مجلة الرسالة/العدد 265/جورجياس
مجلة الرسالة/العدد 265/جورجياس
أو البيان
لأفلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 6 -
(تنزل (جورجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها
أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلا)
للفلسفة!)
(رينو فييه)
(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائما وتنتصر لأنها أقوى وأقدر
من جميع الهادمين!)
(جورجياس: أفلاطون)
الأشخاص
1 - سقراط: بطل المحاورة: (ط)
2 - جورجياس: السفسطائي: (ج)
3 - شيريفين: صديق سقراط: (س)
4 - بولوس: تلميذ جورجياس: (ب)
5 - كاليكليس: الأثيني: (ك)
(تابع ما قبله)
ج - وأضيف إلى هذا أنه إذا دخل طبيب وخطيب مدينة ما، ثم احتاج الأمر إلى المفاضلة بينهما أمام الجمهور المجتمع أو أمام أية هيئة أخرى، فأنه لن ينتبه أحد إلى الطبيب: وسنفضّل من هو قادر على الكلام إذا كان بالفعل كذلك. وقل بالمثل إذا نافس الخطيب أي رجل من رجال المهن الأخرى،: إذ دائما ما يفضل الخطيب غيره مهما كان ذلك الغير. لأنه ليست هناك مادة ما إلا ويستطيع أن يتكلم فيها أمام الناس بطريقة أكثر إقناعا من طريقة أي صاحب مهنة أخرى مهما كان شأنه!، والحق أن للبيان ذلك المرمى وتلك الخاصة! ولكن يجب أن لا نستعمله مع ذلك يا سقراط إلا كما نستعمل التدريبات الأخرى، ذلك أنه ولو أن الإنسان يستطيع أن يتعلم بتلك التدريبات الملاكمة وطرق استعمال أسلحة الحرب الأخرى بطريقة تكفل له قهر الأصدقاء والأعداء على السواء، فأنه لا يجوز له أن يستعملها من أجل ذلك ضد الجميع، أو أن يضرب بها أصدقاءه ويطعنهم ويقتلهم! ولا يجوز لذلك الذي أكثر من التدريب في الملاعب، وكوّن فيها جسما قويا، وأصبح بين جدرانها مصارعا مجيدا، لا يجوز له أن يضرب أمه أو أباه أو أحدا من أقرباء والديه وأصدقاءه، وأن يعادي ويكره مدربي الرياضة والسيف فيطردهم من المدن! إذ الحق أن هؤلاء المدربين لم يروضوا تلاميذهم بهذه التدريبات إلا بقصد أن يحسنوا استعمالها ضد الأعداء والأشرار، وفي الدفاع لا الهجوم! فإذا وجه التلاميذ بعد ذلك قوتهم وحيلتهم إلى الشر على غير قصد أساتذتهم، فلا ينتج عن هذا أن أساتذتهم أشرار وأن فنهم شرير، لأن الخطأ قائم فقط - كما أرى - فيمن يسيئون استعمال الفن؟.
وهكذا نستطيع يا سقراط أن نصدر نفس الحكم على البيان: إذ الحق أن الخطيب يستطيع أن يتكلم ضد الجميع وعن كل شيء لأنه أجدر الناس بإقناع الجماهير بما يريد، ولكن ما كان هذا ليساعده قط على تشويه اسم الأطباء وغيرهم من رجال المهن الأخرى لأن الأمر على نقيض ذلك تماما؛ وإذا فلا يجب أن نستعمل (البيان) إلا وفقا لقوانين العدالة كما هو الحال في التدريبات الأخرى. فلئن أساء أحدهم - ممن قد أعِّدوا له - استعماله كقوة وفن بقصد ارتكاب عمل ظالم، فلن يكون لنا الحق - فيما أظن - أن نعتمد على العمل وحده ونكره الأساتذة الذين لقنوا الفاعل ذلك الفن وننفيهم من المدن، لأنهم لم يلقوا بفنهم بين يديه إلا بقصد أن يستعمله في أغراض ولأسباب عادلة، فراح هو يستعمله استعمالاً يناقض قصدهم تمام التناقض؛ وإذا فالعدل هنا أن نكره التلميذ المسيء وأن نطارده ونقتله، وليس العدل أن نفعل ذلك مع الأساتذة!!
ط - أظن يا جورجياس أنك قد اشتركت مثلي في مناقشات كثيرة، وأنك قد لاحظت فيها شيئا: هو أن الناس عندما يشرعون في المناقشة يجدون مشقة كبيرة في تحديد أفكارهم من سائر النواحي، وفي الوصول إلى موضوع المناقشة بتوضيحه لأنفسهم وتحقيقه على التبادل، وإذا ما نشأ بينهم بعض التناقض وادعى أحدهم أن الآخر لا يتكلم إلا بقليل من الوضوح والحق، فأنهم يغضبون ويظنون أن المقاطعة إنما توجه إليهم بباعث الحسد وأن المرء إنما يتكلم بعامل الخصومة دون أن يبغي توضيحا للقضية المعروضة. ولذلك ينتهي الأمر ببعضهم إلى تبادل الشتائم المقذعة ثم الانفصال بعد الاحتكاك بشخصيات بغيضة ممقوتة، كما ينتهي بالمشتركين إلى (المساعدين) في المناقشة إلى أن يستنكفوا من وجودهم في مثل تلك الأحوال
فهل تدري لم أخبرك بذلك؟ إنما أخبرك به لأنه يلوح لي أنك لا تتكلم الآن بنحو مجد وبطريق يلتئم تماما مع ما قررت من قبل عن البيان!؛ وأفهم أني إذا ما ناقضتك فسوف لا تقول إن قصدي هو أن أناقضك وأن أقوم في وجهك، وإنما ستقول إن قصدي هو أن يتضح لنا فقط موضوع الحديث!؛ فإذا كنت تنظر للأمر كما أنظر إليه فسأسائلك باغتباط؛ وإلا فلن أذهب معك إلى أكثر من ذلك، وهاك نظرتي: إنني من أولئك الذين يحبون أن يُناقَضوا عندما لا يقولون الحق، ولكنهم يحبون أيضاً أن يُناقِضوا غيرهم عندما يرونهم حائدين عنه، وليس سرورهم بعد هذا من مناقضة غيرهم لهم بأقل من سرورهم عندما يناقضون هم غيرهم! إذ الحق أني أعتبر المناقضة يا جورجياس خيراً عظيما، وأرى أن الأفضل لنا هو أن نخلص أنفسنا أولا من أسوأ الشرور بدلا من أن نخلص غيرنا منها؛ كما أني لم أعرف بعد وزراً يعدل وزر أن يكون لدينا أفكار خاطئة عن الموضوع الذي نعالجه؛ فإذا كان حقاً ما تدعي من أنك مثلي في النظر والاستعداد فلنعد للمناقشة، وإذا كنت ترى أنه يجب أن نتركها حيث وقفنا فليكن ما تريد ولينته الحديث
ج - إني لأفخر يا سقراط بأني من أولئك الذين صورتهم تصويراً، ومع هذا فأحسب أنه يجب أن نعنى كذلك بأولئك الذين يشتركون معنا في الحديث لأني قد شرحت لهم أشياء كثيرة قبل مجيئك بزمن طويل، وإذا نحن عدنا إلى المناقشة فيها ثانياً فسيذهب بنا القول بعيداً جداً. ولهذا يحسن أن نفكر فيهم حتى لا يبقى منهم من يكون له عمل آخر يشتغل به أثناء الحديث
س - إنكما لتسمعان بنفسكما يا جورجياس وسقراط ذلك الصوت الذي يحدثه الحاضرون ليكون شاهداً على رغبتهم في الإنصات إليكما إذا واصلتما الحديث وأرى من ناحيتي أنه لا يرضي الآلهة أن يكون لدي من الأعمال الكثيرة الهامة ما يضطرني إلى ترك مناقشة كلها الفطنة والمنطق كيما أشتغل بما هو أكثر ضرورة منها!
ك - لقد أصبت وحق الآلهة جميعاً يا شيريفين! فأنا الآخر أشتغل بأعمال كثيرة ولكني لا أعرف منها أبداً عملا واحداً يسبب لي من اللذة بقدر ما تسبب لي هذه المناقشة. ولعل هذا هو السر في أنكما تطوقان جيدنا بالفضل (يا جورجياس وسقراط) إذا شئتما وتناقشتما هكذا طوال اليوم!
ط - لن تجد يا كاليكس أية عقبة من ناحيتي إذا وافق جورجياس على المناقشة.
ج - ليكونن عاراً على ألا أوافق بعد اليوم يا سقراط، خصوصاً وقد ادعيت لنفسي القدرة على إجابة جميع ما يوجه إلي من الأسئلة، فلنعد إلى الحديث ما دام في ذلك سرور للحاضرين واعرض علي ما تراه جديراً بالعرض
ط - فلنعرف إذا ما يدهشني من حديثك! - وقد يكون أنك لم تقل غير الحق وأنني قد أسأت الفهم! - إنك تدعي أنك تستطيع أن تجعل ممن يرغب في دروسك خطيباً!؟
ج - نعم
ط - ومعنى ذلك أنك تجعله قادراً على الكلام في كل موضوع بطريقة ساحرة أمام الجماهير بحيث يقنعهم دون أن يعلمهم!؟
ج - تماماً
(يتبع)
محمد حسن ظاظا