مجلة الرسالة/العدد 263/الفروسية العربية
مجلة الرسالة/العدد 263/الفروسية العربية
للميجر كلوب
ترجمة الأستاذ جميل قبعين
- 3 -
ومن أشهر الحكايات ما جاء في التوراة عن سيدنا إبراهيم الخليل (بينما هو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار - رفع عينيه ونظر وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه، فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة وسجد على الأرض وقال يا سيد إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك. خذوا قليل ماء واغسلوا أرجلكم واتكئوا تحت الشجرة، وخذوا كسرة خبز لأنكم قد مررتم على عبدكم. فقالوا هكذا نفعل كما تكلمت. فأسرع إبراهيم إلى الخيمة إلى سارة وقال أسرعي بثلاث كيلات دقيق سميد اعجني واصنعي خبز ملة ثم ركض إبراهيم إلى البقر ثم أخذ عجلاً رخصاً وجيداً وأعطاه إلى الغلام فأسرع ليعمله. ثم أخذ زبداً ولبناً والعجل الذي عمله ووضعها قدامهم وإذ كان واقفاً لديهم تحت الشجرة أكلوا) وأرجو أن ألفت نظركم إلى أن سيدنا إبراهيم عندما دعا هؤلاء الجماعة لم يكن يعرف من هم وقد طلب منهم أن يتناولوا شيئاً من الخبز والماء قائلاً (إن وجدت نعمة في أعينكم) وهذا دليل على أنهم يرفعون من شأنه بتناولهم الطعام عنده، ونراهم جلوساً بانتظار الخبز والماء ولكن نراه يقدم لهم عجلا وزبداً ولبناً بدل الذي دعاهم إليه. ثم يقف بين أيديهم لخدمتهم. فالبدوي يقدم آخر شاة عنده طعاماً لضيف غريب، وهذه هي عادتهم التي ساروا عليها من قرون طويلة. وأظن أن أخبار حاتم الطائي معروفة لديكم إذ أنه بعد أن ذبح جميع ما يملك من ماشية وإبل لإطعام الفقراء من قبيلته في سنة محل ذبح لهم فرسه وهي آخر ما يملك. ومن المتبع أن يقف عبيد الشيوخ على باب الخيمة منادين على الطعام. وقد لقب الناس ابن مهبد أحد شيوخ عنزة (بالمنادي على الطعام) لأن عبيده كانت تنادي الناس يومياً إلى الطعام في سنة قحط
إن العيب كل العيب في نظر البدوي أن تعطي طعاماً يكفي لضيوفك فقط، وحتى في رمضان عندما تكون القبيلة بأجمعها صائمة ترى أنهم ينحرون ثلاثة أو أربعة خ لإطعام بضعة أشخاص مع علمهم بأن بقية الطعام ستذهب سدى. ولقد تعدى كرم البدوي الإنسان إلى الحيوان. ويروى أن عنترة نحر في يوم زفافه مئات الإبل ورماها في البراري لتشاركه الوحوش في فرحه. والبطل السوري مقري الوحوش كان يطلق في البرية كل ما يربحه من غزواته لأنه كان يطلب المجد لا الكسب. وأنا شخصياً أعرف شخصاً اسمه (معشي الذيب) كان يربط جدياً في البرية عندما يسمع ذئباً يعوي قائلاً: (لا يناديني ضيف في المساء دون أن يتناول الطعام). لقد دعوت أنا شخصياً منذ مدة سمو الأمير عبد الله أمير شرق الأردن إلى وليمة بقرب وادي موسى - بتراء، وقد حضر ما يقرب من 500 شخص من الفلاحين للسلام على سموه، ولم أكن أتوقع حضور مثل هذا العدد، ولكن رجالي وكلهم من البدو لم يكونوا مستعدين أن يعرضوا أنفسهم لألسنة الفلاحين الجارحة، ولذلك فإن الطعام الذي طهي كان فضلا عن كفايته لإطعام الخمسمائة شخص فقد قدموا رزاً مسلوقاً وزبدة إلى مطايا الزائرين
حماية الضعيف
وبالإضافة إلى الثلاث الخصال التي تتصف الفروسية بها يوجد طبع آخر في البدو يحمل نفس الطابع الخيالي الذي اتصفت به عاداتهم الثلاث (المجد في الحرب. احترام المرأة. الكرم) التي سبق أن ذكرناها - وهو حماية الضعيف. فعندما يلتجئ غريب أو أرملة أو يتيم إلى بدوي تراه يدافع عنه حتى ليقاتل أقاربه لأجله. فمثلاً حرب البسوس التي وقعت منذ ألف وثلاثمائة سنة عندما أطلق كليب وائل - كبير شيوخ معد - سهماً على ناقة لخالة جساس أخي جليلة زوجة كليب فقد ذهبت تلك العجوز إلى جساس وروت له الحادث، فما تمت رواية قصتها حتى قام ولبس ملابس الحرب وذهب وقتل كليباً. ويقال إن حرباً دامت أربعين سنة بين الفريقين المتحاربين كانت نتيجة لهذا الحادث. وقد وقع مثل هذا الحادث في قبيلة الرولا - إذ طلب شيخ من عجوز من قبيلة الشرارات وهي قبيلة تحتقرها بقية القبائل يتخذ رجالها صناعة النحاس مهنة لهم، فاستجارت العجوز بابن مشهور الشعلان الذي أنجدها حتى أطلق على نفسه في الحرب (أخو ربدة) اسم المرأة التي استجارت به زيادة في تمجيد عمله العظيم. ومن عادات البدوي نجدة من يلتجئ إلى الخيمة. وبهذه المناسبة أود أن أذكر حادثاً وقع معي شخصياً عندما ثار فيصل الدويش مع قبائل مطير على ابن مسعود فحاربهم وانتصر عليهم وقد أرادوا الالتجاء إلى العراق عندما طاردتهم الجيوش السعودية، ولكن أوامر مشددة صدرت إلي بمنعهم من الالتجاء إلى العراق. وقد تمكنت من إيقافهم في موقع وبقيت في انتظار وصول الجيوش السعودية لسوقهم. وفي ذات يوم بينما أنا في خيمتي إذا برجل - وهو أحد زعماء العجمان - يدخل الخيمة ويصيح: أنا أطلب الحماية - وكان هذا الزعيم من المكروهين والمغضوب عليهم من ابن سعود - لقد كان موقفاً حرجاً ومحيراً إذ أن عادات البدوي تقضي بحماية الرجل، وأوامر حكومتي تقضي بعدم السماح لأحد من المرور إلى العراق. ولكني في النهاية قررت أن أتبع تقاليد البدو فأركبته جملا وأفهمته أن يتوجه إلى قبيلة عراقية ساكنة بالقرب منا. لقد كنت أظن أن هذا الحادث قد انتهى وأن ابن سعود لن يسمع به. ولكن راعني أن قدمت في صباح اليوم التالي أربع سيارات سعودية تحمل وفداً برياسة سكرتير ابن سعود الخاص للاحتجاج على عملي بتهريب الرجل. ولكني بلطف صرفت ذلك الوفد. وبعد فترة عاد الوفد يحمل كتابا شديد اللهجة حول تصرفي - لقد تحرج موقفي إذ أن أوامر حكومتي كانت صريحة ولكني صممت على أن أبقى أمينا على عهدي مع الرجل. لم أجد لي مخرجاً من هذا الأمر إلا بأن أفهمهم الحقيقة. وقد فعلت. طلب ابن سعود من الحكومة العراقية بعدئذ تسليم جميع اللاجئين ولكنه لم يشر بحرف إلى رجلي. إن العرب صلاب أشد الصلابة في المطالبة والمدافعة عن حقوقهم، ولكنك إذا التجأت إلى كرمهم فلن يخيبوا ظنك. وهذه قصة سمعتها من شاب ساكن مع بني صخر في شرق الأردن أصله من البلاد الواقعة قرب الخليج الفارسي - قال: قام الوهابيون وكنت معهم بهجوم على بني صخر فقتلنا منهم وقتل منا خلق كثير. وفي تلك الموقعة أصبت بجراح وأغمي علي حتى لم أفق إلا في صباح اليوم التالي أمام خيام بني صخر. قمت أتحامل على نفسي حتى قربت من بيت شَعر وإذا برجل ما كاد يراني حتى أطلق علي عيارين ناريين - وكان قد فقد أخاه في معركة الأمس - ولكن الغضب والحقد أعمياه فأخطأني. حينئذ أسرعت حتى دخلت الخيمة فما كان منه إلا أن رمى بندقيته وأقبل يغسل جراحي.
ومن عادات البدوي التمسك بالصداقة والاعتراف بالجميل. في يوم من الأيام اقتتل ابن علي وابن رشيد من شيوخ قبيلة شمر فطرد ابن علي ابن رشيد مع أخيه من القبيلة، ترك الإخوان القبيلة ومعهما جمل واحد قاصدين البلد المعروف اليوم بشرق الأردن وفي طريقهما نزلا ضيفين على الخريشة فأكرم العبيد وفادتهما إذ كان الشيخ غائباً. وفي صباح اليوم التالي تهيآ للسفر فوجد أن جملهما قد نفق. فسارا على الأقدام، وفي الطريق قابلهما بدوي فسألهما عن حالهما فأخبراه بواقعة الحال، فنزل عن جمله وقدمه إليهما قائلاً: أنا الشيخ ولن يضيفني إنسان راكباً ويترك منزلي راجلا. وعندما عاد ابن رشيد إلى الحكم بقيت الخريشة صديقة معززة مكرمة. ومن الصفات التي يفتخر العرب بها الأمانة، وقصتنا هي حادثة السموأل الذي ضحى بولده على أن يسلم الدروع التي ائتمنه عليها امرؤ القيس. منذ سنين قليلة مضت أغار عودة أبو تاية حليف لورانس على عنزة وكانت الغلبة لعودة، وفي أثناء المعركة رمى شخص نفسه على عودة يطلب الأمان، فأمنه، ولكن الرجل طلب علامة يدرأ بها الخطر عن نفسه فأعطاه عودة كوفيته ونزل إلى المعركة حاسر الرأس. ومرت السنون وإذا برجل غريب يقدم نفسه إلى عودة قائلاً: إن لك عندي قطيعا من الماشية. فسأله عودة عن ذلك فقال: إنني الرجل الذي أعطيته كوفيتك في الموقعة الفلانية وقد بعتها واشتريت بها ماشية وتكاثرت وهأنذا أقدمها لك. إن عودة كان قد نسى ذلك الرجل وكان العداء لا يزال على أشده بين القبيلتين
(يتبع)
جميل قبعين