مجلة الرسالة/العدد 263/حول أدب الرافعي
مجلة الرسالة/العدد 263/حول أدب الرافعي
بين القديم والجديد
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
- 3 -
لو كان الرافعي حياً وعدا عليه عاد في نفسه وأدبه كما عدا سيد قطب ما تحرك بالدفاع قلم غير قلم الرافعي. وما أظن سيد قطب كان يتحرك إذ ذاك بثلب للرافعي أو تنقص لأدبه. أما وقد مات الرافعي فقد ظن سيد قطب أنه يستطيع أن يعدو على الرافعي ويسخر من أدبه باسم النقد، وهو آمن أن يوقعه ذلك في ورطة مهلكة كالتي كان يقع فيها لو أنه تناول أدب الرافعي في حياته، بمثل القلم الذي تناوله بعد مماته، لكن الأدب الكبير الحق، ككل شيء حق كبير في الحياة، يدفع عن نفسه بنفسه عدوان العادين حتى بعد موت صاحبه. ودفاع الحق عن نفسه له مظهران: مظهر إيجابي تقف فيه عناصر الصواب والصدق والخير تجادل عن نفسها عند كل ذي عقل وقلب، وتجعل منه حكماً يحكم لصاحبها ولو بين نفسه ونفسه؛ ومظهر سلبي لعله أعجب المظهرين وأخصهما بطبيعة الحق، يتجلى في تورط مخاصم الحق في أغلاط ومزالق ومهاو يتردى فيها من حيث يحذر ومن حيث لا يحذر، فيكون مخاصم الحق بذلك هو نفسه الذي ينتقم للحق من نفسه بما يكشف من عوارها ويبدي من مقاتلها
والأغلاط التي تورط فيها سيد قطب بالعدوان على الرافعي في نفسه وأدبه كثيرة لم يكن ما بيناه في المقال السابق إلا لأقلها. ويؤذن النقدً بها في أول ما يطالع من تلك الكلمات تطرف صاحبها البالغ في الرأي. والتطرف هو دائماً دليل الهوى وفقدان الاتزان في الحكم إن أغتفر للعامة فلا يعذر فيه الخاصة. فالعقاد عند الكاتب أديب الطبع القوي والقلب، ولا طبع ولا قلب للرافعي. والعقاد عنده لا يليق به لقب أمير الشعراء لأن المسافة بينه وبين شعراء عصره أكبر من المسافة بين الأمراء والسوقة؛ ومعنى هذا أن الرافعي الشاعر لا يبلغ أن يكون في السوقة حين يكون العقاد في الأمراء
ويزداد شطط الكاتب كلما تقدم به الشوط. فالعقاد يكتب عن عقيدة يكتب عن غير عقيدة. والعقاد يخلق حتى المبادئ الخلقية، والرافعي لا يستطيع أن يخلق شيئاً. ونحن نظن أن الرافعي رحمه الله لم يكن يسره أن تبلغ به المقدرة حد خلق المبادئ الخلقية، لكن كان يسره من غير شك أن يكون له على خلق غير المبادئ الخلقية شيء من المقدرة
والعقاد بعد ذلك هو أديب الذهن المشرق (مقال 6) والطبيعة الممتازة والنفس الرحبة والمواهب التي تنتفع بالثقافة وتعلو على حدود الثقافات! أما الرافعي فهو أديب الذهن المريض الخابي المغلق غير ذي النفس ولا الثقافة. ثم العقاد فوق ذلك وقبل ذلك هو الكاتب الجبار الذي بقي (وتضعضع خصومه ووراءهم قوة العدد وقوة الحكم وقوة المال وقوة الماضي الوطني وكل قوة مأمولة في الوجود)! أما الرافعي فهو أحد خصوم العقاد الذين لم يغن عنهم حيال جبورته التجاؤهم إلى الدين وهو أقوى أثراً من السياسة وأكثر اتباعاً، فكانوا رغم استعانتهم بالدين في محاربة العقاد من المغلوبين. فصاحبنا كما ترى لا يتشكك في أن العقاد هو هزم الوفد وهو هزم غير الوفد ممن استعان في خصومته بسلطان السياسة أو الدين. وتقوم غاشية الهوى دون عقل صاحبنا فلا يبصر العوامل المتعددة القوية التي كان مجموعها أقوى من سلطان الوفد فانهزم، ولا يذكر أن المعركة التي انهزم الوفد فيها كان أمضى سلاحها سلاحاً دينياً، وكان من أكثر الناس استعمالا له حين جد الجد العقاد
إلى هذا الحد من الإسراف والغفلة بلغ بصاحبنا هواه. وجدير لمن يتصدى للحكم بين اثنين هذا مبلغ إسرافه فيهما على نفسه أن يغفل حسنات أحدهما ولا يبصر سيئات الآخر، وأن يخرج النقد من قلمه شيئاً آخر أو أقل خلقاً آخر ينكره الحق ولا ينكره الباطل لغلبة الهوى عليه وقلة أثر العقل فيه
لكن صاحبنا لا يعجبه أن ينبه منبه إلى ما في إسرافه ذلك من خطر عليه هو: على نزاهة حكمه وحرية رأيه واستقلال فكره وحيوية نفسه وسلامة طبعه، فيرد على من نبهه رد المغيظ المحنق رامياً إياه بتكلف التورع والتنطس تارة، وبعدم التفريق بين الكيف والكم ولا بين الصدق و (النخع) تارة أخرى، زاعماً أنه فيما قال إنما يتبع البرهان والدليل! وإلى الخطر الذي يحيط ببرهانه هذا ودليله أريد تنبيهه، فلم يزد على أن جاء بدليل آخر على إسرافه في التشيع حين لم يتنبه إلى احتمال وقوع الخلل في رأيه ومنطقة من جراء غلوه، وحين زعم زعم لنفسه وللناس أن رأيه ذلك إنما بناه على البرهان والدليل
إن الناقد الحق كالقاضي العدل، من أظهر صفاته وأوضح إماراته أن يطبق قانونه تطبيقاً واحداً على المتخاصمين. قد يكون للقانون الذي يطبقه القاضي معيباً في ذاته، لكن القاضي لا يسأل في العادة عن ذلك وإنما يسأل عن التطبيق. وقد يخطئ القاضي في التطبيق لكنه على أي حال يجب ألا يخطئ الروح روح الإنصاف والتسوية بين الناس عند تطبيق القانون. والناقد كالقاضي في هذا الشرط شرط وجوب التزام روح الإنصاف والتسوية بين الخصوم عند تطبيق معايير النقد، إلا أن الناقد له على القاضي مزية التمتع بقسط غير قليل من الحرية في اختيار معاييره ومقاييسه في حين أن القاضي لا يملك شيئاً من الحرية في اختيار القانون الذي يحكم به بين الناس. فالناقد والقاضي متساويان في تبعة الروح الذي به يطبقان ما بيدهما من أصول وقواعد، لكن تبعة اختيار هذه الأصول والقواعد إذا أعفي منها القاضي فلا يمكن أن يعفي منها الناقد كل الإعفاء، بل ولا بعض الإعفاء عند التحقيق
والقواعد التي جرى عليها الكاتب في المفاضلة بين الرافعي والعقاد وفي محاجة المنتصرين للرافعي ممكن استنباطها في سهولة من تضاعيف كلامه، لكنا لا نريد الآن أن نحاسبه على قواعده ومعاييره ومبلغها من الصحة والدقة، ولكن نحاسبه الآن على الحد الأدنى من تبعة الناقد وهو القدر المشترك بين الناقد والقاضي من تبعة التسوية بين الخصوم في تطبيق الأصول والقواعد مهما تكن تلك القواعد والأصول
لكنا لا نكاد نشرع في قياس كفايته في النقد ونزاهته في الحكم بهذا الحد الأدنى الضروري حتى يتضاءل وينزوي عنه سجل النقاد كما يتضاءل القاضي وينزوي إذا حاكم الخصمين في المسألة الواحدة إلى غير قاعدة أو مادة واحدة وغلب ذلك عليه في قضائه بين الخصوم
فناقدنا لم يقترف في نقده جرماً أقل من كيله بمكيالين وتفكيره بمنطقين في حكومته بين الطرفين في الموضوع الواحد والنقطة الواحدة، فله ولصاحبه منطق ومكيال، ولخصومها في نفس الموقف ونفس الموضوع منطق آخر ومكيال آخر. والقاعدة في ذلك - على ما يظهر - أن يكون الحكم دائماً لمن يحب على من يبغض. وإليك من ذلك أمثلة في غير إطالة ولا استقصاء
يرى الكاتب أن العريان أساء تقدير العقاد لأنه لم يختلط بالعقاد أولاً ولم تنفتح نفسه لأدب العقاد فيفهمه ثانياً. والكاتب يقر بأنه لم يختلط بالرافعي وبأنه يكره أدبه. ولا يخطر بباله مع ذلك أنه أساء تقدير الرافعي لنفس السبب الذي من أجله رأى أن العريان أساء تقدير العقاد
ويرى الكاتب أنه ينبغي في تحديد معنى السب والشتم أن يطبق علم النفس وعلم الأخلاق على العالم الأدبي فلا ينظر إلى الألفاظ ولكن إلى أسبابها وملابساتها. ولا يلتمس للرافعي عذراً من هذا الباب الذي فتحه لالتماس العذر للعقاد
ويعذر العقاد في قسوته على الرافعي لأنه يصور على الأقل ما يعتقد هو أنه حقيقة، ولا يعذر الرافعي بمثل هذا العذر في قسوته على العقاد
ويعتذر عن العقاد فيما أتى إلى مخلوف باعتقاد العقاد عظم الفرق بين نفسه وبين مخلوف، وحنقه أن يجترئ مثل مخلوف على نقده. وقطب نفسه مستعد للثورة والحنق إذا تناول أدبه متناول بمثل ضيق الفهم واستغلاق الشعور اللذين تناول بهما مخلوف أدب العقاد. أي يعتذر عن نفسه وصاحبه في غضبهما لأدبهما بحسن رأيهما في نفسهما وسوئه في غيرهما، وهو باب من العذر يسع كل الناس لكنه لا يتسع للرافعي ومن معه وإن كان الرافعي أجدر أن يثور لإنكار العقاد إعجاز القرآن كما حكاه العريان
ويعتب على العريان في صدد ما كتب عن تلقيب العقاد بأمير الشعراء أنه سمح لصداقته للرافعي أن تعدو على التقدير الصحيح للعقاد، ولا يعتب على نفسه هو أن سمح لصداقته أو محبته للعقاد أن تعدو على التقدير الصحيح للرافعي. وبعبارة أخصر، يتهم العريان في تقديره العقاد لصداقته للرافعي، ولا يتهم نفسه في تقديره الرافعي مع ما يعلم من بغضه الرافعي ومحبته العقاد
ويعيب على الرافعي إتيانه في شعره بالمعاني المألوفة المأنوسة التي سبق إليها الشعراء مثل:
إن يقض دين ذوي الهوى ... فأنا الذي بقيت ديونه
ومثل:
تضني المحب كأنما أجفانها ... ألقت عليه فتورها وملالها
يرى ذلك من ناحيته تقليداً من الرافعي لشعراء الدول المتتابعة والمماليك في مصر وشعراء أواخر العهد العباسي! ويراها من ناحية أخرى معاني مطروقة (يباع كل عشرة منها بقرش في هذه الأيام). حتى إذا قال الرافعي:
يا من على الحب ينسانا ونذكره ... لسوف تذكرنا يوماً وننساكا
وهو كما ترى معنى على أفواه الناس سبق إليه القصص القديم ولابد أن يكون سبق إليه كثيرون من شعراء الدول المتتابعة أو شعراء غير الدول المتتابعة - حتى إذا قال الرافعي هذا لم يعبه عليه ولم يتنقصه من هذه الناحية! وهل تدري لماذا؟ لأنه يعتقد أن الرافعي أخذ البيت عن العقاد
ويعيب على محمود شاكر توسعه في تبيين مذهب المقتدرين من شعراء العربية في العصور المختلفة في الغرض الذي كان بصدده، يعد ذلك منه جرياً (على النسق الخالي من كتب النقد لقدامة وأبي هلال العسكري ومن ينقلان عنهما من تتبع المعنى تتبعاً زمنياً، وحسبان كل شاعر متأخر أخذ هذا المعنى عن شاعر متقدم. . .) وهو مذهب يظن الكاتب به (القصور والجمود) ومع ذلك فظنه هذا لم يمنعه من حسبان الرافعي قد أخذ بيته المذكور آنفاً عن العقاد كما رأيت. ولعل عذره في ذلك أن الرافعي والعقاد كانا متعاصرين حين قيل ذلك البيت فلا سابق منهما ظاهراً في الزمن ولا مسبوق
ثم يرى ناقدنا أن (الحكم على النيات عمل عسير لا يصح الاستخفاف به) إذا كان الأمر متصلاً بالعقاد ونية طه حسين في تلقيبه إياه بأمير الشعراء، أما إذا كان الأمر متصلاً بنية الرافعي في خصومته للعقاد فعندئذ يزول العسر ويجوز الاستخفاف وتتدخل نظرية فرويد والتحليل النفسي في الموضوع فتجعل كوامن الإنسان تظهر من فلتات اللسان، وتكشف قلم الرافعي في رسائل الأحزان عن الرافعي في أعماقه، وتنبئ ناقدنا ذا التعليل والتحليل أن (أهم أسباب الحقد في نظر الرافعي وأظهر دوافعه) هو (فوقان؟ إنسان على إنسان في النتاج الأدبي) وتجعله يصيح: (وهكذا كان الرافعي مع العقاد)!
هذه ثمانية مواقف في الخصومة القائمة حول أدب الرافعي والتي أثار غبارها سيد قطب وجعل نفسه فيها ناقداً وحكما ليس لأحد الطرفين في موقف منها كلام إلا ويصح أن يقوله الطرف الآخر، ولا يمكن أن يستند في الحكم لأحدهما على مبدأ أو أصل أو قاعدة إلا ويمكن الاستناد على نفس هذا المبدأ أو الأصل أو القاعدة في الحكم للآخر لما بين الطرفين في كل موقف من تمام التشابه. لكن صاحبنا واسع الحيلة في النقد، يستطيع أن يفرق بين المتشابهات في الخصومة وأن يطبق المبادئ والأصول والقواعد بحيث تأتي الأحكام كما يريد، فيخرج أحد الخصمين دائماً ظافراً والآخر خاسراً وليس بيد أحدهما من الحجة ما ليس بيد الآخر إلا أن الظافر محبوب والخاسر مكروه لدى ناقدنا المجدد الذي لا يعجبه في النقد مذاهب القدماء
ترى كيف أمكن لهذا الناقد أن يخطئ في تطبيق مبادئه هذا الخطأ ويفرق بين الخصمين في المواقف المتشابهة هذا التفريق إن لم تكن عاطفته قد جمحت به وجعلته يجنح عن صراط النقد السوي والتفكير الحر المتزن ذلك الجنوح الكبير؟
إننا قد بدأنا نشفق على هذا الناقد الناشئ من هول ما جنى على نفسه بتسخيره عقله لهواه في أمر كبير كالذي تصدى له. ولو علمنا أن هذا القدر يكفيه ليفئ إلى أمر الله لوقفنا عند هذا الحد رفقا به وإبقاء عليه فإن فيه عناصر ذات قوة لا يحول بينها وبين النفع والخير إلا أنها تحاول أن تشق لنفسها مجرى غريبا آخر تضيع به حتما بدلا من أن تنضم إلى النهر نهر العربية الكريم الواسع الذي أجراه الله لها بالقرآن.
إن هناك في تاريخ العربية، جداول ضلت الطريق إلى هذا النهر فضاع ضعيفها وكوّن قويها مناقع الأدب العربي ومآسنه ودمنه الخضراء الوخيمة. وأدب الرافعي رحمة الله عليه لم يخطئ منه مجرى هذا النهر القرآني إلا القليل، وإلى هذا القليل نبه الأستاذ العريان فيما أرخ للرافعي وإنْ بأسلوب آخر. وعيب الأديب قطب أنه لم يعرف هذا القليل ولا ذلك الكثير على وجهه، ويحاول أن يتوصل بكل سبيل إلى هدم الرافعي الشاعر الكاتب المجاهد في سبيل الله والعربية والقرآن؛ لكن الذي يحاول هدم الحق ينهدم به وإن تحفظ، ونحن نشفق على أخينا سيد قطب من عاقبة معاداة الحق ومجافاة طريق القرآن. فهل له في أن يفئ إلى الحق وإلى أمر الله؟ إننا نكون أول المغتبطين له وبه إن فعل ونستغفر الله إليه مما يسوءه في هذه الكلمات
(بور سعيد)
محمد أحمد الغمراوي