مجلة الرسالة/العدد 263/التاريخ في سير أبطاله
مجلة الرسالة/العدد 263/التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . . . . .
- 18 -
وكان ابراهام في الحادية والخمسين من سني عمره بينما كانت تتأهب البلاد لانتخاب رئيس جديد للولايات إذ كان عام ستين وثمانمائة وألف هو نهاية مدة الرئيس القائم؛ وكان انتخاب رئيس الولايات أهم الحوادث السياسية التي تشهدها البلاد، وإنه لأعظم خطر اليوم وأبعد في مصير البلاد أثرا؛ ذلك أن الانتخاب إنما يقوم هذه المرة على ما يشغل الناس في أمر العبيد وفي أمر الوحدة، لهذا كان ذلك العام نقطة يبدأ منها تاريخ البلاد عهد جديدا ويتدرج في مسلك جديد. . .
وكان الحزب الجمهوري وهو الذي ينتمي إليه ابراهام ويعد من أبرز رجاله، أقوى الأحزاب نفوذا وأعزها نفرا،، إذ كانت مبادئه أقرب من غيرها إلى قلوب الناس في الشمال فهو يعمل على أن يحول دون انتشار العبيد وهو يكره نظام الاستعباد ولكنه يرعى جانب الدستور في كل ما يقول أو يعمل
أما الحزب الديمقراطي فقد هان على الناس أمره بانقسامه وتنازع رجاله؛ ففريق من أهل الجنوب يكرهون اليوم دوجلاس لما كان منه أيام مجادلاته مع لنكولن. . . أو لم يصرح إن لكل ولاية الحق كل الحق أن تقضي على نظام العبيد فيها متى شاءت ذلك، فوقع بتصريحه هذا في حبائل خصمه؟ ثم إن فريقا من الديمقراطيين في الشمال قد كرهوا منه معارضته الرئيس بيو كانون في دستور كنساس حتى لقد فكر بعض الجمهوريين في ضمه إلى حزبهم! وإنه اليوم ليجني ثمار غرسه. وهل كان له أن يجني من الشوك العنب؟. . . لذلك فشل الديمقراطيون حينما عقدوا مؤتمراً لهم ليجمعوا أمرهم على رجل يعدونه للرياسة وانفض مؤتمرهم وقلوبهم شتى.
وأخذ الجمهوريون يستعدون للمعركة القادمة فامتلأت صحفهم بفيض أقلامهم، وماجت كبريات البلاد في الشمال بمظاهر نشاطهم ومعالم استعدادهم.
ففي ربيع ذلك العام الفذ عقد الجمهوريون في ألينواس مقاطعة لنكولن، مؤتمراً لينظروا في نشر الدعوة له في الولايات ليحظى ابراهام بترشيح الحزب إياه في مؤتمره العام ليكون رجله في انتخاب الرياسة! وفي ذلك المؤتمر التمهيدي الذي عقد في مدينة ديكاتور اشتدت حماسة المؤتمرين لابراهام فما تهتف الألسن إلا به وما تحنو الجوارح إلا عليه؛ ولا يقتصر الأمر على المؤتمرين فهاهو ذا جمع حاشد من الناس يهتف به في شوارع المدينة، وعلى رأس هذا الجمع ابن عم له كان يعمل معه في شق الأخشاب قبل ذلك بثلاثين سنة. . . أنظر إلى ابن عمه هذا يحمل العلم على قطعتين شوهاوين من الخشب، وهو ينبئ الناش في زهو أنهما من صنع أبراهام قطعتهما فأسه يوم كان يعمل في الغابة، فهو من الناس وللناس! ثم انظر إلى وجوه القوم كيف تتهلل بشراً، واستمع إلى ألسنتهم كيف تضيف إلى ألقاب ابراهام التي ألفوها لقباً جديداً، فهو أيب الأمين وهو أيب العجوز وهو أيب فالق الأشجار. . .
وانعقد في الصيف المؤتمر الجمهوري العام في شيكاغو، وتدارس المؤتمرون طويلاً ثم أعلنوا ما اتفقت عليهم كلمتهم من المبادئ، فلم تخرج عما أوضحه ابراهام في خطبه وأحاديثه، وقد احتشد في تلك المدينة عدد عظيم من أهلها ومن غير أهلها بلغ أربعين ألفا ليشهدوا هذا المؤتمر العظيم والتفت تلك الجموع حول مكان الاجتماع. . .
وجاء دور الانتخاب واجتمع ممثلو الولايات لاختيار رجل يمثل الحزب جميعا، وجرت في القاعة أسماء خمسة أشخاص يختار منهم واحد، من هؤلاء لنكولن من سبرنجفيلد وسيوارد من نيويورك. . . وكان سيوارد في نظر أهل الشمال الزعيم الحقيقي للحزب الجمهوري فهو رجل واسع الثقافة عظيم الخلق يحب بلاده ويكبرها وهو كابراهام يمقت نظام العبيد وقد ظل يحاربه زهاء ربع قرن في غير هوادة.
وظن الناس وشاع فيهم بادئ الأمر أن الأمر سيتم لسيوارد في هذا المؤتمر! وكذلك ظن سيوارد فلم يكن يحس منافسة ابراهام إياه؛ أما ابراهام فكان فؤاده يحدثه أن النصر له هذه المرة فهو يحس في أعماق نفسه دون أن يدري لما يحس سببا أنه عند الناس أرجح كفة من صاحبه وأن شبه لهم غير ذلك
ولكن القلق يساوره أحياناً وهو جالس في سبرنجفيلد في قاعة أحد أصدقائه من رجال الصحافة أثناء انعقاد المؤتمر فهو يقول لهذا الصديق (إني أعتقد يا صديقي أني سأعود ثانية إلى مكتب المحاماة وأعمل عملي في القانون. . .) ثم يعاوده الأمن برهة ويخالجه الشك برهة كما يحدث عادة في مثل هذه الأحوال حينما ينتظره المرء عاقبة أمر يهمه؛ وأي أمر هذا الذي كان يتوقع إبراهام عاقبته؟ إنه اليوم في مفرق الطرق من حياته، فإما إلى رسالته وإما إلى حرفته. . .
لقد طال به الانتظار حتى كاد أن يسأم، ولم يأته نبأ عن المؤتمر فلينصرف إلى القراءة حيناً، وإنه لكتاب شعر لبيرنز، هذا الذي يقلب صفحاته، ويقرأ كما يقرأ المرء في مثل تلك اللحظات بعينيه أكثر منه بعقله؛ ولكنه يدع الكتاب ليفكر وليتنازع فؤاده الشك واليقين. . .
والمؤتمر منصرف إلى عمله في شيكاغو يفتتح في رواية البلاد فصلاً جديداً سوف يترتب عليه كل ما يليه من فصول. . . والناس من حوله يموج بعضهم في بعض، وهم يتساءلون لمن يكون النصر؟ فيؤكد هذا بأن النصر لسيوارد في إشارة حازمة ولهجة جازمة، فيقبل عليه جماعة منهم فرحين؛ ويصيح ذاك: كلا بل النصر لفالق الأخشاب. فيتهافت عليه كثيرون. . .
وتعلن نتيجة الدفعة الأولى للولايات فإذا سيوارد يزيد على إبراهام بسبعين صوتاً وصوت، فيهتف أنصار سيوارد ويكتئب أصحاب ابراهام. . . وتعلن الدفعة الثانية فإذا ابراهام لم يبق بينه وبين سيوارد سوى ثلاثة أصوات. . . ويسود الصمت في جنبات المؤتمر وقد علقت الأنفاس وشخصت الأبصار وخفقت القلوب وتأهب رجال الصحافة لتلقي النبأ الأخير. وما هي إلا لحظة حتى يرتفع صوت باسم لنكولن، فهبت في المكان عاصفة هائلة من الهتاف والتصفيق تجاوبها خارجه عاصفة أشد منها قوة وأطول أمدا إذ يظل الناس يتعانقون ويتصايحون ويقذفون بقبعاتهم في الهواء ويتواثبون ويرقصون زهاء ربع الساعة كأنما مسهم طائف من الجنون. . .
وابراهام في غرفة صاحبه في سبرنجفيلد يوجس خيفة في نفسه طوراً، ويثق في النصر طوراً، وحوله جماعة من أنصاره ينتظرون كما ينتظر، وإنهم كذلك إذ يقبل شاب من مكتب البرق يحمل رسالة ويطفر بها كما يطفر العصفور من المرح ويقبل على ابراهام فيحمل إليه النبأ السار، ثم يهيب بالحاضرين أن يهتفوا ثلاث مرات لأيب الأمين رئيس الولايات المقبل. . .
ويقبل على ابراهام صحابته وفي مآقيهم دموع الفرح وعلى ألسنتهم ما لا يفي بالتعبير عما في قلوبهم من معاني الابتهاج، وهو منشرح الصدر مثلج الفؤاد ولكنه واقف بينهم معقود اللسان لا يجد من الكلام ما يفصح عما في نفسه، وبعد برهة يقول لهم: (إن امرأة صغيرة قصيرة هنالك في بيتنا يسرها أن تعلم هذا النبأ. يقول ذلك ويمضي مسرعاً إلى ماري فيفضي إليها بأجمل وأبهج ما انفرجت عنه أمامها شفتاه. . .
ويأتي بعد ذلك وفد من قبل الحزب يعلن إليه رسمياً نتيجة الانتخاب فيلقاهم ابراهام في داره، فما يبرحونها إلا وقد ارتبطت قلوبهم بقلب ذلك الرجل العظيم. . . وهكذا يظفر ابراهام لنكولن فالق الأخشاب بتأييد أكبر حزب في البلاد. . . هكذا يظفر النجار ابن النجار فيصبح رجل الساعة ومناط الرجاء في قومه
ولبث ابراهام نحو أربعة أشهر في سبرنجفيلد حتى حان موعد الانتخاب للرياسة، لبث في المدينة هذه المدة فما عهد عليه أحد من أهلها أدنى تغير عما كان عليه، فهو في الناس فرد منهم وإن كان بسبيل أن يذهب عما قريب إلى البيت الأبيض. . . وهل كان مثله يتغير حتى بالذهاب إلى هذا البيت العتيد؟ وهل كانت عظمته إلا منبعثة من نفسه حتى يتكبر أو يظغي؟ إنما هو من الناس وللناس ولسوف يظل أول خادم لهم حتى تزهق روحه في سبيل مبدئه. . .
وظلت سبرنجفيلد أياما في ابتهاج ومرح وابراهام يلقى الوفود في داره خافضا لهم جناحه باذلاً لهم من وده وحبه أكثر مما يبذلون وهم معجبون برجلهم الذي استحق محبتهم وظفر بتأييد كبارهم وتعظيم صغارهم. . . يعجبون منه بكل شيء وخاصة ذلك التواضع الذي يبدو رائع الجلال باهر الجمال. . . لقد أحاطوا بداره ليلة مجيء الوفد وطلبوا إليه أن يخطبهم فأطل عليهم قائلاً (أي مواطني! توجد لحظات في حياة كل سياسي حينما يكون خير ما يفعل أن يحتفظ بشفتيه مضمومتين؛ وإني أحسب أن مثل تلك اللحظات قد حانت الآن بالنسبة إلي)
ولما ضاقت بالوفود داره جعل لقاء الناس في قاعة من مقر الحكم للمدينة، ولا يرد عن مجلسه أحداً، ولا يأخذ الحيطة من أحد، فإذا سأله شخص عن أمر في السياسة ناقشه في هدوء أو أعطاه نسخة من مجموعة خطبه؛ وهو يذهب بنفسه إلى مكتب البريد فيحضر رسائله المتعددة التي تأتيه من كل فج فيفضها ويقرؤها ويرد على ما يتطلب الرد منها إما بيده أو بيد كاتب قد اتخذه له منذ قريب. . .
ولقد سخط الناس في الجنوب على اختيار رجال حزبه له؛ وأصابهم من ذلك كرب شديد وضيق، وراحت صحفهم تناله بفاحش الهجاء، فهو تارة الجمهوري الأسود، وآونة فالق الأخشاب الجاهل، وأحياناً الرجل الذي لا يحسن إلا النكات الخشنة المسفة، وطوراً الشبيه بالغوريلا؛ وهو يقابل ذلك كله بالصبر الجميل مترفعا ترفع الكرام عن جهل اللئام. . . ولم يحدث منذ تألف الاتحاد أن قامت العداوة والبغضاء بين أهل الجنوب وأهل الشمال مثلما قامت بينهم عقب اختيار الجمهوريين لنكولن
أما أنصاره فما فتئوا يثنون عليه في صحفهم وأحاديثهم ويدفعون عنه مكر أعدائه ويدحضون أباطيلهم؛ وضرب سيوارد للناس مثلا طيبا فكتب في إحدى صحف نيويورك يثني على ابراهام ويهنئ البلاد باختياره هذا ويتمنى له الفوز في المعركة الأخيرة. . .
وظل هو في سبرنجفيلد لا يتكلم عن نفسه ولا يأبه لما يتقول عليه أعداؤه؛ أما عن أنصاره فكان يرتاح إلى دفاعهم وإن كان ليتبرم بينه وبين نفسه بما يزجونه إليه من عبارات المديح والإطراء. وما فتئت الكتب تلقى إليه من أنحاء البلاد وهو يجيب عنها غير متخلف ولا مبطئ؛ ومن أجمل تلك الكتب وأغربها كتاب جاءه من بنت صغيره تستفهمه فيه عن أسرته وتطلب إليه أن يطلق لحيته. ولقد رد عليها بهذا الكتاب قال: (أي فتاتي الصغيرة العزيزة: تلقيت كتابك الجدير جداً بالقبول، المؤرخ في 15 من أكتوبر عام 1860، وإني آسف أن أراني مضطراً إلى إخبارك أنه ليس لي ابنة. . . إن لي ثلاثة بنين عمر الأول سبعة عشر عاما والثاني تسعة والثالث سبعة، ومن هؤلاء، وأمهم معهم تتألف أسرتي كلها. . . أما عن إطلاق لحيتي، أفلا ترين، ولم تكن لي من قبل لحية، أني إذا أطلقتها الآن إنما آتي بذلك ما يعد ضربا من التكلف السخيف؟. . . هذا وإني لك الصديق الوفي المخلص. ا. لنكولن). . .
وهبت من الجنوب الشائعات بالنذر، فلقد ازدادت الدعوة إلى الانسحاب من الاتحاد، وإلى إعلان التمرد والعصيان إذا قدر أن ينتخب لنكولن رئيسا للولايات؛ ونمى إليه فيما نمى من الأنباء أن أهل الجنوب يطاردون بالقوة كل من يدعو إلى تحرير العبيد في ولاياتهم. على أن أعظم ما أزعجه يومئذ ما أفضى به إليه قائد من القواد من أنهم في الجنوب يعدون معدات القتال!. . . لقد ارتاع ابراهام لذلك وأحس بميل شديد إلى معرفة كل شيء ولكنه يشعر، ولم ينتخب للرياسة بعد، أن ليس له حق فيما هو فيه من الاستطلاع فيطلب إلى ذلك القائد أن يتبين قبل أن يزده علما بما يجري فإذا لم يكن في الإفضاء بما يعلم خيانة فليفض به وهو يترك الحكم في ذلك له. . .
(يتبع)
الخفبف