مجلة الرسالة/العدد 263/من كتاب البحث عن الغد

مجلة الرسالة/العدد 263/من كتاب البحث عن الغد

مجلة الرسالة - العدد 263
من كتاب البحث عن الغد
ملاحظات: بتاريخ: 18 - 07 - 1938



لروم لاندو

للأستاذ علي حيدر الركابي

(أحببت أن أعقب على بحث الأستاذ العقاد بترجمة بعض

المقاطع التي تناول فيها المؤلف لبنان وسورية والعراق

وفلسطين وشرقي الأردن لما تضمنته من تحليل دقيق وآراء

صريحة ومعلومات قيمة)

1 - الجمهورية اللبنانية

لبنان

إن الصلة بين لبنان (هو قطر يسود فيه النصارى) وفرنسا قديمة ترجع إلى عهد الحروب الصليبية ولكنها ازدادت توثقاً سنة 1860 عندما تدخلت الدول الغربية وأجبرت الحكومة العثمانية على منح لبنان شيئاً من الاستقلال المحلي. ومنذ ذلك العهد توسعت المصالح الفرنسية في البلاد وتهيأت نفسية الشعب للحكم الفرنسي بفضل المدارس الفرنسية والكلية اليسوعية في بيروت والرهبان اللبنانيين الذين تلقوا علومهم في فرنسا والكهنة اليسوعيين الفرنسيين. ومع أن دمشق هي عاصمة سوريا الحقيقية إلا أن المندوب السامي يقيم دائماً في بيروت لأن لبنان بسواحله الممتدة يهم فرنسا أكثر من سوريا ذات الحدود الواسعة التي يصعب الدفاع عنها وذات الصحراء المترامية الأطراف

ومع أن فرنسا قد خلقت في سورية عدداً من الدويلات المستقلة كاللاذقية وجبل الدروز وسنجق الاسكندرونة إلا أن سورية ولبنان هما الدولتان الرئيسيتان من الناحيتين السياسية والقومية. وأهمية هاتين الجمهوريتين أعظم بكثير من حجمهما، فمساحتهما لا تزيد على (60. 000 م. م.) وسكانهما لا يزيدون على (3. 500. 000 نسمة). والفضل في هذه الأهمية عائد إلى الوضع الجغرافي والنهضة الفكرية والاتصال الدائم بالغرب. وق كل هذه العوامل مع التنبيه القومي العظيم فجعلت للدولتين أهمية روحية في العالم العربي تكاد تضاهي أهمية مصر. وقد لعب السوريون دوراً رئيسياً في أكثر الثورات والحركات الفكرية والسياسية التي حدثت في الشرق الأدنى منذ عام 1919

يمتاز لبنان على سائر الأقطار العربية بأن الأحزاب السياسية المتناقضة فيه هي المسيطرة على سير الحوادث. والحزبان الرئيسيان هما: أولاً حزب الحكومة المستند بالدرجة الأولى على تأييد النصارى أكثر من غيرهم والذي يرمي إلى أتباع سياسة إفرنسية. وثانياً: الحزب الذي يعارض الأول كل المعارضة ويؤيده أكثر المسلمين وبعض النصارى. وهناك فئة ثالثة ذات رأي معتدل تسعى إلى الابتعاد عن المنازعات الطائفية، أعضاؤها من اللبنانيين المتعلمين والأجانب الذين تمكنوا - بشكل من الأشكال - من أن يلعبوا دوراً هاماً في حياة البلاد

رئيس الجمهورية

لقد دعاني المسيو أميل اده رئيس جمهورية لبنان لتناول طعام الغداء في بيته، وبهذا أتاح لي الفرصة للوقوف على وجهة نظر الحكومة من مصدر عال

يقعُ مكتب المسيو إده الرسمي في السراي الصغيرة في ميدان بيروت الرئيسي، وهي دار الحكومة؛ أما بيته الخاص فهو في الطابق الثاني من عمارة حديثة ذات طوابق متعددة وعلى مدخلها ألواح تشير إلى وجود طبيب وأشخاص من مهن مختلفة بين سكانها. ومع ذلك فإن (الدركيّ) الواقف على الباب والعلم الفرنسي ذا الأرزة في زاويته المرفوع على السطح والعلم الآخر الصغير الموضوع في مكان بارز على السيارة الفخمة الواقفة خارج البناء، كلها دلائل على مكانة أحد سكان العمارة الرفيعة. أما البيت نفسه فهو كبير ومؤثث بفرش حديثة عادية وعلى جدرانه رسوم ليست حديثة تماماً.

إن المسيو اده نصراني لبناني، ولابد في لبنان من ذكر دين الشخص لمعرفة مكانته الرسمية. وقد استقبلني بصحبة زوجه وولدهما. أما منظره فيدل على ذكاء، وهو قصير القامة ويرتدي الملابس الضيقة وقد وضع في صدره شارة جوقة الشرف لجيون دُونير. وكانت كل كلمة أو حركة منه تدل على حيوية لم يسع صاحبها إلى كتمها أو ضبطها. ولو قيل لمن ينظر إليه إنه نائب في مجلس النواب الفرنسي عن مقاطعة في جنوبي فرنسا لما تعجب من ذلك. وهو محام لعب دوراً خطيراً في السياسة اللبنانية منذ الحرب العظمى. وقد تدرج في النيابة إلى رياسة مجلس النواب، إلى عضوية مجلس الشيوخ، إلى رئاسة الوزارة حتى تبوأ أخيراً أعظم مقام رسمي في البلاد.

وكان طعام الغداء لذيذ جداً قدمه لنا خادمان يرتدي كل منهما سترة بيضاء وقفازاً أبيض من القطن. وكان الحديث مثيراً شأن كل حديثُ يتبادل أثناء تناول الطعام في صحبة أشخاص فرنسيين مثقفين، وكان كرم المائدة أعظم ما يواجه الإنسان عادة في بيت مماثل في فرنسا، ولكني مع ذلك كنت أشعر كل الوقت بأني بين جماعة من الفرنسيين حتى أن مظهر زوج الرئيس الجذابة (هي مصرية المولد) وابنته الجميلة وابنه الشاب (الذي يمتهن المحاماة وينظر إلى نفسه والحياة عامة نظرة جدية) كان فرنسياً إلى درجة شعرت معها بأني في باريس نفسها لا في وسط الأسرة الأولى في شعب يفتخر بأنه من نسل الفينيقين.

وبعد الغداء أخذني المسيو إده إلى غرفة صغيرة حيث جلسنا نتحدث، وقد سرني منه أنه كان يستمتع ببسط وجهة نظره أمامي بدرجة استمتاعي بسماعها. قال:

- (إن الفكرة القومية هي الأساس الطبيعي الذي تبنى عليه حياة بلاد فتية، ومعنى هذه القومية في نظرنا هو استقلال لبنان التام باعتبار أنه يشكل وحدة جغرافية وسياسية، وتحالفه المؤبد مع فرنسا. إن بعض المسلمين يتكلمون عن الاتحاد مع سورية إلا أن هذا الاتحاد مخالف لجميع مصالحنا. إننا كنصارى نشكل أكثرية في لبنان، فإذا اتحدنا مع سورية ابتلعنا الأكثرية الإسلامية. وهناك أسباب أخرى تجعلنا معارضين لهذا الاتحاد:

(إن شعبنا - من جهة - يختلف اختلافاً كلياً عن الشعب السوري، إذ أن تقاليدهم غير تقاليدنا وطرز معيشتهم غير طرزنا. أنظر إلى بيروت، هل هي مدينة شرقية؟ إن دمشق شرقية تماماً، ولكن مدينتنا لا تختلف عن أية مدينة في جنوبي فرنسا. أنظر إلى بيوتنا وملابسنا وسياراتنا التي تكاد تبعدنا مئات الأميال عن دمشق. تذكر ليس فقط أن أولادنا قد تعلموا في جامعات أوربية بل أيضاً أن آباءنا قد تربوا تربية غربية، وأن الكثيرين منهم قد تثقفوا في الخارج. أما السوريون فهم ليسوا سوى عرب مسلمين ليس فيهم شيء غربي البتة.

(ثم لنبحث في الناحية الاقتصادية: إن السوريين متشوقون كثيراً إلى مشاركتنا في واردات الكمارك مع أن أكثر هذه الواردات تستوفى من ضريبة مفروضة على بضائع نشتريها نحن لا هم، إذ أن احتياجاتنا أكثر من احتياجاتهم ووسائل الراحة التي نتطلبها أكثر من وسائلهم. نريد أن نكون أصدقائهم ولكن (وهنا أشار المسيو إده بيديه إشارة قوية تدل على التأكيد) يجب أن نعارض دائماً فكرة الاتحاد معهم)

فقلت: (إذاً فإنكم تفضلون يا حضرة الرئيس التحالف مع فرنسا على التحالف مع سورية؟)

فأجاب: (إن هذا التحالف (أي مع فرنسا) هو نتيجة طبيعية للوضع الذي وجدنا أنفسنا فيه. فإن فرنسا قد ساعدتنا في الماضي وأكثرنا يتكلم لغتها. خذني مثالاً لذلك: إني فرنسي أكثر من أن أكون عربياً؛ وقد تربيت تربية نصرانية وجميع تصرفاتي مشابهة تماماً لتصرفات الفرنسيين). وقد شعرت برنة فخر في صوته عندما تفوه بهذه العبارة

وسألته (ولكن ما الحكمة في تحالف أبدي مع فرنسا؟)

فأجاب (لأننا إذا لم تحمنا دولة أجنبية قوية ابتلعنا جيراننا. وأضيف إلى ذلك أننا نحمل رسالة مقدسة يجب تأديتها في الشرق الأدنى: ذلك لأننا الجزيرة النصرانية الوحيدة في بحر من البلاد الإسلامية)

- (إذاً فأنتم معارضون للوحدة العربية؟)

- (إن الوحدة العربية هي ضد مصلحتنا. فإذا اعتنق هذه الفكرة بعض المسلمين عندنا فإن كل النصارى يكرهونها)

- (لقد أشرتم قبل لحظة إلى رسالتكم المسيحية مع أن النصرانية ليست دين الدولة الرسمي في لبنان)

- كلا! فلعل جمهورية لبنان هي الدولة الوحيدة في الشرق الأدنى التي ليس لها دين رسمي. والسبب يعود إلى وجود عدد كبير من الطوائف الدينية عندنا. ومن سوء الحظ أن الدور الفعال الذي يلعبه دائماً رجال الدين التابعون إلى هذه الطوائف المختلفة قد تجاوز الحد وأصبح مضراً بمصلحة البلاد. ولما كانوا يخلطون بين الدين والسياسة فلا نريد أن نعقد الأمور بإدخال الدين رسمياً في المعمعة بشكل من الأشكال، إذ لو فعلنا ذلك لوقعنا في ورطة عظيمة ولضعنا بين الأكثرية المارونية والروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك واللاتين والسنة والشيعة والدروز والأرمن والبروتستانت واليهود!) وهنا ظهرت على وجهه لأول مرة إمارات القلق الشديد وتوقف عن الحديث هنيهة ثم استرسل قائلاً:

- (إن للطوائف المسيحية المختلفة نفوذاً سياسياً قوياً بفضل رجال الدين. ولو أردنا أن نحول دون نشاطهم السياسي لعجزنا عن ذلك؛ ولهذا رأينا المصلحة تقضي بترك هذه المسألة.

ومع ذلك فان تعيين جديد في الحكومة يسبب تذمراً لدى طائفة من الطوائف الدينية. آه لو كنا أحراراً - أحراراً نعمل كما يجب أن نعمل - أحراراً نعين الناس بالنظر إلى مؤهلاتهم لا بالنظر إلى أديانهم. . .)

- (لعل دكتاتوراً يستطيع تسهيل أمرا الحكم في لبنان؟) فرفع يديه وكأنه مشمئز وقال:

(أنا ضد كل دكتاتورية، أنا أؤيد الديمقراطية) وهنا توقف قليلا ثم عاد إلى الكلام بلهجة مختلفة:

(حبذا لو كان بإمكاننا تطبيق النظام الديمقراطي كما تعرفونه في إنكلترا حيث لم يفرض فرضاً غير طبيعي على شعب غير مهيأ له بل كان نتيجة طبيعية للتربية السياسية وفكرة راسخة عند المواطنين الإنكليز. آه ما أسعدكم في إنكلترا وأعظم بها من بلاد!)

وقد رافقت هذه الكلمات أنة شديدة دلت بجلاء على صدق عاطفته

(بغداد - دار المعلمين الريفية)

علي حيدر الركابي