مجلة الرسالة/العدد 264/بين الشرق والغرب

مجلة الرسالة/العدد 264/بين الشرق والغرب

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 07 - 1938



رد على رد

للأستاذ فليكس فارس

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

أي صديقي أدهم إن الغرب لا يرتقص على براكين من النار إلا لحفرة مثل هذه الآيات القاتلات على ألواحه. . .

أن صاحبك هابل الكاتب الذكي الذي قام بدور له شأنه في عالم الأدب لا يقصد الجدَ فيما يقول، بل هو يتهكم تهكماً ويقول للناس: إن العقلية الشرقية تلائم الحياة الباقية، (فإذا) انتقلتم إلى الأخرى فهناك اتبعوا وحي هذه العقلية!

إن (إذا) لا تفيد الظرفية هنا بل تفيد شرطاً ممتنعاً وما هي إلا أداة تحَد صريح وإنكار مطلق لكل ما لا يقع تحت الحواس الخمس، فكأنك أيها المناظر الكريم وأنت تدعونا إلى اقتباس العقلية الغربية، تهيب بنا مع صديقك هابل آدم إلى الاعتقاد بالعدم قبل الحياة وبعد الحياة. فهل يجاريك علماء الغرب الذي نباهي بحضارته؟ هل يوافقك من يدعون أهل الشرق معك إلى الاتجاه نحو الحضارة الغربية في القول بأن هذه الحضارة الآرية لم تصل إلى ما وصلت إليه إلاُ عن طريق الإلحاد؟

إن حضارة الأقوام التي ترغب إلينا أن نقتبسها إنما بنيت في تاريخها القديم كما بنيت في تاريخها الحديث على الاعتقاد بحياة أخرى. وما تدعوه (منطق الغرب الإثباتي) الذي ورثه الرومان عن الإغريق هذا المنطق الذي تنكره على العرب لأنهم ذوو استلهام ولأنهم يؤمنون بالغيب ويوحدٌون علة الوجود، إنما هو منطق نشأ في ذهنية فلاسفة كانوا يؤمنون (بأولمب) يغص بالآلهة ذكوراً وإناثاً؛ تلك كانت حضارة الغرب القديمة لم تقتل المنطق فيها حتى عبادة الأوثان ولكنها لم تكن إلاُ حضارة غاشمة شطرت فيها الإنسانية إلى شطرين: الإنسانية المتنعٌمة. والإنسانية التي تعرق دماً تحت لسعات السياط

أما حضارة أوربا الحديثة ففقد قامت على ما نعلم بتعاليم عيسى، وإذا كان قد بقى فيها شيء من الرحمة فهي من آثار موعظة هذا الناصري على جبل من جبال الشرق. وإذا كان قد هبٌ فيها بعد انتصار شارل مارتل من دعوا إلى إصلاح المسيحية فما كان صوت هؤلاء المصلحين إلاٌ صدى للصوت الذي دوى في صحراء العرب منذ ثلاثة عشر قرناً. . .

إن الإيمان الشرقي الذي يدعوه المناظر نسكاً أسيوياً لم يحل إذاً دون سير الغرب على سبيل الاكتشاف والاختراع، وما منع باستور إيمانه وتدينه من اكتشاف الجراثيم وإيجاد أمصالها لإنقاذ الإنسانية من أفظع أدوائها. وما كان أديسون وماركوني ومن تقدمهما من المخترعين إلا من المؤمنين بالله وباليوم الأخير

إن الدكتور أدهم يريد أن يميز بين عقلية الشرقي وعقلية الغربي فيقول إن الأولى مستسلمة (محضاً) للقضاء والقدر تخضع للغيب، والثانية تناضل نضالاً (محضاً) ضد الغيب.

أما أن يكون الشرقي هذا المستسلم الضعيف فمما يكذبه التاريخ، تاريخ المسيحية وتاريخ الإسلام على السواء، فما كان المسيحيون الأولون ليجبنوا حتى بين أشداق الأسود، وما كان المسلمون إلا مجاهدين بالجهادين، توكلوا فما تواكلوا وسلموا أمرهم لله فما استسلموا لزعازع الحياة بل أرغموها إرغاما ليسيطروا عليها بمكارم الأخلاق.

أما قول المناظر بأن العقلية الغربية تناضل ضد الغيب فقول فيه جنوح في التعبير، ولا نعتقد أن الدكتور أدهم يقصد الغيب بل أسرار المادة وما يكمن فيها من تفاعل، لأن الغرب إنما هو من هذه الإنسانية التي حُدت قواها فوقفت واجمة أمام نظام الكون وسرّ الحياة والموت، وما نعلم أن العمل على درس خفايا المادة كان وقفاً على الغرب دون سواه، وقد رأينا العرب يذهبون إلى أبعد الأشواط في هذا السبيل.

هذا وأن الحضارات قد توالت على هذه الغبراء فكان لكل أمة دورها في الاعتلاء والانحطاط، فما تراث الذهنية العلمية إلا مشاع لكل رأس فيه دماغ يفكر لاستخدام عناصر الطبيعة لمنفعته.

ليس هنالك إذاً عقلان عقلٌ للغرب وعقلٌ للشرق في ميادين الاستقراء؛ غير أن هنالك فطرة أو ثقافة تختلف بين شعب وشعب. وقد أراد المناظر أن ينكر استقلال الثقافة الأدبية عن العلم الوضعي فأسماها روحاً كأنه يمحو أثرها باستبدال اسمها.

لتكن الثقافة روحاً كما يريد الدكتور أدهم، فلماذا يطلب حضرته أن يلفظ أبناء الشرق روحهم لتتقمص روح الغرب حضارتهم؟ ثم أليس من غرائب المنطق أن يقول المناظر بفرعونية مصر وبتمردها على العروبة نيفاً وثلاثة عشر قرناً ثم يطلب منها أن تتفرنج بين عشية وضحاها؟

إذا كان ما يرمي إليه الدكتور أدهم من تفرنج مصر دفعها إلى طريق الرقى العمراني فقد أثبتنا له أن مصر كسائر البلاد العربية تأخذ بالحكمة السامية: (اطلبوا العلم ولو في الصين) فلا تأنف من الأخذ بعلوم أوروبا الوضعية كما أخذ أجدادنا بعلوم الإغريق من قبل دون أن (يستغرقوا) فعلام يراد منا أن (نستغرب) نحن؟. . .

ما هي الفائدة التي يرجوها المناظر لمصر إذا هي أنكرت إيمانها وأفسدت لغتها وتغنت على الأنغام الإفرنجية التي تتنافر مع ذوقها وحتى مع مخارج ألفاظها، ورَّقصت أبنائها وبناتها متفاخذين متباطنين متناهدين؟. . .

أية فائدة نرجوها لمجتمعنا إذا نحن أعرضنا عن الأخذ بحضارة ثوت مبادئها العليا في سرائرنا لنصبح كالقردة مقلدين نتحرك تبعاً لحوافز غيرنا؟

وأخيراً لا يظنن مفكرٌ أننا نقصد بالحضارة العربية هذه الحالة الراهنة التي أوصلتنا إليها قرون من الويلات والعبودية لأرهقتنا حتى تنكرت لنا أنفسنا

لقد طغت على مجتمعنا في معتقداته وفي نظم أسرته وفي آدابه وفي حكوماته دخيلات من متخلفات جميع العصور وجميع الأمم، فنحن اليوم أشبه بنبيل أخنى عليه الدهر فأجاعه، فهو يأكل من فضلات موائد الأمم، ومزّق ثوبه فهو يستر عورته بترقيعه ملتقطاً له الخرق أمام كل بيت غريب، ومن كل مزبلة تعترض طريقه.

أما والله ما يُهيب بنا إلى الدعوة لإقامة حضارة عربية شرقية بهذه الأوطان إلا الاشمئزاز يستذرف الدمع لما يصدم سريرتنا كل يوم من هذه المساخر تتمشى وهي لا تبالي على قبور الأجداد وعلى مهود الأطفال

وقد يكون هذا النفور نفسه ما يدفع بالمفكرين الأجانب حتى وبعدد من مفكري العرب أنفسهم إلى الإهابة بالشرق للنهوض من كبوته ليستبدل بروحه الراقدة روحاً غربية ناهضة

إنها لعاطفة قد يكون الألم والإشفاق مصدريها، ولكن العربي الأصيل بما يسمع في أجواء نفسه من هتاف القبور لا يقطع الرجاء من حقه في الحياة

لقد ذهبت الطوائف الدينية كل من جهتها مذاهب جد غريبة عن روح الدين الذي أنار الدنيا من مشارقها حتى أصبح من الأسهل عليها أن تعتنق الإلحاد من أن تقضي على تعصبها وتطرح التآويل التي تقضي على اتحادها على الأقل في إقامة حضارة تكفل حياتها

لقد تبلبلت النظم الاجتماعية بيننا إلى درجة يسهل على شعوبنا فيها أن تُغرق فطرتها الأصلية المريضة في تيارات مدنية الغرب من أن تستفيد منها قوتها وتعمل على شفائها

إن الاندفاع إلى الأغوار أسهل على المتعب من العودة إلى تسلق الذرى التي انزلق عنها

ولكن أترضى النفوس العربية النابهة التي لا تجهل ما يكمن في هذه البلاد من قوى أن تتخير الجمود فلا تقوم بواجبها لتحول دون انتحار شعب بزغت أنوار الهداية من آفاقه وبقيت حضارته مدى أربعين قرناً محوراً لتيارات التفكير في العالم؟

لتكتب الأقلام العربية في هذا المطلب، لتملأ الصحف السيارة بالآراء، وليتناقش المفكرون

إن كل أمة قد مرَّت على مفرق الطرق قبلنا لم يتأخر مفكروها عن وضع الكتب الضخمة فالتهمها الشعب الحائر التهاماً، أما هنا فمن العبث أن نعقد الفصول الطوال في كتب عناوينها نفسها تنفر جمهور القراء منها

لقد نشرت في العام المنصرم كتاباً بعنوان (رسالة المنبر إلى الشرق العربي) فاستنفد نصف نسخه في بلاد المهاجر حيث يعرف النازحون قيمة الوطن، وحيث يشعرون بغربتهم في حضارات ليسوا منها وليست منهم. أما هنا في الأقطار العربية فلم يقرأ كتابي إلا أربعمائة قارئ أهديتهم إياه وثلثهم أو أكثر لم يتفضل بإرسال بطاقة أعرف منها وصول الكتاب إليه

إن معظم القراء يهتمون للمشاكل الراهنة الجوالة من الأمور السياسية والإدارية التي تؤثر في حياتهم في يومهم، فنحن نعيش لعصرنا كأننا لا نترك على أرض الشرق أبناءنا وأحفادنا

لقد تناولت في رسالة المنبر بحث ما نحن عليه الآن وما يجب أن نأخذ به من حضارة تتوافق وسرائرنا وأحوالنا، فإن أنا أردت استيفاء موضوعي الآن حقه اضطررت أن أنشر كتابي برمته على صفحات الرسالة. فلأكتفين الآن بإيراد فقرة من مقدمته أجعلها ختاماً لهذا الرد

(إنني مازلت معتقداً منذ قدر لي أن أعتلي المنابر أن هذه البلاد العربية مستودع لأشرف الثقافات ومكمن لأسمى المواهب، وإن من واجبي أجناد المنابر والأقلام فيها إظهار هذه القوات لأبنائها نزوعاً بهم عن الانقياد لدخيلات العادات والأخلاق التي تغلبت عليهم بما أوجدوه من التوهم في أنفسهم فاستصغروها.

إن كلاً من سلالات العالم تنتفض الآن لتنبه ما يكمن في قومياتها م حوافز وهي تناوئ قوميتنا الساميّة منزلتها منزلة تنحط عن مراتب الشعوب الآرية. فالأقوام المنتشرة في جزيرة العرب وفلسطين وسوريا ولبنان ووادي الفرات ووداي النيل وعلى الشواطئ الشرقية للبحر المتوسط وشواطئ البحر الأحمر تدمغها حضارات الغرب والعالم الجديد بطابع التواكل والخمول، في حين أن القومية في الشرق العربي لا تقف تجاه السلالات المنكمشة على ذاتها في العالم موقف كتلة تبني وحدتها على المميزات الجسمية مفتشة عن الوحدة في الأنساب والعروق بل هي تبنيها على المميزات الروحية في حوافز أصبحت فطرة لكل سلالة قديمة توطنت هذه البلاد التي خشع عظماء العالم تحت سمائها الصافية وفوق أرضها المطهرة بدماء الشهداء من أجل الإخاء الإنساني والحق المطلق. فإذا ما افتخرت قوميات الدنيا بالعرق، فإنما نحن نباهي بالفكرة الحية السماوية التي أقامت من شتاتنا أسرة واحدة كلمة التعارف بينها اسم الواحد الأحد رب العالمين)

فليكس فارس