مجلة الرسالة/العدد 264/جورجياس أو البيان

مجلة الرسالة/العدد 264/جورجياس أو البيان

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 07 - 1938



لأفلاطون

للأستاذ محمد حسن ظاظا

- 5 -

(تنزل (جورجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها

أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلا)

للفلسفة!)

(رينوفييه)

(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائماً وتنتصر لأنها أقوى وأقدر

من جميع الهادمين!)

(جورجياس: أفلاطون)

الأشخاص

1 - سقراط: بطل المحاورة: (ط)

2 - جورجياس: السفسطائي: (ج)

3 - شيريفين: تلميذ سقراط: (س)

4 - بولوس: تلميذ جورجياس: (ب)

5 - كاليكليس: الأثيني: (ك)

ط - (رداً على جورجياس) وإذاً فمادام البيان ليس هو الفن الوحيد الذي ينتج الإقناع، ومادامت هناك فنون أخرى تنتج من الإقناع بقدر ما ينتج البيان، فمن حقنا أن نسأل زيادة على ما تقدم (كما سألنا في موضوع المصور): بأي إقناع يختص البيان؟ وما موضوع ذلك الإقناع؟ ألست ترى أن هذا السؤال الثاني مناسباً؟

ج - إنه لكذلك ط - فاجب إذا مادمت تراه مناسباً

ج - حسن يا سقراط. إنني اعني الإقناع الذي يؤُخذ به في المحاكم والجمعيات الأخرى العمومية كما قلت منذ هنيهة، والذي يتعلق بالأشياء الظالمة والعادلة

ط - لقد كنت أشك في أنك تعني حقيقة هذه الأشياء وذلك الاقناع، ولكنني أسألك مع ذلك من جديد، وأرجو ألا تعجب إذا طلبت منك في مجرى الحديث أن تشرح ما يبدو واضحاً من الأشياء، إذ لست أفعل ذلك من أجلك كما قلت قبلاً وإنما أفعله من أجل البحث كيما يتتابع منتظماً، وكيما لا تتذبذب أفكارنا إزاء الأوهام البسيطة يمنة ويسرة، وكيما تستطيع أنت أخيراً أن تكمل القول حسبما تشاء، ووفقاً لما تضع من أصول.

ج - أرى أن ليس هناك أحصف من ذلك السلوك يا سقراط

ط - فلنتقدم إذاً ولنبحث ذلك أيضاً: أتسلم بما يُدعى (معرفة؟)

ج - نعم

ط - وبما يدعى (عقيدة؟)

ج - نعم

ط - وهل ترى أن المعرفة والعقيدة - أي العلم والاعتقاد شيء واحد أو شيئان مختلفان؟

ج - أرى يا سقراط أنهما شيئان مختلفان

ط - إنك تقول حقاً، وتستطيع أن تحكم على هذا النحو إذا سألك سائل قائلاً: هناك يا جورجياس اعتقاد باطل وآخر حق؟ ألست ستوافقه على ذلك دون ريب؟

ج - بلى

ط - ولكن ماذا؟ أهناك بالمثل علم باطل وآخر حق؟

ج - كلا بالتأكيد

ط - فواضح إذاً أن الأمر ليس واحداً؟

ج - ذلك صحيح

ط - ومع ذلك فأولئك الذين (يعرفون) يقتنعون كما يقتنع أولئك الذين (يعتقدون)

ج - أوافقك على ذلك

ط - وإذاً أنستطيع أن نضع نتيجة لذلك نتيجة لذلك نوعين من الإقناع، أحدهما ينتج الاعتقاد من غير علم، والآخر ينتج العلم فحسب؟

ج - حسن جداً

ط - وأي هذين النوعين يستعمله البيان بالمحاكم وبالجمعيات الأخرى في موضوع العدل والظلم؟ أهو الذي ينتج العقيدة بلا علم؟، أم هو الذي ينتج العلم فحسب؟

ج - واضح يا سقراط أنه هو الذي ينتج العقيدة

ط - فالبيان إذا - كما يلوح - عامل الإقناع المولد (للاعتقاد) في موضوع العدل والظلم، لا المولد (للمعرفة) في ذلك الموضوع؟

ج - نعم.

ط - ولا يُعنى الخطيب في المحاكم وغيرها من الجمعيات بتعليم العدل والظلم، ولكنه يسعى فقط لحمل الناس على (الاعتقاد) بهما. ثم هو لن يستطيع أن (يُعلم) أفراداً كثيرين دفعة واحدة مثل تلك الموضوعات الخطيرة في وقت قليل كهذا

ج - كلا بلا شك.

ط - وإذ قد قررنا ذلك أرجو أن نبحث عما ينبغي أن نقوله في البيان لأني لم أكون بعد فكرة دقيقة عما يجب أن أقوله فيه. عندما يجتمع أهل المدينة ليختاروا الأطباء وبناة السفن ومن عداهم أنواع الصناع، أليس صحيحاً أنه سوف لا يكون للخطيب أو (رجل البيان) هنا نصيحة يقدمها، مادام واضحا أنه يجب أن نختار الأكفأ والأمهر في كل من هذه المهن؟؟ وبالمثل في بناء الأسوار والمواني ومصانع الأسلحة: ألا نأخذ بآراء المهندسين؟؟ بل وعندما نتناقش في اختيار أحد القواد أو في النظام الذي نتقدم به نحو العدو أو في الموانئ التي يجب أن نستولي عليها: ألا يبدي هنا رجال الحرب رأيهم من دون الخطباء؟؟ ما رأيك في هذا يا جورجياس؟ إنك رجل بيان، وإنك لقادر على تأليف الخطب، فأنت خير من يتوجه إليه المرء لمعرفة أساس فنك، وتستطيع أن تصور لنفسك فضلاً عن ذلك أنني أعمل هنا من أجل مصلحتك. وأنه قد يوجد بين المساعدين من يرغبون في أن يكونوا تلاميذ لك كما ألاحظ في الواقع، ومن هم كثيرون في العدد إلى حد كبير، ولكنهم قد لا يجرؤون مع ذلك على توجيه الأسئلة إليك. .؛ وإذا فأقنع نفسك بأنني عندما أسألك فإنما أفعل كما لو كانوا هم أنفسهم يسألون قائلين: ماذا عساه يحدث لنا لو قد أخذنا بدروسك يا جورجياس؟؟ وعلى أي أساس نعتمد عندما نسدي النصح إلى مواطنينا؟؟ أنعتمد على العدل والظلم فحسب؟ أم أيضاً على تلك الموضوعات الأخرى التي تكلم عنها سقراط تواً؟؟. فحاول إذاً أن تجيبهم!؟

ج - أريد في الواقع يا سقراط أن أوضح بالتدريج كل خصائص البيان لأنك قد وضعتني تماماً في الطريق حقاً وأحسب أنك تعلم يقيناً أن مصانع أسلحة الأثينيين وأسوارهم وموانيهم إنما أنشأت برأي (تمستوكل) من ناحية، وبرأي (بركليس) من ناحية أخرى دون أن يؤخذ رأي واحد من الصناع!

ط - اعلم يا جورجياس ما يقولون عن (تمستوكل). أما (بركليس) فقد سمعته بنفسي عندما كان ينصح الأثينيين بإقامة سور (مينشي)

ج - وهكذا ترى يا سقراط أنه عندما نحتاج إلى بحث الموضوعات التي تتحدث عنها فهم الخطباء الذين ينصحون والذين يعلو رأيهم!

ط - وهذا ما يثير العجب في نفسي أيضاً يا جورجياس، وما قد دفعني إلى توجيه السؤال إليك عن خواص البيان طوال ذلك الوقت. ويلوح لي أن دراسة تلك الخواص على ذلك النحو عظيمة للغاية

ج - إذا عرفت كل شيء يا سقراط فسترى أن البيان يحوي على ذلك الرأي جميع خصائص الفنون الأخرى. وبرهاني على ذلك قاطع ومؤثر. إذ كثيراً ما دخلت مع أخي وأطباء كثيرين على مرضى معينين ممن كانوا لا يتناولون جرعة الدواء ولا يقاسون الحديد والنار بسبب عجز الطبيب عن كسب نفوسهم؛ وممن نجحت أنا أخيراً معهم دون مساعد غير فن البيان. . .

(يتبع)

محمد حسن ظاظا