مجلة الرسالة/العدد 258/ليلى المريضة في العراق

مجلة الرسالة/العدد 258/ليلى المريضة في العراق

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 06 - 1938


للدكتور زكي مبارك

بقية المقال العشرين

- ظمياء

- عيوني

- أترينني أحسنت الدفاع عن نفسي؟

- بعض الإحسان

- وأنا مكتف بذلك، فما هي التهمة الثالثة؟

- ليلى تتهمك بالخداع

- وكيف؟

- لا تدري كيف وأنت أعظم مخادع؟

- آمنت بالله وكفرت بالحب، أفصحي يا بلهاء

- اسمي ظمياء

- أفصحي يا ظمياء

- رأتك ليلى تقول في كتاب (الموازنة بين الشعراء) أن الدمع في عين العاشق كالسم في ناب الثعبان، ثم شرحت رأيك فقلت أن العاشق يخدر محبوبته بالدمع كما يخدر الثعبان فريسته بالسم. وتقول ليلى إن هذا هو السبب في ألا تخلو قصيدة من قصائدك أو رسالة من رسائلك أو كلمة من كلماتك من ذكر الدموع. ولك كتابه اسمه (مدامع العشاق) وأنت في كل يوم تقول: (أكتب والدمع في عيني) أو تقول: (ودعت أحبابي بقلب خافق، ودمع دافق) أو تقول (غسلوني بدموعي يوم أموت) أو تقول: (أن ملوحة الدمع أشهى مذاقاً من الشهد) ولك من أمثال هذه التعابير عشرات أو مئات أو ألوف، فأنت بشهادتك على نفسك مخادع عظيم

- ظمياء، هذا دمعي، فكيف ترين؟

- هو السم في ناب الثعبان، وسنخلع أنيابك فلا تقول انك ثقبت لؤلؤة في بغداد

- أنت جاهلة يا ظمياء، وليلى أجهل، فما تعرف ولا تعرفين أن عرض بغداد هو عرضي، وأن عرائس بغداد هن أخواتي وبناتي. لا تعرف ليلى ولا تعرفين أن كل مكان في بغداد هو عندي محراب، وحيثما توجهت فثم وجه التاريخ، وأهل العراق هم في أنفسنا حماة الأدب في العصر القديم وأنصار الأدب في العصر الحديث

والمصريّ في العراق يرى وجه مصر في كل مكان: يراه في المدارس والمعاهد والمكاتب والملاهي والملاعب والأغاني والأناشيد، وجرائد مصر ومجلات مصر تقرأ في بلادكم وكأنها عراقية لا مصرية، فثقي يا ظمياء بوفائي وثقي بأدبي فسأحفظ ما طوقتم به عنقي من جميل

وقد نظرت فرأيت صحبة العراق كانت خيراً لكل من تشرف بها من أهل مصر؛ وما عاش مصري سنة واحدة في العراق إلا أصبح وفي دمه ذخيرة من النار والحديد؛ وما رآكم مصري واستطاع أن يذكركم بسوء في سر أو علانية

فماذا تريد ليلى أن تصنع معي يا ظمياء؟

ماذا تريد ليلى؟ ماذا تريد؟

إذا كان دمعي شاهداً على خداعي، فأين أجد الشاهد على وفائي؟

إن النساك يتقربون إلى أربابهم بالمدامع، فكيف لا يتقرب العشاق إلي أحبابهم بالمدامع؟

أواه من مصيري في هوى ليلاي!

سأرجع إلى وطني وأهلي مصدوع القلب مفطور الفؤاد وستعيش ليلى بعافية، وستنسى طبيبها الوفيّ الأمين

وكذلك كان حالي في كل أرض. كنت أغرس العافية في الأرواح والقلوب، وما عرفني إنسان إلا تحوَّل من غيّ إلى رشد، أو من هدى إلى ضلال. كنت أذيع الشرك في قلوب الموحدين، وأذيع التوحيد في صدور المشركين، كنت مَلَكا، وكنت شيطاناً، ثم أصبحت وأنا مجرد من سماحة الملائكة وسفاهة الشياطين

أدبتني ليلى، وبلائي في ذلك التأديب. أحبك يا ليلى وأهواك

- وتحبني أيضاً يا دكتور؟

- وأحبك أيضاً يا ظمياء، وأحب كل مخلوق في العراق حتى القيظ والزوابع والأعاصير. أحب البلد الطيب الذي أرهف قلمي، وصقل وجداني، واستطعت بفضل الله وبفضله أن أقنع أهلي في مصر بأن لي قلباً يعرف معاني الشوق والوفاء - دكتور

- ظمياء

- لقد أحسنت الدفاع عن نفسك في هذه التهم الثلاث، ولكن هناك تهمة رابعة لن تستطيع لها دفعاً، لأنها في خلقتك والخلقة لا تغيير لها ولا تبديل

- فهمت، فهمت. إن الجرائد المصرية تصورني دميم الوجه ولا ينبغي يا ظمياء تصديق كل ما تنشر الجرائد

- لا، لا، إن ليلى تراك أجمل مخلوق، ولكنها تقول إنك أخضر العينين، وهنا وجه الخطر، فالعيون الخُضر تهتاج الثعابين، وما رأى ثعبان إنساناً أخضر العينين إلا أغتاظ وأهتاج واستعد للقتال

- ومن أجل هذا تثور عليّ هذه الرقطاء؟؟ اسمعي أيتها الطفلة. اسمعي. اسمعي. إني ورثت خضرة العينين عن أمي، سقي قبرها الغيث، وأمي ورثت خضرة العينين عن جدتي، وكانت تركية الأصل، فعمن ورثت ليلى سواد عينيها؟ اسمعي يا ظمياء، لقد أطلقت التودد إلى أهل العراق، وسأصارحهم اليوم بحقيقة لم يتنبه إليها أحد سواي. ليس في العراق كله طرف كحيل إلا وهو مسروق من عيون الظباء، وجيرتكم للصحراء هي التي مكنتكم من هذا الانتهاب الفظيع، ولكن هذه السرقة لن تطول، فسيأتي يوم قريب أو بعيد يشتد فيه ساعد (عصبة الأمم) المقيمة في جنيف ثم تحول بينكم وبين انتهاب السواد من عيون الظباء

اخرجي يا ظمياء، ولا ترجعي إليّ بعد اليوم، فهذ آخر العهد

خرجت ظمياء محزونة وهي تعتقد أن ليلى جانية وأن العراق كله قد وقع سرقة دولية حين انتهب السواد من عيون الظباء

وبقيت أنا في كروبي وأشجاني، فأنا في سريرة نفسي أعتقد أن الظباء هي التي سرقت سواد العيون من أهل العراق، وقد عاش العراق كريما في جميع عهود التاريخ، فمن حنين غوانيه عرف الحمام كيف يسجع، ومن صيال أبطاله عرف الدهر كيف يصول

ولكن كيف أصحح خطأي فأسترد ليلى واسترجع ظمياء؟

كيف؟ كيف؟ إن ليلى لن ترجع بسهولة لأنها عراقية، والعراق مفطور على العناد

أحبك يا ليلى، أحبك يا روحي، واشتهي أن أخاصرك مرة ثانية ضوء القمر وفي سكون الليل. أحب أن أسامرك مرة ثانية تحت النجوم في مطلع حزيران قبل أن أرجع إلى مصر وطن الجفاء والعقوق

أحبك يا ليلى وأحب ذلك الطبع المتقلب الذي لا يستقر على حال أحب أن أنشدك مرة ثانية قول الشاعر احمد رامي:

يا من أخذت فؤادي ... أخذ العدو الحبيب

قلبي لديك فقل لي ... ما حاله في القلوب

أحب أن أصرخ مرة ثانية، أحب أن أصرخ صرخة الوجد في رحاب الكاظمية.

أحب أن أفتق بصراخي قلبك الأغلف وأذنك الصماء

أحب وأحب، ولكن أين السبيل إلى قلبك الظلوم!

طال شقائي بهجر ليلى، فماذا أصنع؟

إن بغداد تحقد عليّ ويسرها أن يطول في حب ليلى عذابي فأين شفعائي إلى ليلاي؟ أين لا أين؟

الحمد لله والحب! هذا خاطر لطيف قد ينفع بعض النفع، إن ليلى لها في الموصل بنات خالات، وبنات الخالات يقدرن على ما يعجز عنه أبناء الأعمام والأخوال، فلأمض إلى الموصل لأشكو إلى ظبياته جروحي وآلامي

إلى الموصل، إلى الموصل

إلى الموصل الجميل أمتطي قطار الصباح بين اليأس والرجاء

- 21 -

طال بلائي بغضب ليلاي، وتهدم ما كنا رفعنا من صروح الأماني، وأمسى الحزن يصهر قلبي كلما تمثلت أطياف تلك الصروح

وطال حنيني إلى كلمة كانت تقولها ليلى في لحظات الصفاء، وهي كلمة (تعال) فكنت أهوى إلى صدرها كما يهوى الطفل إلى صدر أمه الرءوم، وما كان أدبي يسمح بأن أقترح شيئاً على ليلاي وإنما كنت أنتظر عطفها في صمت كما ينتظر العشب جود السحاب وكنت خدعتها فزعمت أن تقاليد الأدب في فرنسا تقضي بأن يقبل الرجل يد المرأة، وقد انخدعت فكنت أقبل يديها في كل لقاء؛ ولكني مع ذلك حفظت وقاري فلم أكن أقبل يديها في السهرة الطويلة أكثر من سبعين مرة

وقد حملني الطيش في إحدى الليالي على أن أقترح تقبيل خديها فرفضت

وعند ذلك أنشدت:

يا غزالاً لي إليه ... شافع من مقلتيه

والذي أجللت خدي ... هـ فقبلت يديه

أنا ضيف وجزاء الضي ... ف إحسان إليه

فقالت بعد تمنع: أقبلك أنا

فقلت: وما الفرق يا روحي؟

فقالت: القبلة منك حب، والقبلة مني عطف

فقلت: أقبلك قبلة عطف.

فقالت: ابحث عمن يصدق دعواك يا فاجر!

ورضيت بالقليل فقبلتني ليلى قبلة كادت تشوي جبيني.

تلك قبلة العطف فكيف تكون قبلة الحب؟

اشهد أن الله قدر ولطف!

ذلك نعيم ضاع، وما أدري كيف ضاع، فما كانت هفوتي خليقة بأن تصيرني إلى ما صرت إليه من الحرمان، ولكني متى طاب زماني حتى تطيب ليلاي؟

آه من كيد الزمان! وآه من غدر الملاح!

شاع في بغداد أني ذاهب إلى الموصل لأستشفع بالحور العين من قريبات ليلى، فللشقية هناك بنات خالات. وسمع بذلك أخ صادق فقال: خير لك أن تسافر إلى النجف، فهو أقرب من الموصل، وملاح النجف أرق وأظرف، وهن يعطفن على بلواك، وهذا اليوم أصلح الأيام

وسألت عن السبب فعرفت أن أهل النجف يحتفلون بميلاد الرسول في السابع عشر من ربيع الأول، وفي المولد النبوي تزدحم ساحات الحرم الحيدري بالعرائس فأختار من الشفيعات ما أشاء. . .

وما هي إلا لحظات حتى عبرت الجسر إلى الكرخ، الكرخ الذي كان فيه قمرا بن زريق، والذي سامرت في رحابه قمراً غادراً لا يحفظ العهد، ستفيض مدامعه بالدم يوم يتلفت فلا يراني. وهل كنت إلا طيفاً زار في السَّحَر بساتين الكرخ وبغداد؟

ومن الكرخ ركبت سيارة إلى كربلاء

وفي الطريق مررت على الإسكندرية وكنت مررت عليها في طريقي إلى الحِلة منذ أشهر، ورجَّحت أنها البلدة التي ينسب إليها أبو الفتح الإسكندري في مقامات بديع الزمان؛ ولكني في هذه المرة حاولت أن أعرف مكانها من الماء لأن عيسى بن هشام جعلها من الثغور الأموية، فاهتديت إلى أصلها بعض الاهتداء، وقد أصل إلى جوهر الحقيقة بعد حين

لم أقض في كربلاء غير لحظات، وهي مدينة تحيط بها الخضرة من جميع النواحي، وفيها قتل الحسين كما هو معروف، وللحسين فيها ضريح لم أزره ولكني شهدت قبته العالية، وهي مكسوة بالذهب الوهاج، وفي كربلاء ضريح آخر للعباس أخي الحسين، وهذان الضريحان يفيضان النور على كربلاء، وقتل الحسين كان نعمة على هذه المدينة؛ فقد أصبحت بفضل مرقده من مواسم القلوب

ومن كربلاء أخذت سيارة إلى النجف فأسلمتني إلى صحراء رأيت فيها الضب أول مرة، فتذكرت ما صنع الشعوبية حين وصموا العرب بأكل الضباب واليرابيع، والشعوبية كانوا جماعة من الأدباء لا يعرفون العواقب، وقد زعزعوا ما كان بين العرب والفرس من متين الصلات وسيلقون جزاءهم يوم يقوم الحساب

وأخذت تلك الصحراء تصنع بخيالي ما صنعت البادية بين دمشق وبغداد فكان فيها ألوان من خداع السراب. وبعد ساعة رأيت في الأفق ذهباً يتوهج، فحدقت فيه النظر لحظات ولحظات فرأيته يزداد إشراقاً إلى إشراق. فصح عندي أنه ذهب القبة العالية، قبة ضريح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعطر مثواه

ثم عبرت إلى النجف وادي السلام وهو مقابر طوال عراض عرفت ملايين الناس من سائر الأجناس

وأهل النجف يعتقدون أن من يدفن في وادي السلام لا يسأل في البرزخ، وهو اعتقاد لطيف، فمن عزاء الإنسانية أن تعتقد أن لها معتصماً من الحساب ولو إلى حين

(للحديث شجون)

زكي مبارك