مجلة الرسالة/العدد 258/فلسفة التربية

مجلة الرسالة/العدد 258/فلسفة التربية

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 06 - 1938



تطبيقات على التربية في مصر

للأستاذ محمد حسن ظاظا

- 20 -

(. . . وثقافة الإنسان لا تقدر بمقدار ما قرأ من الكتب وما تعلم من العلوم والآداب، ولكن بمقدار ما أفاده العلم، وبمقدار علو المستوى الذي يشرف منه على العالم، وبمقدار ما أوحت إليه الفنون من سمو في الشعور وتذوق للجمال!)

(أحمد أمين)

(للرجل المثقف جسم خاضع لإرادته، وعقل صاف متئد القوى سهل العمل مليء بما في الطبيعة من حق عظيم وقوانين كلية؛ هذا إلى امتلاء بالحياة المنسجمة الخادمة لضميره الحي، وإلى حب للجمال وكره للقبح، وإلى احترام للنفس وللناس، وإلى وفاق تام مع الطبيعة يفيدها فيه ويستفيد منها، ويسير معها كوزيرها أو ترجمانها وهي كأمه الحنون!)

(هكسلي)

10 - خريج اليوم

(تابع ما قبله)

عرضت عليك في المقالين السابقين صورتين لخريج اليوم واحدة لعقله وأخرى لخلقه. وسأعرض عليك في هذا المقال صورتين أخريين إحداهما لذوقه والأخرى لجسمه:

1 - الناحية الذوقية

وأحسبك لا تشك في جدارة هذه الناحية في حياة المثقفين وغير المثقفين على السواء، كما أحسبك ترى معي أن (الحياة الرفيعة) محتاجة إلى (فن) دقيق عظيم قوامه الذوق السليم والعاطفة المصقولة، والشعور الحي، والعقل المتزن جميعاً. فترى هل يعرف خريجونا هذا (الفن) في حياتهم الخاصة والعامة، كما يعرفها الإنجليز والألمان والفرنسيون على الخصوص؟؟ الحق أن دراستي الاجتماعية في مختلف البيئات الأوربية قد كشفت لي عن فقر مدقع وفوضى أليمة يسيطران معاً على حياة المثقفين عندنا ويملآنها بشتى صنوف العبث والإسفاف والجهل والاضطراب؛ وهاك بعض ما يثبت ما أقول:

الوقت والفراغ والذوق

والوقت كما تعرف سيف قاطع؛ فهل ترى الخريجين يستغلون كل ساعاته ودقائقه فيما يعود عليهم بالخير؟؟ ألا كم من ساعات وأيام وأسابيع تمر عليهم دون أن يخرجوا منها بشيء!! وألا كم من لحظات تسألهم عما يفعلون فيها فيجيبونك بأنهم إنما (يمضون الوقت) فحسب، ومعنى هذا أن الوقت عند خريجينا لا قيمة له ولا خطر، وأنهم لا يحرصون بعد إذ ينالوا درجاتهم العلمية على حسن الاستفادة منه في كثير ولا قليل، فأن هم قصدوا بعد ذلك إلى الترويح عن نفوسهم أثناء فراغهم من عملهم اليومي فقلما يأتي ذلك الترويح على ما ينبغي أن يكون! ذلك أنهم قليلاً ما يغشون الحدائق العامة أو يزورون المعارض الفنية والمتاحف العلمية، أو يطرقون المواقع الهادئة الخالية من الحركة والضجيج، ونادراً ما يمارسون الرسم أو التصوير أو القراءة الأدبية أو الأشغال اليدوية الفنية وشبه الفنية؛ وأغلب ما عساك واحدهم فيه بعد هذا هو المقاهي حيث يتحدثون حديثاً تافهاً أو يهذرون هذراً فجاً. أو المسارح الخليعة حيث يصفقون للرقص المبتذل، ويضحكون على النكات السمجة، ويعجبون بالفن الذي هو والتهريج سواء، أو دور السينما حيث يشهدون ما تزدحم به الحياة الغربية من حب غير مشروع ومن استهتار أليم يغذي خلق الفتيات والفتيان عندنا بأسوأ الدروس! أليس كذلك؟ حدائقنا الجميلة العامة من يملؤها وينعم بها كل يوم وكل أسبوع غير الأجانب؟ وتمثيلنا الفني الراقي ألم يكد ينتحر تحت ضغط المسارح المبتذلة والأفلام الكثيرة ذات المعنى السطحي والعرض الخلاب؟ ومعارضنا الفنية الراقية من يزورها ويطيل الوقوف فيها ويشجع ذويها بالشراء والإعجاب غير أقل القليل من المثقفين؟ ومحاضراتنا العلمية أو الفنية من يتردد عليها ويستفيد منها غير جمهور (الطلبة) على وجه الخصوص؟ والاطلاع الأدبي الفني هل تجد له أثراً عند غير رجال الأدب كالمحامين والأطباء والمهندسين وغيرهم من أولئك المعتزين بثقافتهم ومهنتهم اعتزازاً لا يرون معه أن للأدب أو الفن فضل في الحياة أو نفع؟ ومجالسنا الخاصة ألا يدور فيها الحديث التافه والنكات المبتذلة، وألا يعلو فيها صوت المتحدثين أحياناً على صوت الغناء المنبعث من آلة الراديو حتى ليتعذر عليك أن تطرب للموسيقى والإنشاد وتغني فيهما تماماً وأنت في وسطها؟ ثم ومنازلنا؟ أفي كل منها مكتبة كما في المنازل الأوربية؟ وأتزين حجراتها تلك الصور البديعة التي لا يكاد يخلو منها منزل غربي؟ وأخيراً أترى طريقة نقاشنا وأسلوب معاملاتنا يتفق وأصول الذوق السليم والحس الرقيق والشعور الحي؟ أترى نرسل اللفظ بقدر وحساب ونعامل الزوجة والولد والخادم والقريب والبعيد بما ينبغي أن تكون عليه المعاملة المثلى، فنعطي لكل حقه، ونرعى لكل عهده، ونحفظ فيما بين هذا وذاك قدرنا في عين الجميع؟

يقول الإنجليز إن (الرجل الدمث) الأخلاق هو ذلك الذي يعطف على الخجول، ويرحم السخيف، ويرعى الجميع فلا يثير ما يجرح الشعور ولا يعلو لصوته في المناقشات، ذلك الذي لا يفخر بما يعمل ويبدو في إعطائه كما لو كان هو الآخذ، ذلك الذي لا يستمع للوشايات ويفسر كل شيء من ناحيته المشرقة!)

فترى أين هو ذلك الرجل فينا؟

ستقول أنك تطلب من التربية كل شيء وترهقها من أمرها عسراً؟. وسأقول وما جدواها إذا هي اكتفت بحشو العقول وتركت الذوق فجاء غير مصقول؟ وهل نعيش في حياتنا بالعقل فحسب؟ ألا إن جانب العواطف والشعور أقوى في الحياة من جانب العقل، فإذا هي تركت هذا الجانب وأهملته فلن يكون تقصيرها إلا فادحاً شنيعاً! إذ ما عسى أن تكون الحياة بغير عاطفة مهذبة وذوق سليم حي؟ وإلى أين نلجأ في صحراء (العقل) إذا لم نلجأ إلى واحة (الشعور)؟ وكيف نوفق في معاملة الناس وفي حفظ قدرنا بينهم إذا لم يكن لنا ذوق سليم وشعور حي؟

2 - الناحية الجسمية

أما هذه الناحية فأحسب الكلام فيها يسيراً!. الرياضة عندنا غير محبوبة عند الأكثرية الساحقة، والأقلية التي تمارسها في المدارس تسيء أحياناً استعمالها وقلما تستمر فيها إذا شغلتها الحياة وتقدم بها الزمن. ولذلك لا تعجب إذا رأيت أجسام الخريجين عندنا غير رياضية، وإذا وجدت من الخريجين تقصيراً هائلاً في أوليات الرياضة البدنية اليومية وفي كل ما يقي الجسم غائلة الأمراض ويحفظ عليه مناعته الطبيعية! وها أنت ترى أن الطلبة موبوءين بالعادات السرية، وأن الخريجين مسرفين في النواحي الشهوية عزاباً كانوا أو متزوجين! وها أنت ترى أن طلبة المعاهد الدينية محرومين أو شبه محرومين من التربية الرياضية إلى حد عجيب كأن الدين لا يقر الرياضة ولا يعرفها! وأن المدارس الأهلية كثيرة التقصير في هذه الناحية إلى حد شديد! ثم ها أنت ترى أن قليلاً منا من يدقق في اختيار الغذاء اللازم لجسده، ومن يعنى بتعرف حالته البدنية كل عام حتى يعد العدة لاتقاء الخطر، وأن أقل القليل من ينامون مبكرين ويستيقظون مبكرين ولا يأكلون حتى يجوعوا فإذا أكلوا لم يشبعوا. . .! ثم هاأنت ترى الكهولة والشيخوخة يزحفان على شبابنا بسرعة عجيبة، وأن الكثير من خريجينا يتناول الخمر إلى جانب التدخين في سهولة ويسر. . .!

فهل ترى بعد هذا أن مدارسنا قد نجحت في تكوين (الشخصية الكاملة) المنشودة، ذات العقل المنطقي المستقل، والعاطفة النبيلة المشبوبة، والجسم السليم القوي؟

(يتبع)

محمد حسن ظاظا