مجلة الرسالة/العدد 26/المقامة الهرمية بين الهرم الأكبر وناطح السحاب

مجلة الرسالة/العدد 26/المقامة الهرمية بين الهرم الأكبر وناطح السحاب

مجلة الرسالة - العدد 26
المقامة الهرمية بين الهرم الأكبر وناطح السحاب
ملاحظات: بتاريخ: 01 - 01 - 1934



للدكتور محمد عوض محمد

أصبح عيسى بن هشام شيخاً فانياً خَرِفا، لم يبق منه الدهر سوى جلد ذابل، على عظم ناتئ. غير أن مر السنين لم يَزِده إلا ولعا بسرد القصص ورواية الأخبار:

لكن حديثه أصبح كحديث كل شيخ يَفَنٍ كبير، قد اشتمل على شيء

كثير من الخرافات والخيال. مما يجهد العقل، ويعيا به اللب، ويكاد

حبل الفهم أن يْنبَتَّ دون إدراكه.

أنْصِتْ إليه اليوم إذ يتحدث إلى جُلاسَّه عن الهرم الأكبر وناطح السحاب فيقول:

كان الهرم الأكبر راقداً، غارقا في رقاده، نائما يغط في نومه. وقد وسد رأسه ترابا لينا ورملا ناعما. وقد وُطَّئ له الفراش. ومهُدَّ له الثرى. فمضجعه سهل وثير ويغشاه لحاف غليظ تِرب، قد أكل عليه الزمان وشرب. لكنه كان يجد تحت هذا الغطاء الكثيف الراحة والدعة، وهما أجل ما يتمناه.

ولهذا بقى راقدا غارقا في رقاده، نائما يغط في نومه عصفت به العواصف، وأهابت به الأحداث. وثارت من حوله الأعاصير. واهاجت الرياح رمال الصحراء حتى امتلأت بها طباق الهواء. واحتجبت النجوم عن العيون، ولمع البرق وقصف الرعد، وملئت السماء حَرَسا شديداً وشهُبُا. . . ثم زلزلت الأرض زلزالاً عنيفاً مخيفاً. فمالت إلى اليمين ثم مالت إلى اليسار! وأخذت ترتجف وترتعد، وتعلو وتهبط.

فهل حرك الهرم الجاثم؟ هل فتح جفنا أو حرك طرفا؟ هل أيقظته هذه القوارع الملمة والكوارث المحدقة من كل جانب؟

انه بقى راقداً، غارقا في رقاده، نائما يغط في نومه

وفي يوم من أيام البلاء أتى إليه رجل فرنسي قصير القامة، دميم الصورة. مُقَشَّر الوجه. قد ملأ الغرور قلبه، وأعمى الوهم عينيه. . جاء هذا الفرنسي فنصب مدافعه أمام الهرم وصوبها إلى رأسه، يريد أن يوقظه من رقاده الطويل. فجعل يلقي بقذائفه: قنبلةً خلف قنبلة، وقذيفة إثر قذيفة.

فهل تحرك الراقد أو التفت؟ إنه - والله! - لم يزد على أن رفع الرأس قليلا، وبصق في وجه ذلك المغرور. ثم عاد إلى سباته العميق.

وظل راقداً، غارقا في رقاده، نائما يغط في نومه.

ولهذا الغطيط الدائم ضوضاء هادئة حينا، عنيفة أحيانا وقد ألفتها الأسماع فهي قلما تزعج أحداً أو تقلق كائنا. . غير أن أبا الهول قد أصبح ذا مِزَاج عصبيً حساس. وقد استيقظ مرة فخيل إليه أنه لم يعد يطيق تلك الضوضاء. فالتفت مرة إلى الهرم في ليلة حالكة الظلام، وخاطبه بصوت أجش، فيه حدة وفيه عنف وشدة. وقال: أما كفاك رقاداً أيها الشيخ الهرم، الذي طال نومه وأظلم يومه، وخمد فهمه، وطاش سهمه؟ ألم يأن لك أن تفيق، وتكف عن الغطيط؟ لقد فضحني في الملأ الأدنى وفي الملأ الأعلى بنخيرك هذا الذي ليس له غاية، ورقادك الذي ليس منه إفاقة. حتى أصبحت مضرب الأمثال في الكسل والجمود وغدوتَ لي سُبَّةً وعارا. . فوا الذي نفس خوفو بيده، لولا بقية حلم ووقار لَلَكْزُتك لكزاً، أو سفعتك سفعا ولأطرت النوم عن عينيك أنهضتك من هذا الرقاد الشائن. . .

قال عيسى بن هشام: هكذا أهاب أبو الهول بالهرم، هكذا صاح المسكين، وأمعن في الصياح، حتى انتفخت أوداجه، وجاشت مناخره، واحمرت عيناه وجف ريقه. . فلا والله ما تحرك الهرم ولا تحول. وما زاد على أن تثاءب، ثم عاد إلى سباته العميق.

وهكذا ظل راقداً، غارقا في رقاده، نائما يغط في نومه

حتى إذا كان الشتاء الماضي شهد العالم مشهداً غريبا، وحادثا عجيبا: ذلك أن الهرم تحرك. . أجل وأبيكم - بل وأبي أنا أيضا - لقد تحرك الهرم، ومدَّ يده إلى عينيه فدلكْهُما دلكا عنيفا، ومسحهما مسحا شديداً. . ثم رفع رأسه قليلا. . وأخذ يحرك شفتيه بالكلام، فإلى من كان يتحدث؟. .

ذلك هو السر الخطير، والخطب الكبير! إنه كان يتحدث إلى بعض نواطح السحاب. . .

ولا تعجبوا أنْ وُفَّق هذا الناطح إلى إيقاظ الهرم، حين أعيت فيه سائر الحيل. ذلك أن النظير أبداً يجذب النظير، والحجر العظيم يلين للحجر العظيم، ولا يفل الحديد إلا الحديد، وسيد أبنية الغرب جاء قاصداً سيد أبنية الشرق، لا زائراً أو حاجا، بل سائحا ومطلعا. فأبى السخاء الشرقي والكرم الشرقي إلا أن يتحرك له الهرم الأكبر بعض الشيء، ويكرم وفادته بعض الشيء.

ولو تبين الهرم حقيقة أمر هذا الزائر وما امتلأ به قلبه من غرور؛ لأشاح عنه بوجه، وأعرض عنه كل الإعراض. ولعمركم ولعمري! متى جاء من الغرب شيء يسر القلب؟

سعى هذا الناطح إلى الهرم سعيا حثيثا. فلم يزل يسبح فوق البحار، ويجتاز القفار حتى أسْلمه طول المسير إلى رحاب الهرم الكبير. وربما سألوني لماذا جشم الناطح نفسه كل هذا العناء، وسط هذه الصحاري المحرقة المُنْصبة. وهو ربيب النعمة، حليف النعومة، ولقد تحسبون أنه ما جاء إلا ليلتمس الحكمة من منبع الحكمة، أو يطلب النور من حيث يطلع النور. أو يبغي إيقاظ الهرم الراقد، إذ عز عليه أن يطول رقاده. . ولكن الحق انه ما جاء لشيء من هذا كله. بل ساقه إلى الهرم الأكبر ذلك الفضول، ذلك الشغف بالاطلاع والاستطلاع، والذي هو من غرائز العجماوات. . ثم لكي يستطيع ان يقول للنواطح الأخر إنه طاف بالهرم الأكبر وحظي بالمثول بين يديه، بل قد يزعم أنه غالبه فغلبه، وسابقه فسبقه

لم يكد يستقر المقام بناطح السحاب حتى انفتح منه الطابق الأعلى، وأخذ يخاطب الهرم وفي صوته تلك الغنةَّ التي امتاز بها أهل امريكا، كأنما يسدون أنوفهم إذ يتكلمون. . وقال له: عم صباحا يا عزيزي أبا الأهرام. إن الهواء ها هنا جاف حار، وقد طال سيرى في البيد، وبلغ مني الظمأ، ولا أجد في هوائكم سحابا يجلل هامتي، ويبرد أو أمي

قال الهرم: عم صباحا ناطح السحُب! هل لك في الجلوس لتستريح قليلا من قطعك البحار في القفار؟

قال: هيهات لمثلي الجلوس! أني لا أقضي حياتي جاثما فوق أديم الثرى، بل ناهضا قائما، أحمل هذه الطباق السبعين بين جدراني.

قال الهرم: أجل وفي طيها هذه الكائنات الغربية من كل ما هب ودب!

قال: إن في باطني، وبين جوانحي إحياء ملؤها الحركة والنشاط، أما أنت فلم تشتمل إلا على أجساد هامدة.

قال الهرم: تأدب يا ناطح! إن جسد خوفو الذي أضم بين جوانحي لأعز على الدهر من كل هذه الأحياء التي انطوت عليها طباقك السبعون.

قال: ان بلادك تحيا حياة جمود.

قال الهرم: ليست حياة الجمود بِشَرَّ من جمود الحياة

قال الناطح: أرجوك ألا تكلمني، بلغة الكهان القدماء واذكر أننا في عصر البخار والكهرباء، وفي القرن العشرين بعد الميلاد. لا قبل الميلاد منذ أربعة آلاف من السنين، كان فرعونكم يسأل كاهنه عن الأمر العويص. فلا يحير الكاهن جوابا. فيُلْجئه العجز إلى هذه العبارات المبهمة والاسجاع الغامضة. أما أنت فما أخرك أن تخاطبني بلغة العصر، وان تحدثني في صراحة ووضوح.

قل لي: انك لست إلا قبرا. ومع ذلك فأنت رمز لهذه الأمة القديمة. فكيف ترضى أمة حية ان يكون رمزها الذي يدل عليها قبراً من القبور.

قال الهرم: أنا رمز الخلود، رمز البقاء: رمز السَّرْمَدية التي تنتظم الوجود. ما هذه الآلاف السنين التي تذكرها غير حباب يطفو على موج الأثير الأزلي، وما أنت والنواطح أمثالك، وما بخارك وكهرباؤك سوى ذرات في هباء تذروها رياح الأبد. وما كيانكم وأقداركم وحظوظكم سوى اهتزازات في أطراف جناح الدهر الخفاق. .

لقد شغلتكم الحياة عن التفكير في الحياة. وأعماكم النور عن رؤية ما وراء النور، وألهاكم الوجدُ عن حكمة الوجود. . ولعمرك ماذا تستطيع في الدهر، وماذا تنال من الأزل شرارة لا تكاد تذكو حتى تخبو، ولا تكاد تبدو حتى تختفي؟

فأطرق الناطح مليا ثم قال: ان الحياة أعز لدي من سر الحياة، والوجود أحب إلي من حكمة الوجود. فدعني من أزليتك وأبديتك! ان ساعة واحدة من حياتنا الأمريكية الممتلئة حركة وجدا ونشاطا، أشهى إليَّ من آلاف السنين أقضيها مثلك رابضا فوق التراب في همود وخمود، وسبات ورقاد. إنني ضَحَّيتُ بالدهر من أجل الساعة، وأعرضت عن الأزل من أجل اللحظة.

قال عيسى بن هشام: ولم يكن الهرم يوما ممن يُطيلون الجدل، فحينما أبصر في محدثه كل هذا التمادي والغرور أعرض عنه لحظة. ثم حدجه بنظرات حداد. فإذا المغرور يرتعد وينتفض، ولم يكن إلا مقدار ما يسقط الشهاب، أو يلمع البرق، فإذا الناطح تندك أركانه، ويتداعى بنيانه، وتتساقط طباقُه السبعون بعضها فوق بعض، فأضحى هشيما منثورا. وأثراً من بعد عين.

أما الهرم الأكبر فلم يلبث أن عاوده السكون وغشيه الهدوء، وكأني سمعته حين أغمض عينيه ينشد شعرا غريبا، بل أكاد أجزم أني سمعته يتمتم، في صوت غامض مبهم، بهذه الأبيات الغامضة المبهمة:

العيش مستعذب عذاب ... والعمر تلهو به سراب

والناس تبني. وما بناءٌ ... إن كان في أسه الخراب؟

في إثر فوج يروح فوج ... فهل لذى روحة إياب؟

مهدٌ يضم الورى ولحد ... فهل هما البدء والمآب؟

الناس تجري على سفين ... في بحر وهْم له حباب

فلا سرور ولا صفاء ... ولا انتحاب ولا اكتئاب

ولا شقاء ولا نعيم ... ولا ابتعاد ولا اقتراب

للمرء من دهره سؤالٌ ... ما بالهُ راعه الجواب؟

ثم عاوده سباته العميق. وظل راقدا غارقا في رقاده، نائما يغط في نومه.

لم يكد عيسى بن هشام أن يبلغ هذا الموضع من حديثه، حتى هاج سامعوه وماجوا. وأخذوا يتصايحون ويتصارخون، وقال قائل منهم: اشهد يا ابن هشام لقد أدركك الخرَف ولم تعد تحسن الحديث. فما أحراك أن تمتنع عن التحدث إلى الناس! أو تكف عن الإدلاء بمثل هذه الترهات. أو قل إنك رأيت هذا في المنام، وإنه أضغاث أحلام.

ثم انصرفوا. ولبث عيسى بن هشام في مكانه، حزينا كئيبا، يندب جده العاثر، وبأسف على مجده القديم، حين كان يتحدث، فترهف لحديثه الإذان، وتميل نحوه الأعناق. ولا يكاد الناس يملكون أنفسهم من الإعجاب.