مجلة الرسالة/العدد 262/جورجياس أو البيان

مجلة الرسالة/العدد 262/جورجياس أو البيان

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 07 - 1938



لأفلاطون

للأستاذ محمد حسن ظاظا

- 3 -

تنزل (جورجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها

أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلاً)

للفلسفة!)

(رينوفيير)

(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائماً وتنتصر لأنها أقوى وأقدر

من جميع الهادمين!)

(جورجياس: أفلاطون)

الأشخاص

1 - سقراط: بطل المحاورة: (ط)

2 - شيروفون: صديق سقراط: (س)

3 - جورجياس: السفسطائي: (ج)

4 - بولوس: تلميذ جورجياس: (ب)

5 - كاليلكس: أثيني: (ك)

ط - حسن! ومادمت تُعجب بمهارتك في فن البيان، وبقدرتك على تعليمه للغير، فأخبرني ما هو موضوع ذلك الفن. إن لفن النسج مثلاً موضوعاً هو صنع الأقمشة. أليس كذلك؟

ج - بلى

ط - وموضوع الموسيقى هو تأليف الألحان؟

ج - نعم ط - يالجينون! إني لمعجب جداً بإجاباتك يا جورجياس! إذ لا يستطيع أحد أن يجيب بأقصر من ذلك!

ج - وأنا أغبط نفسي لنجاحي التام في هذه الناحية!

ط - الحق أنك غير مخدوع في ذلك قط! فأرجو أن تجيبني بالمثل عن علم البيان وأن تخبرني عن موضوعه!

ج - موضوعه الخطب والأحاديث

ط - أية خطب يا جورجياس؟ أتلك التي تشرح للمرضى قانون الغذاء الذي يجب أن يتبعوه كما يتم لهم الشفاء؟

ج - كلا

ط - إذا لا يشمل موضوع البيان كل أنواع الخطب؟

ج - من غير شك

ط - ولكنه يعلم الناس - مع ذلك - الكلام؟

ج - نعم

ط - وهو يعلم أيضاً التفكير في سبب تعليمه الكلام؟

ج - نعم دون ما تناقض

ط - ولكن ألا يبحث فن الطب - الذي اتخذناه مثلاً - ويتكلم في الأمراض؟

ج - بالضرورة

ط - وإذاً أيكون الكلام من موضوعات الطب كما يبدو؟

ج - نعم

ط - أو بالأحرى الكلام الذي يتعلق بالأمراض على الأقل؟!

ج - تماماً!

ط - وبالمثل، ألا يكون موضوع (الرياضة البدنية) هو الكلام في حسن استعداد الجسد أو سوئه؟

ج - هذا صحيح

ط - وهل الأمر بالمثل في الفنون الأخرى يا جورجياس؟ هل موضوع كل منها هو الكلام المتعلق بما تعالجه من شئون؟

ج - يلوح ذلك

ط - ولم لا تطلق إذاً اسم (البيان) على تلك الفنون الأخرى التي موضوعها (الكلام) ما دمت تطلق هذا الاسم (إطلاقاً) على فن موضوعه الكلام؟

ج - يرجع السبب في ذلك يا سقراط إلى أن الفنون الأخرى تكاد تتعلق فقط بأعمال اليد أو بما يشبه هذه الأعمال من إنتاج. أما البيان فلا ينتج أي عمل يدوي. ولا يقوم كل أثره ونفوذه إلاّ في الكلام فحسب. وهذا ما يجعلني أصرح بأن موضوع البيان هو الكلام، وما يجعلني أدعى أن قولي هذا صحيح!

ط - أعتقد أني فهمت ما تريد أن تعنيه بذلك الفن. ولكني أريد أن يزداد الأمر وضوحاً فأجبني: أليست عندنا فنون كثيرة؟

ج - بلى!

ط - ومن هذه الفنون - كما أظن - ما يقوم في أساسه على العمل دون أن يحتاج لغير أقل قدر من الكلام، أو دون أن يحتاج إلى كلام قط؛ فيتم عمله في صمت تام كالحفر والتصوير وفنون كثيرة أخرى مما قد قلت عنها - فيما يتراءى لي - أنها لا تتصل بالبيان قط؟ أصحيح هذا؟

ج - إنك لتمسك بفكرتي تماماً يا سقراط

ط - هذا بينا توجد على النقيض فنون أخرى تعتمد تقريباً على الكلام ولا تحتاج إطلاقاً إلى أي عمل كالحساب والإحصاء والهندسة ولعب الشطرنج وفنون أخرى كثيرة، إذ بين هذه ما يتطلب من الكلام أكثر مما يتطلب من العمل، بل إن أغلبها يتطلب بالفعل (كلاماً) أكثر. ولذلك تقوم كل قوتها وأثرها في الكلام فحسب. فترى هل البيان من ذلك النوع الذي ذكرت كما يبدو؟

ج - إنك تقول حقاً

ط - ومع ذلك فقصدك - كما أظن - ليس إطلاق اسم البيان على أحد هذه الفنون، لأنه ما إن نقول عامدين إن البيان فن تقوم كل قوته في الكلام حتى يتعلق بعضهم بالألفاظ ويخرج منها قائلا: (إنك إذاً تطلق البيان على الحساب يا جورجياس!). ولا أحسب أنك تسمي الحساب أو الهندسة بهذا الاسم

ج - إنك مصيب يا سقراط وقد فهمت قولي كما يجب أن يفهم!

ط - إذاً أتمم إجابتك على سؤالي. ما دام البيان أحد هذه الفنون التي تعتمد الكلام اعتماداً أساسياً، وما دامت هناك فنون مثله في ذلك الاعتماد، فأخبرني من أية ناحية يعتمد البيان على الكلام؟ إذ لو سألني مثلا أحدهم عن موضوع فن من الفنون التي أسميها بأسمائها وقال ما هو الحساب يا سقراط؟ فإني أجيبه - كما أجيب الآن - بأنه أحد الفنون التي تعتمد تماماً على الكلام. فإذا سألني ثانياً: من أية ناحية ذلك الاعتماد؟ أجبته: من ناحية الزوج والفرد كيما ندرك عدد الوحدات في هذا وفي ذاك. . . وهو إذا سألني بالمثل عن الإحصاء قلت له أيضاً إنه أحد الفنون التي كل قوتها في الكلام. فإذا طلب: من أية ناحية ذلك؟ قلت: - كما يفعل جامعو الأصوات في الجمعية - إن الإحصاء يقوم للفنون الأخرى مقام الحساب لأن موضوعهما واحد: أي معرفة الزوج والفرد. وهناك فقط هذا الفارق: وهو أن الإحصاء يبحث في كمية الزوج والفرد لا إطلاقاً فحسب، ولكن أيضاً في علاقات هذه الكمية ونِسبها. وكذلك إذا سألني أحدهم ثانياً عن الفلك وأضاف بعد قولي له إنه فن يعبر بالكلام عما هو في دائرة اختصاصه - أضاف: على أي شيء ينطبق القول في الفلك؟ أجبته بأنه ينطبق على حركة الكواكب والشمس والقمر كما يمتد فيتناول علاقات سرعتها بعضها ببعض

ج - حسن جداً يا سقراط

ط - إذاً أجبني بالمثل يا جورجياس! أليس لبيان أحد هذه الفنون التي تعالج كل شيء وتنجزه بالكلام؟

ج - هذا صحيح!

ط - ولكن أخبرني من أية ناحية هذا؟ وما هو الموضوع الذي يتصل به ذلك الكلام الذي يستعمله البيان؟

ج - إنه يا سقراط أعظم أعمال الإنسانية وأرفعها!

ط - لم يزل ما تقول يا سقراط موضع شك وغموض! ويبدو لي أنك قد سمعت في الولائم تلك الأغنية التي يعدد فيها الندماء خيرات الحياة ويقولون إن أول هذه الخيرات هو الملبس الحسن، وثانيها الجمال الرائع، وثالثها الغنى الحلال كما يقول مؤلف هذه الأغنية؟ ج - لقد سمعتها حقاً ولكن لم تذكرها؟

ط - ذلك أن أصحاب هذه الخيرات التي يتغنى بها الشاعر كالطبيب، ومدرب الرياضة البدنية، ورجل الأعمال، سيقفون في الحال إلى جانبك، وسيبدأ الطبيب فيقول لي إن جورجياس يخدعك يا سقراط لأن موضوع فنه ليس من خيرات الإنسانية الكبرى في شيء، بينا موضوع فني أنا هو الذي يتصل بهذه الخيرات! فإذا سألته: وما مهنتك أنت يا من ترسل هذا القول فإنه سيقول (إنني طبيب!) وإذا ما سألته: ماذا؟ أتدعي أن أعظم خيرات الإنسانية هو ما ينتج من فنك؟ أفلا يحتمل أن يقول لي متسائلاً: وهل يستطيع أحد أن يجحد ذلك ما دامت (الصحة) هي ثمرة هذه الفن؟ وهل هناك خير يفضل الصحة لدى الناس؟

(يتبع)

محمد حسن ظاظا