مجلة الرسالة/العدد 265/التاريخ في سير أبطاله

مجلة الرسالة/العدد 265/التاريخ في سير أبطاله

مجلة الرسالة - العدد 265
التاريخ في سير أبطاله
ملاحظات: بتاريخ: 01 - 08 - 1938



ابراهام لنكولن

هدية الأحراج إلى عالم المدنية

للأستاذ محمود الخفيف

يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من

سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . . . . .

- 19 -

وجاء يوم الانتخاب ففاز لنكولن وأصبح رئيس الولايات المتحدة، أصبح فالق الأحشاب الخليفة الخامس عشر لوشنجطون العظيم بطل الاستقلال. فكأنما كان مجيئه يومئذ من تدبير الأقدار لقرن اسمه في تاريخ أمريكا باسم محررها الأول فعليه اليوم أن يمسك بنيانها أن يخر من القواعد

وكان نجاح ابراهام محققاً قبل يوم الفصل بما كان لحزبه من جاه ونفوذ في أهل الشمال وهم أكثر عدداً وأحكم سياسة من أهل الجنوب، وذلك فضلا عن اتحاد كلمة ذلك الحزب ونشاط أعضائه بينما كان يتنازع الديمقراطيون ويتنابذون وكأن بينهم عداوة

على أن خصوم ابراهام يعيرونه بهذا الفوز إذ كانوا لا يعدونه فوزاً، فهم يقولون أن ما ناله منافسوه من الأصوات يربو كثيراً على ما ظفر به، هذا إلى أن عدداً من الولايات الجنوبية لم يجد عليه أهلها بصوت واحد. . . ولكن أصحابه يعلنون أنه الغالب فأنه ليندر أن فاز قبله أحد بمثل ما فاز به من الأصوات وإن بينه وبين دوجلاس أقوى منافسيه وأقدرهم لفرقاً كبيراً يشهد بغلبته وعظم مكانته. . .

وكان على ابراهام أن يقضي أربعة أشهر أخر قبل أن يحتفل بتسلمه أزمة الحكم فقضاها في سبرنجفيلد بينما كان الرئيس بيو كالون يكمل مدته بقضاء تلك الأشهر في البيت الأبيض في وشنجطون

ولبث ابراهام في سبرنجنفيلد يلقى زائريه كل يوم ويمشي في الطرقات بين الناس لا يجع بينه وبينهم كلفة ولا يتخذ من دونهم حجابا، يحييهم فيدعوهم بأسمائهم ويردون فيدعونه بأحب أسمائه إليه، فمنهم من يناديه أيب الأمين ومنهم من يناديه أيب العجوز ومنهم من يقولها مجردة من النعوت

وتبدو (أيب العجوز) يومئذ أقرب النعوت منه وأعلقها به، فإن على محياه لكآبة هي من أثر ما يهجس في نفسه، وأنه اليوم لكثير التأمل والإطراق لا يسمع الناس من أقاصيصه ما كانوا قبل يسمعون، ولا يشهدون من عذوبة روحه ما كانوا يشهدون

أما امرأته فمرحة طروب، لا تملك نفسها من الزهو حينما تقف إلى جانب بعلها في شرفة الدار وهما يطلان على الجماهير الهاتفة وإن كانت لتكره وتتبرم منه بهذا الوجوم وهذا الصمت، وإن كانت لتنكر عليه ما يظهر فيه من ملابس وخاصة قبعته التي ألحت عليه وما تفتأ تلح أن يستبدل بها أخرى جديدة فلا يطيع!

وحق له أن يبتئس وأن يرتاع فما تزال تترامى إليه الشائعات والأنباء المزعجات، فهذه صحيفة من صحف الجنوب تعلن نبأ اختياره للرياسة تحت عنوان أخبار خارجية، وهذا حاكم كارولينا الجنوبية يتناول المعول فيهدم أول حجر من بناء الاتحاد. . . لقد استقال أعضاء الشيوخ لهذه الولاية وانسحبوا من وشنجطون، بينما أخذ الحاكم يعد ما استطاع من معدات الحرب وصحفه تذيع في صراحة أن قد صار الاتحاد أثراً بعد عين؛ وهو يسعى بالتفرقة ويحرض الولايات الجنوبية على الانسحاب بعد أن أعلن على لسان المجلس التشريعي في ولايته أن لا صلة لهذه الولاية بالاتحاد

وما كان ارتياعه عن خور حين آذنت العاصفة بالهبوب؛ ولعمري ما يكون الخوف كل آونة جبناً ولا الدم كل يوم حلالاً. ثم لعمري ما يكون الإقدام في كل موقف شجاعة، ولا الوثوب في كل مأزق بطولة؛ وإلا فما أضيع الحكمة، وما أتفه البصيرة، وما أسخف الأنات. . . وما كان يخاف ابراهام إلا أن تصيب بلاده فتنة تذهب بكل شيء

وإنه ليدور بعينيه في هذه المحنة يبحث عن الرجال الذين يشدون أزره فيرى - والأسى يرمض فؤاده - أن رجال حزبه أنفسهم لا يرون رأيه فهم يميلون إلى مصالحة أهل الجنوب وعلى رأس القائلين بذلك سيوارد. . . ولكن ابراهام يعلن إليهم في ثبات عجيب أن مصالحة أهل الجنوب معناها التهاون في المبادئ والتسليم بانتشار العبيد والاعتراف بحقهم في اتباع القوة وفي الانسحاب من الاتحاد وهو لن يأمن أن يعودوا إلى ذلك في أي وقت؛ فيسمعون ذلك ولكنهم لا يعقلونه ويحملونه كل ما عساه أن يترتب على موقفه من مصائب

والنذر لا تني تأتي من الجنوب بما يقلق المضاجع ويزعج النفوس، فها هي ذي ست ولايات أخرى تنسحب من الاتحاد وتنضم إلى كارولينا الجنوبية فتؤلف من بينها اتحاداً جديداً تختار لرياسته جفرسون دافيس. . . وهكذا يصبح في البلاد حكومتان! وهكذا ينهار البناء حجراً بعد حجر والرئيس الجديد ما يزال في سبرنجفيلد يشهد ما تفعل العاصفة

ويحمل البريد إلى ابراهام كل يوم آلافا من الرسائل بينها نوع جديد تنفر منه نفسه، بينها نوع ملؤه الوعيد والسباب وتفصيل صور الموت التي تنتظره إن هو مضى فيما هو فيه وأصر على عناده؛ وهو يطوي تلك الرسائل ليلقي بها في النار مخافة أن تقع عين امرأته على صور الخناجر التي تتوج الكثير منها. . .

ويتطلع ابراهام في هذا المأزق الشديد إلى وشنجطون ليرى ما عسى أن يفعله بيو كالون الرئيس القائم؛ ولكن بيو كالون لا يتحرك فيزيد بتهاونه النار اشتعالا ثم يصرح بأنه إذا لم يكن للولاية حق الانسحاب من الاتحاد فليس لحكومة الاتحاد حق ردها إليه بالقوة إذا هي انسحبت فيكون بتصريحه هذا كمن يلقي الحطب على النار حين يجدر به أن يلقي عليها الماء. . .! وتشيع الخيانة في وزرائه فيرسلون الرجال والمال إلى الولايات الجنوبية ويستقيلون. . .

ويشتد عدوان أهل الجنوب وقد اتخذ الاتحاد الجديد هناك دستورا جديدا يقر نظام الاستعباد ويعلن أنه أمر مشروع من ناحيتي الدين والخلق ونظام الاجتماع. . . ويعظم هياج العاصفة ويشتد دويها. . .

وابراهام في سبرنجفيلد كالسنديانة العظيمة لا تهز العاصفة إلا فروعها، ولن يصيب الجذر مصيبة إلا أن تزلزل من تحته الأرض فتشقق فتميد. . . يخوفه سيوارد عاقبة الأمر فلا يحجم ولا يلين؛ ويسخط أهل الشمال أنفسهم على ابراهام ويظنون به الظنون، ولكنه يقول ذات مرة لرجل ممن يحاورونه (اذهب إلى شاطئ النهر وخذ معك غربالا متيناً فاملأه بالحصى؛ فسترى بعد هزات قوية أن الرمل وصغيرات الحصى تنفذ من الثقوب وتتوارى عن الأعين إذ تضيع على الأرض، وتبقى في الغربال الحبيبات التي تزيد عنها حجما إذ أنها لا تنفذ من بين الخيوط. . . وبعد هزات أخرى متكررة يتبين لك أنه من بين القطع الباقية في الغربال تصل كبرياتها إلى القمة، وهكذا فأنه إذا لم يكن من الحرب بد وأن هذه الحرب سوف تهز البلاد من وسطها إلى جوانبها فإنك ستجد صغار الرجال يتوارون عن الأنظار في هزاتها، وبينما ترتكز الكتل على قواعد ثابتة ويرتقي أكابر الرجال إلى القمة؛ ومن هؤلاء يبرز أعظمهم فيكون منه قائد القوم في الصراع القائم. . .)

هذا هو العزم الذي لا يعرف التردد، ولكن من وراء هذا العزم نفساً شاعرة وقلباً يحب الخير وينأى بجانبه عن الشر وينفر بطبعه منه؛ وما كانت هموم نفسه إلا مما يريد أن يدفعه عن بلاده من شر وبيل فهو لا يهمه أن يذوق الموت بعد أن وطد على الجهاد عزمه ووهب إلى بلاده نفسه. . .

ها هو ذا قد وصل في بلاده إلى القمة فهل ابتغى من وراء ذلك جاهاً أو تلهى بالعرض عن الجوهر؟ هل تنفس الصعداء واستكان إلى الدعة وجعل من المنصب متعة وغرورا؟ كلا فها هو ذا يجعل من وصوله إلى هذه المرتبة مبدأ مرحلة جديدة في جهاده المرير. . . وإنه ليحس أنه هالك في هذا الجهاد ولا محالة ففي نفسه من المعاني ما يشير إلى ما سوف يلقاه من خطوب وويلات. . . تحدث هذا الصنديد الجلد إلى صديق له بعد فوزه بالرياسة بسنوات يصف ما كان يهجس في خاطره عقب ذلك الفوز فذكر أنه نظر يومئذ ذات مرة، وقد جلس متعباً على مقعد، إلى مرآة أمامه فرأى فيها لوجهه صورتين فهب من مكانه يستوثق من ذلك فامحت الرؤيا ولكنها عادت كما كانت حين عاد فجلس؛ وكانت إحدى الصورتين تخالف الأخرى في أنها تبدو مصفارة مخيفة. ولقد أوجس ابراهام خيفة في نفسه؛ ولم يكن خوفه مما رأى في ذاته بل لما انبعث منه في نفسه من المعاني. ولقد تكرر ذلك المنظر بعد أيام ثم انقطع على رغم محاولاته أمام المرآة. . . أما امرأته ففسرت ذلك أنه سيختار للرياسة مرة أخرى ثم يموت في تلك المرة! يا لله ما أعجب نبوءات هذه المرأة!

وكأنما كان صاحبنا يحس ما يخبئه له الغد من مكروه فهو يقدم في عمله على علم بما وراءه ولذلك لا يتهيب ولا ينكص، يحذر ويتدبر أن تصيب بلاده دائرة. . .

وظل يمني نفسه أن يثوب أهل الجنوب إلى رشدهم فتخشع للحق قلوبهم، ولكنهم في شطط من عنفهم وغرورهم. فهاهي ذي الأنباء تأتي بجديد من كيدهم، وبيان ذلك أنه كانت لحكومة الاتحاد حصون في الولايات الساحلية بها جند تحميها وكان من تلك الحصون في كارولينا حصنان أهمهما حصن سمتر، فأرادت كارولينا أن تستولي على الحصنين لتتم سيادتها فلم تفلح إلا في أحدهما، وكان ذلك عقب إعلان انفصالها

واحتمى الجند في حصن سمتر وأرسلوا إلى الرئيس بيو كالون أن يمدهم بالعون والذخيرة، فلم يستطع بيو كالون أن يصم أذنيه عن هذا الطلب وأرسل سفينة تحمل المؤونة والرجال ولكن أهل كارولينا أطلقوا عليها النار في ميناء شارلستون وأجبروها على الرحيل. . . وطلبت حكومة الاتحاد الجنوبي تسليم حصن سمتر فرفضت الحامية بقيادة القائد اندرسون أن تسلم، فضرب عليها الحصار. . . وبات في الواقع أهل الشمال وأهل الجنوب في حرب

وعاد سيوارد يلح على ابراهام أن يتفق أهل الشمال مع أهل الجنوب على شروط تخفف من غضبهم، فرفض ابراهام ذلك وأعلن أنه مصر على الرفض مهما يكن من الأمر. . . ولما يئس سيوارد من إقناعه عرض عليه أن يزحف على العاصمة في جيش من المتطوعين ويأخذ بيده زمام الأمور من بيو كالون قبل أن يستفحل الشر فرفض ابراهام أن يفعل ذلك لما فيه من خروج على الدستور. . .

وازداد الموقف خطورة حين ترامى إلى سمع لنكولن أن كثيراً من الناس يودون لو ينسحب ويدع تقرير الأمور إلى رئيس غيره من جديد. . . ولو أن رجلاً غيره في موقف مثل موقفه هذا لخارت عزيمته، وانكسرت نفسه، ولكنه ما وهن ولا استكان وما زادته الشدائد إلا صبراً وعزماً ولا المحن إلا رغبة في الجلاد والنضال. . .

وجلس يختار مجلس وزرائه فعظمت حيرته ووقع اختياره أول ما وقع على سيوارد وقد وقف إلى جانب ابراهام بعد أن رأى من ثباته ما لم يتعلق به من قبل وهمه، ورضى سيوارد بادئ الرأي أن يعمل معه في مركز يعادل مركز وزير الشؤون الخارجية في الحكومات الحالية مضافا إلى ذلك أنه كاتم سره ومستشاره وحامل أختامه. . وأخذ ابراهام يبحث عن غيره ممن يأنس فيهم الكفاية في مثل هاتيك الشدة. . .

وجال ابراهام جولة في البلاد التي قضى فيها صدر شبابه، وزار من لا يزال على قيد الحياة من أهلها، وحج إلى قبر والده وأوصى أن يعنى به، وبعد أن قضى أرب مشاعره ولبانة قلبه عاد إلى سبرنجفيلد ليودع أهلها قبل رحيله إلى وشنجطون. . .

ولما أزف يوم الرحيل لاحظ على وجهه أهل المدينة شيئاً مثل ذلك الذي يبدو على وجه من يوشك أن يرحل عن وطن اشتد حبه له وعظم تعلقه به، ولقد زاده هذا نحولا على نحوله وهماً على همه، وكذلك اشتد أسف الناس فهم لا يدرون كيف يصبرون على رحيله عن مدينتهم ولقد كان لصغارهم الأب العطوف الرؤوف ولكبارهم الصديق الوفي، والناصح الأمين. ولكنهم يتأسون على فراقه بما باتوا يأملونه من خير للبلاد جميعاً على يديه

(يتبع)

محمود الخفيف