مجلة الرسالة/العدد 264/قنطار ثمين
مجلة الرسالة/العدد 264/قنطار ثمين
للأستاذ عباس محمود العقاد
رأيي في الجسم الجميل أنه الجسم الذي لا فضول فيه، وأنه الجسم الذي تراه فيخيل إليك أن كل عضو فيه يحمل نفسه، غير محمول على سواه
من هنا جمال الرأس الطامح، والجيد المشرئب، والصدر البارز، والخصر المرهف الممشوق، والردف الماثل، والساق التي يبدو لك من خفتها وانطلاقها واستوائها أنها لا تحمل شيئاً من الأشياء، ولا تنهض بعبء من الأعباء
بل من هنا جمال الحيوان الأعجم، وجمال المهر الكريم وقد اختال بعنقه وشال بذنبه، وضمر بدنه وأصبح في جملته كالكلام المختصر المفيد، أو الكلام المختصر البليغ، لأنه يبلغ حيث شاء
كان هذا هو الرأي المصري في الجمال قبل ببضعة آلاف من السنين، أيام كان المصريون سادة في الحياة وكان المثال الفائق عندهم لجمال الرجولة والأنوثة ما نراه على الهياكل من صور الرجال والنساء
ولم يكن هذا هو الرأي المصري في الجمال قبل بضعة أجيال، يوم ركد المصريون ركود البطء والكسل فأصبحت الكثافة الواهنة عندهم مقياس الملاحة والقسامة، وأصبح جمل المحمل و (التختروان) مثال الحسن المطلوب في النساء: تعلو المرأة السمينة وتهبط في مشيتها وما تنتقل شبراً في أقل من خطوتين، والمقرظون من حولها يهللون ويكبرون ويباركون الخلاق العظيم ويعوذون هذا الجرم الذي لا تمضي فيه السيوف من لحظات العيون، ومن حسد الحاسدين!
العالم كله يثوب إلى مذهب المصريين الأقدمين في جمال النحافة والرشاقة والنسج الدقيق، ومن العالم كله المصريون المحدثون
وشاع هذا المذهب بعد الحرب العظمى أشد من شيوعه في زمن من الأزمان، حتى غلا بعضهم فأوشك أن يلتمس الجمال في الهياكل العظمية، وهي على أية حال أجمل من هياكل الشحوم واللحوم!
أهي نفحة من نفحات الفن العلوي هبت فجاءة على أذواق الناس في العالم كله فأصبحو جميعاً من صاغة التماثيل الملهمين؟
مثل هذه النفحات - فيما أحسب - أغلى وأرفع من أن تكال جزافاً للملايين في المغارب والمشارق، وبين الأذكياء والأغبياء، وعند من يحسون ولا يحسون
إنما هي (الطيارة) جزاها الله خيراً بما هذبت من أذواق وأصلحت من أخلاق
إنما هي (الطيارة) قد أتمت مذهب السرعة في كل شيء، والسرعة والخفة لا تفترقان، والخفة والسمنة لا تتفقان
فالرجل الذي يقفز من القاهرة إلى الإسكندرية في ساعة واحدة لا يلتفت بعد ذلك إلى امرأة تزن القناطير المقنطرة من الشحم واللحم، ليعجب منها في مشيتها بجمل المحمل والتختروان
والرجل الذي يصعد إلى السماء لا يصبر على حمل الجبال، فالملائكة وحدها هي التي تحسن الصعود إلى تلك الآفاق
وهكذا تعلمنا الآلات أحياناً كيف نشعر وكيف نتذوق الجمال وكيف نصحح الأذواق
على شاطئ الإسكندرية - والمصادفة من أجمل المصادفات - طيارة في الهواء، وفتاة على الأرض هي أولى بالطيران من تلك الحديدة الصاعدة؛ بل هي تطير ولا يتخيلها الناظر إلا طائرة تفلت من لحظات العيون وخطرات الأرواح
لا تحس العين أنها أدركتها، لأنها إذا أدركتها تأملت فيها وسرحت في معانيها، فإذا هي بعيد بعيد، أبعد من الفراش الذي يقع عليه الطفل فإذا هو على الغصن، ويثب إليه في غصنه فإذا هو في الهواء
تلك هي القنطار الثمين!
لأنها لا تزيد في الوزن على قنطار، ولم يخلق في الدنيا قنطار أثمن وأولى بالاقتناء منها، أيا كان معدنه ومبناه
جمالها يزيدك عجباً من دقتها، ودقتها تغريك بوزنها وتقويمها. فأما الوزن فهو ما علمت؛ وأما التقويم فهو ما لا تعلم وما لا يدخل في حساب، لأن هزة من الشعور قد تسومها بكنوز الأرضين والبحار، وهزة من الشعور قد تبذلها رخيصة لمن تهواه
قل إنها تساوى وزنها من ذهب وقل إنها تساوى وزنها من كريم الجوهر
فإنما الحياة هنا هي مقياس التقويم والتقدير، وما أحسب شيئاً في هذا العالم إلا ومرجع تقويمه إلى حظه من الحياة
وإلا فكم يساوى القصر المشيد إذا لم يشعر به الساكن فخامة وزهواً وجمالا وطمأنينة وراحة، ولم يشعر به الناظر هيبة واستحساناً ورغبة؟
وكم تساوى السيارة إذا لم يشعر بها راكبها ولم يشعر بها ناظرها ولم يشعر بها من يملكها ومن يتمناها؟
إنما (الاقتصاد) الصحيح هو اقتصاد (الفنان) لا اقتصاد السماسرة وحملة السهوم ومديري المصارف والشركات
إنما الاقتصاد الصحيح هو الذي يقومَ هذا القنطار الثمين فإذا هو أثمن من كل قنطار في معادن هذه الدنيا، لأن ما يحويه من ذخائر الشعور أكبر وأنفس من كل مملوك ومذخور
وإنه ليرخص بالشعور كما يغلو بالشعور. فدع قنطارنا هذا الثمين يهيم حباً بمن شغل عنه، ثم أنظر كم يكون له من ثمن، وكم يكون له من وزن وكم يكون له في رأي نفسه من حساب وتقويم!
وما ندري أمن حسن الحظ أم من سوئه كما يقولون أننا نشعر بالقصور ولا تشعر بنا القصور!!
وإلا فلو وهبت كل قنية ثمينة نفسا تريد هذا المالك ولا تريد ذاك فماذا يبقى من الأثمان؟ وماذا يبقى من البيع والشراء؟
هذا القصر يبذل نفسه لمن يريده بغير ثمن، ويأبى أن يأوي إليه شارٍ غيره ولو بذل فيه ألوف الألوف؛ فهو تارة بدرهم وتارة بالألوف المؤلفة من الدنانير، وهو تارة أخرى بالمجان لمن لا يسومه حتى بهذا الثمن الرخيص
إن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن الشعور هو (وحدة) التقويم والتسويم في كل ما نملك وما نريد، وأن الذين يشبعون من الحياة هم أغنى الناس وأعظم أصحاب الثراء، وان لم يعرف لهم اسم في خزانات المصارف ودفاتر الشركات
أنت يا بنية ذخيرة في الحياة أنت يا بنية كنز من الفتنة والحب والمتعة واللذائذ والآمال والأشجان والأحلام
أنت يا بنية قنطار ترخص عنده قناطير الذهب والفضة وقناطير الجواهر والفصوص.
أنت كل هذا حتى يأخذ منك الشعور ما أعطاك الشعور. وسألت من خلقك هذا الخلق السوي إلا يأخذ منك إلا بمقدار ما يعطيك، وألا يرغبَك إلا بمقدار ما يرغب فيك، فليس آلم من هوان النفيس عند الصيرفي العليم بالحياة إلا نفاسة الهين الزهيد
أنت يا بنية هكذا في لغة الزمان الذي لا نسمع فيه إلا (كم نقصت فلانة) وكم زاد فلان؟ وكم يساوى هذا وتلك في أسعار الأوان؟
وعلى مقربة من (مثابة) الإسكندرية ما أشبه هذه اللغة بأسلوب المكان!
على شاطئ الإسكندرية ثروة لمن أحب الغنى
ثروة لم يملكها قارون عند من يحسب موارده بحساب الحياة وكل ما تتقاضاك من جهد بضع نظرات
عباس محمود العقاد