مجلة الرسالة/العدد 258/كلمة أخرى على الهامش

مجلة الرسالة/العدد 258/كلمة أخرى على الهامش

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 06 - 1938



أهذا نقد؟ أهذا كلام؟

للأستاذ علي الطنطاوي

أنا رجل له عمله الذي يملأ يومه، ونهجه الذي يدير حياته، وليس من عمله ولا في منهجه الدخول في هذه المناظرة التي يقوم سوقها بين الأستاذ الكاتب الفحل محمود شاكر، وبين الأستاذ سيد قطب. وأنا رجل عرف شاكراً وعرف الرافعي العظيم رحمه الله، وغدا لطول ما قرأ لهما ووثق بهما يقبل كل ما جاءا به. ولكني لم أعرف الأستاذ قطب قبل اليوم ولم أعلم له وجوداً، فهو عندي كاتب جديد أرى اسمه للوهلة الأولى فلا أضعه في منزلة من نفسي، ولا أجدني من قرائه، ولا أعلم لآرائه من القيمة والخطر ما يدفعني إلى مناقشتها. فلا شأن لي في هذه المناظرة، وليس عليّ خوض غمارها، ولكن ما قرأته للسيد قطب في هذا العدد الأخير (255) حفزني إلى سوق هذه الكلمة أسأل فيها: أهذا نقد؟ أهذا كلام؟

لقد تعلمت (وعلمت تلاميذي) أن النقد يستند إلى دعامتين: دعامة من اللغة وعلومها - نحوها وصرفها وبيانها - يعرف بها خطأ الكلام من صوابه، ودعامة من الذوق يعرف بها جماله من قبحه. أي إن النقد (علم) حين يدور على الخطأ والصواب، و (فنّ) حين يبحث عن الجمال. أما (فنَّ النقد) فلا يمكن الجدال فيه لأن أداته الذوق، والذوق شيء شخصي ومداره على الجمال، والجمال لا يتبع قاعدة، ولا يعرف له مقياس. فإذا قال سيد قطب: إن هذا البيت من أبيات الرافعي قبيح، كان معنى قوله أن هذا البيت لا يوافق المثل الأعلى الذي أتصوره أنا في الشعر. وإذن يحق لغيره أن يقول له: بل هو جميل عندي. (أما علم النقد) الذي يستند إلى علوم اللغة فالجدال فيه ممكن بل واجب، والحق فيه معروف ظاهر، لأن لهذه العلوم قواعد وأسساً، فما قام عليها فهو صواب، وما حاد عنها فهو خطأ. . .

فلننظر بعد هذا في نقد الأستاذ قطب بيت الرافعي رضي الله عنه:

إن الظلام الذي يجلوك يا قمر ... له صباح متى تدركه أخفاكا

حين يقول: (والحب الذي هو ظلام لا يحتاج للتعليق، فما يوجد حب في الدنيا تظلم به الأرواح، ولكن الرافعي هكذا يقول). . .

فهل في الدنيا قارئ يفهم أساليب العرب يذهب إلى أن المراد من هذا البيت تقرير أن الحب ظلام؟ وهل يدل هذا على فهم صاحبه ووقوفه على علم البيان العربي وسنن العرب في كلامها؟ إن صغار الطلبة يعرفون من دروس البلاغة أن هذا (تمثيل) يراد منه تشبيه صورة كاملة بصورة كاملة ووضع إحداهما مكان الأخرى على الأسلوب المجازي المعروف؛ ولا يمكن أن ينفك جزء من أجزاء هذه الصورة عن جزء. ومعنى هذا البيت: أن الحب الذي يجعلك مثل القمر، ملء ناظري وملء الدنيا، لا بد أن تكون له نهاية، شأن كل حب في الدنيا، كالليل يبدو فيه القمر مجلواً وضاء، ولكن الصباح الذي لا بد منه يخفى هذا القمر ويمحوه

وفي الكتاب المدرسي المقرر في مصر لطلاب السنة الرابعة الثانوية ما يكفي العلم به لتجنب الوقوع في هذا الخطأ الذي وقع فيه الأستاذ سيد قطب. ومن أمثلته أن تقول لمن يقصر في عمله ويرقب (العلاوة): إنك لا تجني من الشوك العنب. فهل يصح لرجل أن يسخر مثلما سخر، وأن يقول هذا خطأ لأن العلاوة ليست عنباً؟ ولا دخل للعنب في هذه المسألة. . . أو تقول لتلميذ قصر في الاجتهاد: الصيف ضيعت اللبن. فهل يجوز لناقد من طراز سيد قطب أن يقول له: هذا خطأ لأن الدراسة تكون في الشتاء لا في الصيف، وأنه ليس في مقرر الصف لبن؟

أهذا نقد؟ أهذا كلام؟

ومثله انتقاد سيد قطب تشبيه الرافعي رضي الله عنه الليل والنهار بشقي المقص (المجتمعين تحت مسمار الشمس)، ورده عليه بأن (الرافعي على باله أن الليل والنهار من الظواهر الأزلية العميقة. وأن بناءها هكذا عمل سرمدي دائم من بدء الخليقة إلى نهايتها) وإنهما ليسا شقي مقص

برافو سيد قطب! لقد كشفت أميركا؟

وما قولك بتشبيه شوقي الشفتين بشقي مقص من عقيق. ألم يخطر على باله إن الشفتين ليستا شقي مقص وإنما هما شفتان؟ والمجاز كله؟ ألم يخطر على بال أصحابه أن له حقيقة قد صرفوه عنها ببراعتهم وحدة أذهانهم؟ أنهدم المجاز كله يا سيد قطب؟

أهذا نقد؟ أهدأ كلام؟

إن الذي يجب الآن على الأستاذ شاكر وجوباً لا هوادة فيه، هو ألا يخط في هذه المناظرة حرفاً بعد اليوم. كلا. ما هذه مناظرة، ولا هذا مناظر! ولا أدب الرافعي بيت من الورق لينهار من نفخة؛ إن أدبه قصر من الصخر، سيبقى بقاء الدهر!

(دمشق)

علي الطنطاوي