأول؛ وما كان ليتكلم وقد خلا الميدان من مناظره، وهو يعلم أن الكلام في مثل هذا الظرف جريمة في شرعة الأدب، بل خطيئة من المنكر صمت صاحب الحق وتكلم غيره احتساباً، وحاشا أن أقول هنا لوجه الله، لأن الله لا يأمر بأن تنبش الحزازات وتحتفر الضغائن ويكشف عن السيئات دون الحسنات. أم نقول قولة أنطوني على جثة قيصر: (إن الشر الذي يعمله الناس يعيش من بعدهم، أما الخير فيدفن مع عظامهم؟!)

ولست أدري أي وصف توصف به هذه القضية لو تقدم بها خصم ثالث إلى مجلس حسبي ينصب لمحاكمة الأدباء؟

لتغير التاريخ

قرأت، كما قرأ غيري، قول بعض المؤرخين: (لو لم يكن كذا لتغير التاريخ). وهو قول ظاهره خلاب جميل؛ قول سمته الحق، ولكني لم أرى حقاً يراد به باطل أكبر من هذا الحق

قيل مثلاٌ: لو أن أنف (إقليو فطرا) كان أقصر قليلاً مما شاءت الطبيعة لتغير التاريخ. ولماذا؟ لأنها كانت بأنفها (الأقصر قليلا) تستطيع أن تغوي (أوكتافيانوس) كما أغوت (أنطونيوس) من قبله. وإن نظرة أولية في هذا الكلام تدلنا على أن ما فيه من الحق إنما هو بمثانة البرق الخلب، يبهر النظر ويأخذ باللب، ثم لا يترك في نفسك من الأثر إلا أثر اللمحة العابرة تستذكرها، ولكنك قلما تفكر فيها قليلاً. فمن ذا الذي أعلمنا أن أوكتافيانوس، قائد الرومان العظيم، وأول أباطرتهم العظام، كان يستغويه أنف دقيق ولا يستغويه أنف طويل؟ وعلى أية قاعدة نحكم بأن ذلك القائد كان على استعداد لأن يغوى، دق أنف الملكة المصرية أو كبر؟ أما الحق فأن أنف (إقليو فطرا) قد ظلم

وقيل أيضاً: لو لم يظهر نابليون لتغير التاريخ. وجملة ما في هذا القول من الحق في معتقدي أن التاريخ ما كان ليتغير إلا بأن يحذف منه اسم نابليون ليحل محله قائد آخر يفعل من الأشياء ويحدث من الأحداث ما قد أدت إليه أعمال نابليون بالذات، وما يصح عن نابليون يصح عن هينيبال وعن الاسكندر الأكبر وعن غيرهم من العظماء الذين نقول اعتباطاً إنهم غيروا التاريخ

لو صح قول القائلين: (لو لم يكن كذا لتغير التاريخ) لبدت الإنسانية في صورة عجماوات تضرب في فيافٍ وقفار، وتخبط في ظلمات مدلهمة خبط عشواء، تقبض على زمامها شهوات الأفراد وتقودها نزواتهم وانفعالاتهم، وتصرف أمورها أخيلة قلة من الناس في مقدرتهم أن يخلقوا التاريخ ويبتكروا المستقبل ابتكاراً من غير أن يتقدم ذلك الابتكار أية مقدمات تسوق إليه، على العكس من كل تناسب في نظام التطور الاجتماعي، وعلى الضد من المنطق المدرك من نظام الطبيعة

أما إذا أردنا أن نثبت هذا المذهب فينبغي لنا أن نحلل مثلاً أو مثلين مما ذكرنا. أما مثل (إقليو فطرا) والقائد الروماني، فأن حوادث التاريخ ذاتها تدل على أن الحنق كان قد ملأ قلب أوكتافيانوس تلقاء ملكة مصر وزوجها أنطونيوس حتى ليتعذر معه أن يجد جمال إقليو فطرا أو فتنتها طريقاً إلى قلبه

كان أنطونيوس وأوكتافيانوس صديقين اقتسما القوة والبطش في رومية، وقضى أنطونيوس على قتلة قيصر في سلسلة من المواقع المشهورة، ثم نزا الشيطان بينهما ففرقت بينهما المكائد والدسائس، ثم تصافيا وتزوج أنطونيوس من شقيقة أوكتافيانوس توثيقاً لصداقتهما، ثم سافر إلى الشرق فالتقى بالملكة المصرية وتزوج منها وهجر رومية ومن فيها، ثم استبان الرومان أن ملكة مصر تحاول من طريق عشيقها الروماني أن تذل رومية وأن تصبح ملكة الدنيا، فقام الصراع بين مصر ورومية وانتهى بمصرع العاشقين. فهل هذه مقدمات يمكن أن تؤدي إلى غير ما حكم به منطق الواقع؟ وهل كان من المستطاع أن يغير أنف الملكة المصرية من مجرى هذا التاريخ شيئاً، قصر أم طال؟

وكذلك الحال في نابليون. فإن الثورة الفرنسية وما طل فيها من الدماء وما أحدثت من تخريب وما ذاع فيها من الخيالات وشاع من الأوهام، وتفكك بلاد ألمانيا وضغط إيطاليا وانحلال أسبانيا، وتيقظ الروح الحربي في فرنسا لما أن هاجمها أعداؤها ومرجل الثورة يغلي في بطنها؛ جماع هذا كان من شأنه أن يبعث (نابليوناً) لو لم يكن بونابرت لكان غيره، ولأحدث من الأحداث ما كان من الطبيعي أن يؤدي إلى نفس النتائج التاريخية التي أدت إليها أعمال نابليون هذا بالذات

وإن شئت فقل إن هذا كان شأن الاسكندر الأكبر. فأن الصراع بين بلاد فارس وبلاد الإغريق في آسيا الصغرى وفي إغريقية الأوربية بالذات من طريق البحر كان صراعاً مأثوراً بين الأمتين قبل عصر الاسكندر. وكذلك كانت السياسة التي اتبعها الملك فيلبس والده، فقد كانت سياسة حربية رمى بها إلى توحيد كل العالم الهليني تحت لواء مقدونيا، فجيش الجيوش ونشأ القواد وأحيا روح البطولة في رجاله، وهم بطبعهم من سلالة جبلية فيهم شيمة القبيلة وطابع العنصرية. ولما مات فيلبس ورث عنه الاسكندر فيما ورث جيشاً منظماً كان قد أعده للزحف على الشرق عشية مقتله. ولو أردنا أن نعدد الوقائع الكبرى في تاريخ الاسكندر لما عدونا الثلاث عداً. هي: موقعة غرانيقوس وموقعة إسوس وموقعة أربل. أما ما بقي بعد ذلك فليست مواقع كبرى، وما عدا ذلك من حياة الاسكندر فحصار لبعض المدن ومخاطرات هي إلى الجنون أقرب منها إلى العقل. فهل جميع هذه المقدمات المادية الثابتة، والتي يزيدها ثباتاً تقلقل الإمبراطورية الفارسية في عصر دارا الثالث واستخدامه لمرتزقة من الأغارقة عملوا في جيشه جنوداً وقواداً، كانت تمحي وتزول لو لم يظهر هذا الاسكندر؟ إني أعتقد أن الاسكندر لو لم يظهر لظهر غيره ففعل فعله، وبقي غدير التاريخ متدفقاً في نفس الاتجاه وإلى الغايات التي رسمتها جميع هذه المقدمات التي ذكرنا

إن الإنسانية ولا شك تقودها يد خفية، ما الاسكندر وهينبال وأوكتافيانوس إلا ألاعيبها، وما هم إلا الكرات التي يضربها الصولجان إلى الأهداف المرسومة، ما هم إلا اللحن الذي يسجله القدر على صفحات التاريخ.

فلسفة وفلسفة

الصورة التي تلابس الفلسفة لا تحبكها الطبائع الخاصة لكل جيل من أجيال البشر ولا طبيعة البقعة التي يحتلها ذلك الجيل من كرة الأرض لا غير، بل إن للنظامات المدنية وأثر المعاهد في حياة الحكومات والأفراد أثراً فيها كبيراً. أما إذا أردنا أن نجلو عن هذه القضية فينبغي لنا أن نمضي في مقارنة نسوقها في الفارق بين أمتين كبيرتين من أمم العصر الحاضر، امتازتا بضربين من الفلسفتين لكل منهما طابع مستمد من خصائصهما الأصيلة، هما إنجلترا وألمانيا

إن نظرة دقيقة لتثبت لنا أن فلاسفة الألمان يشغلون في عالم الآداب الإنسانية مكاناً غير المكان الذي يشغله الإنجليز. وأول شيء يستلفت النظر أن النبع الذي يفيض بالفلسفة في إنجلترا، بصرف النظر عن بعض الشواذ، لم يكن الجامعات الإنجليزية، ولا الرجال الذين اشتغلوا بمهنة التلقين فيها. هذا على العكس مما هو في ألمانيا، فإن كنز الفلسفة ومشعل الحكمة كان على الدوام في أيدي أساتذة الجامعات

ونظرة أخرى. فأنه لا شك مثلاً في أن إسرافاً كبيراً يحل بالجهود العقلية، وانحرافاً عظيماً يعتور البحوث الفلسفية إذا لم يهيمن على أمثال هذه الأشياء النظام المدرسي والروح الأقاديمي. ولكن في التحرر من هذا النظام وذلك الروح لقيماً أخرى لها من الشأن ما يعوض على الآداب ما تفقد بالتحرر من الروح الأقاديمي الصرف. فأن الباحث الذي يتعلم بنفسه ويشعر بكرامة العصامية العلمية التي يحوزها بجهده الذاتي لهو بذاته من تدعوه (المفكر المستقل) المتحرر من آثار تلك الظاهرة التي تدعى الائتمارية، ومعناها الأقرب الاتفاق بين فئات من المفكرين على الترويج لمذهب بعينه أو فكرة بذاتها أو نزعة ما. فأن المفكر المستقل، وتلك أولى مميزاته، إنما يكب على درس مشكلات الفكر والحياة، لا لأن من الواجب عليه أن يقول شيئاً فيها، كما يحتم النظام على أصحاب الوظائف، بل لأن تأملاته أدت به إلى إدراك معضلات حقيقية، فهو يعمل على حل مغلقها وفك طلسماتها.

وفي الفلسفة الألمانية ظاهرة أخرى. فقد تقيدت تلك الفلسفة خلال عدة قرون متتالية بتقاليد خاصة وانتزعت اصطلاحات بعينها واستعمالات بذاتها، تنزل من الفكر منزلة تسمو على عقول الأوساط من المتعلمين، وتقيد عقول الخاصة بنظام يجعل الخروج على مقرراتها من أصعب الأشياء. وعلى الجملة تمتاز الفلسفة الألمانية بأحكام الفكرة وأسلوب التفكير، مشفوعة بقوة ممتازة في التحليل المنطقي ولكن هذه المميزات لها ما ينتقصها. فقد قيل، وقيل بحق، إن الفلسفة في ألمانيا يكتبها الأساتذة، إما لأساتذة، وإما لفئة يحاول أفرادها أن يصبحوا أساتذة. وكاتب الفلسفة الألماني من أجل أن ينال الحظوة عند الخبراء بالفلسفة أمثاله، يبتعد عن الاتصال بجمهور القراء، فلا يكون لما يكتب أثراً في الحياة العامة ولا في تكييف الذوق العام للأمة

هنالك مظهر آخر. فإن الفلسفة الألمانية لشدة ارتباطها بالنظام القائم في بيئتها، التصقت أيما التصاق باللاهوت، وتلونت في غالب الأمر باللون الذي يوائم ذوق الدولاب الحكومي. لقد اتخذت الفلسفة الألمانية وسيلة لصب النشء في قوالب خاصة ترضاها الحكومة. لهذا اتصفت تلك الفلسفة بشيء من الجمود ولبست ثوباً حكومياً شل اتجاهاتها الطبيعة، على الرغم من أنها كانت الأثر الفعال ترقية الأهلية الحكومية فجعلتها تتجه نحو المثل العليا أما الفلسفة في إنجلترا، وهي كذلك في فرنسا، فقد كانت اللسان الناطق بالمعارضة لكل المعتقدات الرسمية للدولة، ومنابذة صور الفلسفة القديمة التي اتخذت معاقلها الحصينة في حدود المؤسسات الكنسية. ولفظة فيلسوف في إنجلترا وفرنسا، قد اقترنت دائماً بمعنى حرية الفكر والتحرر من قيود المأثور، بل فهم منها معنى الإلحاد ومعاندة كل ما تقرر في الأذهان من العقائد والآراء. وعلى الرغم من مختلف الصور التي لابست الفلسفة الإنجليزية منذ عصر هوبز إلى بنتام، ومن لوك إلى هيوم، فأن الغرض الذي رمت إليه لم يتغير، ولم يخرج يوماً على حرية الفكر وهي مصدر الابتداع والابتكار

ونحن إذ نرى أن الفلسفة الألمانية قد التزمت مصطلحات بعينها واتخذت لنفسها لهجة بذاتها. إذا بنا نجد أن الفلسفة الإنجليزية قد كتبت باللغة الدارجة في الأدب. وعلى الضد من هذا تجد الأولى، فإنك لا شك واقع في فلسفة (كنت) وفي كتابات الكثيرين ممن عقبوا عليه، على عبارات هي عند أهل لغتهم أنفسهم كتاب مغلق بسبعة أقفال

لقد اعتقد بعض النقاد، ولعلهم اعتقدوا بحق، أن هؤلاء الفلاسفة قد اكتفوا في كتابة الفلسفة بأن يفهم بعضهم بعضاً، غير آبهين بأن يفهمهم غيرهم. لقد هام فلاسفة الألمان بالغموض حتى لقد نعتهم أهل بلادهم أنفسهم بأن فلسفتهم تعميه مقصود

في سبيل العلم

في سبيل العلم ما احتمل غليليو، فقد قال إن الأرض التي تدور حول الشمس، على الضد من العقيدة اللاهوتية التي اعتنقتها الكنيسة الرومانية. لما هم رؤساء الكنيسة باتهام غليليو

كان مؤلفه قد ذاع في أنحاء أوربا، فزاد ذلك غضبهم عليه وتبرمهم به. وكان على رأس الكنيسة (إريان الثامن). ولم يكن بابا لا غير، بل كان أميراً من بيت (بربريني) فأخذته العزة بالإثم وأمر بأن يمنح غليليو وكتابه هبة منه لمحكمة التفتيش

وعبثاً حاول (كاستللي) البنديكتي أن يقنع رجال الكنيسة بأن غليليو يحترم الكنيسة ولا يهزأ بمبادئها، بل سدى ضاعت كل جهوده في سبيل أن يثبت لرجال الدين إذ ذاك (انه ما من شيء يمكن عمله، من شأنه أن يمنع الأرض من الدوران).

ولكنه طرد ونفي مغضوباً عليه مقصياً به عن الكنيسة، وقسر غليليو على أن يقف أمام تلك المحكمة الرهيبة واحداً فرداً بلا مدافع أو نصير. وهنالك عذب مراراً حتى اضطر إلى أن يعلن جاثياً على ركبتيه الاعتراف الآتي:

(أنا غليليو، وفي السبعين من عمري، سجين جاث على ركبتي، وبحضور فخامتك، وأمامي الكتاب المقدس الذي ألمسه الآن بيدي، أعلن أني لا أشايع، بل ألعن وأحتقر، خطأ القول وهرطقة الاعتقاد بأن الأرض تدور)

إنه ولا شك قد غلب على أمره، لأنه قسر على أن يظهر أمام كل الأجيال القادمة بمظهر الحانث بعلمه المضحي بعقله ويقينه ومن أجل أن يتم انتصار الكنيسة عليه، وأن يودي بكل ما بقي له من شرف النفس، اضطر برغم منه أن يقسم بأن يفضي إلى محكمة التفتيش بأمر كل رجل من رجال العلم، يقول بهرطقة القول بدوران الأرض

ولقد أثار قسم غليليو هذا عجب الكثير من أهل زمانه ومن المؤرخين، حتى أن ذلك كان سبباً في أن ينكر عليه بعض أبناء عصر نعت (الشهيد). غير أن هؤلاء لم يقدروا ظروف الرجل قدرها. فلقد كان شيخاً كبيراً عمّر إلى السبعين من السنين المثقلة بالهموم والأحزان، وحطمته آمال الدنيا ومخاوفها، وهدمته متاعبها وواجباتها. وكم سعى متلهفاً من (فلورنسا) إلى (رومية) مكباً على وجهه ونصب عينيه تهديدات البابا، بأنه إذا تأخر عن القدوم (أخذ في الأغلال). وكان فوق ذلك مريض الجسم منهوك العقل، سلم إلى أعدائه بيد الذين كان من الواجب أن يحموه. ولم يكد يبلغ (رومية) حتى احتوته غرف التعذيب وانصبت عليه الآلام ألواناً. ولقد كان يعرف جيداً ما هي محكمة التفتيش. وكان يلوح له شبح (جيوردانو - برونو) بين اللهيب ماثلاً أمامه، كأنما ذلك كان بالأمس الفارط، وفي نفس تلك المدينة ومن أجل (هرطقة) العلم والفلسفة. وكان يتذكر أنه من قبل ثمانية أعوام أحيط برئيس أساقفة (إسبالاترو) وسلم إلى محكمة التفتيش متهماً بهرطقة العلم، وبقي بين براثنها إلى أن مات في غيابات السجن، وإن جثته أحرقت بعد الموت مع ما كتب بمرأى من (المؤمنين)

ولقد استمر اضطهاد (غليليو) كل أيام حياته، بل بعد مماته. لقد بقى في المنفى بعيداً عن أسرته، بعيداً عن أصدقائه، مقصياً عن صناعته النبيلة؛ وقسر على أن يظل خاضعاً لعهده بألا يتكلم في نظريته. ولما أن توسل إلى أعدائه، وهو بعد يعاني أشد آلام المرض وأعظم تباريح السقام، مقرونة بأقسى الآلام النفسية التي سببتها الكوارث التي نزلت بأسرته، طالباً أن يمنح من الحرية بعض الشيء، كان التهديد بإلقائه في غيابات السجن، الجواب على ملتمسه الصغير. ولما أن قررت لجنة خاصة عينتها السلطات الكنسية بأنه أصبح أعمى لا يبصر، وأنه ذهب ضحية المرض والحزن، منح بعض الحرية، ولكن بحدود جعلت تلك الحرية استعباداً

ولقد أجبر على أن يواجه هجمات أعدائه على ذاته وعلى نظريته هجمات الازدراء والسخرية والتضليل، من غير أن ينبس ببنت شفة أو يحرك بالرد لساناً. ورأى الذين محضوه الصداقة والحب والاحترام، ينزل بهم العقاب الصارم والظلم الفادح. فنفي (كاستللي). ورأى (ريكاردي) رئيس البلاط المقدس و (شيامبولي) سكرتير البابا يبعدهما (إريان الثامن) عن وظيفتيهما محقرين، ورأى عضو محكمة التفتيش في (فلورنسا) يوبخ أقذع توبيخ لأنه أمر بطبع كتابه. وعاش ليرى الحقائق التي استكشفها تكتسح من الكليات الكنسية ومن كل جامعات أوربا، بل ليرى عضو محكمة التفتيش يأمر بأن يستبدل كل نعت طيب يردد به ذكره في أي كتاب يراد طبعه، بأخبث النعوت وأحط الذكريات

ومات غليليو. فطلب إلى رجال الكنيسة أن يدفن في مقابر أسرته في (سانتا كروتشي) فأبوا. وأراد أصدقاؤه أن يقيموا فوق قبره أثراً تذكارياً فلم يسمح لهم. وقال البابا (إريان الثامن) (لنيكوليني) وهو السفير الذي كلف بأن يعرض بعض المطالب الخاصة بغليليو الميت عليه ما يأتي:

(إنه لأسوأ مثل يعطى للناس أن نسمح بتكريم رجل وقف من قبل أمام محكمة التفتيش الرومانية لأنه روج فكرة مثل فكرته المملوءة بالخطأ والكفران. ولم يقصرها على نفسه بل أقنع بها غيره، فأحدث بذلك أعظم فضيحة عانت أمرها النصرانية)

ونفذت إرادة البابا ورجال محكمة التفتيش، فدفن غليليو من غير تكريم بعيداً عن أسرته، ومن غير تأدية أي واجب ديني ومن غير أن يقام على قبره نصب أو تاريخ يشير إلى العظمة المخبوءة في ذلك الرمس الذي ضم رفاته

ومضى على ذلك أربعون عاماً جرؤ بعدها (بيروزي) أن ينقش على قبره تاريخاً يشير إلى حيث دفنت تلك العظام النبيلة. وبعد مائة سنة استطاع (نيللي) أن ينقل رفاته إلى مسقط رأسه ليضعها في مكان لائق بها، وأقام عليها نصباً. وكانت النار ما تزال مستعرة والعداء مستحكما، فقد طلب إلى رجال محكمة التفتيش أن يحولوا دون هذا التكريم (لرجل اتهم بمثل ما اتهم به غليليو من السيئات والخطيئات) ولهذا رفضت السلطات الكنسية أن يكتب على قبره الجديد أي تذكار ما لم يعرض نصه على هيئتهم المختصة بمراقبة المطبوعات

فياله من علم ويالها من حياة!!

إسماعيل مظهر