مجلة الرسالة/العدد 266/البحث عن غد
مجلة الرسالة/العدد 266/البحث عن غد
2 - البحث عن غد
للكاتب الإنجليزي روم لاندو
للأستاذ علي حيدر الركابي
روم لاندو كاتب إنجليزي معروف، زار بلاد الشرق الأدبي زيارة المستطلع الباحث، ثم دون ما رأى وسمع في نشره بعنوان (البحث عن الغد) وقد نشرنا ما يتصل بمصر مترجما بقلم الأستاذ العقاد فلم يعترض على قوله أحد؛ ثم أخذنا ننشر ما كتب عن لبنان وسورية مترجما بقلم الأستاذ علي حيدر الركابي فلم يكد ينشر المقال الأول حتى ثارت النفوس في بيروت لهذا الحديث الغريب الذي نسبه الكاتب إلى رئيس الجمهورية اللبنانية، وعقدت الوزارة مدفوعة بهذه الثورة جلسة خاصة أبرقت على أثرها إلى الرئيس تسأله في عرض البحر عن هذا الحديث، فأجاب بأنه لم يعط حديث كهذا وطلب من الحكومة أن تكذبه فكذبته. إزاء هذا التكذيب الرسمي لم نشأ أن ننشر ما كتبناه وكتبه غيرنا تعليقا على هذا الحديث الطائش، ولكن بقي لنا أن نسأل: من الذي زور هذا الحديث على فخامة الرئيس؟ لا يمكن أن يكون أحد غير الكاتب الإنكليزي نفسه، لأن الحديث لم ينشر في صحيفة يجوز عليها الدس والغفلة، وإنما نشر في كتاب أصدره الكاتب تحت اسمه وعلى مسئوليته، وسمى فيها الأشخاص وذكر المكان والزمان والمناسبة، فلا مناص إذن من أن تتخذ الحكومية اللبنانية إجراء قضائياً أو دبلوماسيا نحو الكاتب (الكاذب) ليتسنى له هو أيضا أن يقول كلمته
(المحرر)
الجمهورية اللبنانية
وجهة نظر المعارضة
لقد تحدثت إلى أحد الوزراء كما تحدثت إلى بعض الوجهاء فلمست منهم تأييداً لوجهة النظر الرسمية التي بسطها رئيس الجمهورية، حتى إن بعضهم أكد لي بأن الوحدة العربية إنما هي الوحدة الإسلامية بعينها. ومع ذلك فان زعماء المسلمين الذين زرتهم قد نفوا لي هذه الفكرة. ومما يؤيد صحة نفيهم أن الشعور الديني لدى مسلمي لبنان سائر نحو الضعف بصورة جلية تجعل المرء يعتقد أن ميلهم إلى الوحدة العربية لا بد أن يكون مبيناً على أسس غير الأسس الدينية. وهذا ما قاله لي عربي من كبار رجال التعليم في بيروت:
(لا بد لنا إذا أردنا الحياة من أن نتعاون في الأمور العسكرية والاقتصادية، ولا يتحقق هذا التعاون إلا بواسطة الوحدة العربية أو - في بادئ الأمر - الوحدة السورية. إن الناحية العنصرية لا تهمنا كثيراً، ولكن اشتراكنا في اللغة وتحملنا نفس المصاعب لما يدفعنا للسعي وراء نوع من أنواع الاتحاد. قد تختلف بلاد مصر ونجد والحجاز وشرقي الأردن وسورية والعراق الواحدة عن الأخرى، إلا أن أمام كل واحدة منها مشاكل متشابهة يجب حلها، منها تعليم الفلاحين والبدو وسكان الجبال، وتعميم الوسائل الحديثة لحفظ الصحة العامة، ورفع المستوى العام من الناحيتين الثقافية والاجتماعية. إن التعليم في مصر نفسها لا يتعدى طبقة محدودة راقية. وهناك رابطة التاريخ المشترك التي تعطينا الحق في أن نفتخر بماض زاهر، ونسعى لإحياء ذكرى هارون الرشيد. ولعلك تعتبر هذه الرابطة خيالية وعاطفية، ولكني أؤكد لك أننا نعتبرها دافعاً حقيقياً وقوياً لنا في نهضتنا. إن الماضي يمكن أن يصبح حاضراً مرة ثانية إذا اتحدنا مع سورية أولاً، ثم مع الأقطار العربية الأخرى)
قد يظن البعض أن العرب الذين يعتنقون فكرة الوحدة السورية غارقون في بحر من الأوهام. والواقع أن فكرتهم هذه بالرغم من غموضها لأجدر بالتقدير من فكرة الرجال الرسميين ذوي الخبرة الواسعة وأتباع الحقيقة دون الخيال الذين أتضح لي أن تفكيرهم محصور لا يتجاوز مراميهم القريبة. لقد وجدت أنصار الوحدة السورية من العرب عنيفين وغير منظمين، إلا أني واثق في نفس الوقت من أنهم أصحاب بصيرة، وأن نار إيمانهم بمثَلهم الأعلى لتتأجج تأجج النيران العظيمة في باطن الأرض
وقد اتضح لي - كما كنت أتوقع - أن كلا الفريقين: الرسمي والعربي كان متطرفاً قد خفي عليه جزء من الحقيقة. وهذا أمر طبيعي في بلاد أصبحت القومية فيها قوة ذات قيمة بالرغم من حداثة عهدها. والواقع أن ارتفاع مستوى المعيشة وزيادة الثروة قد ولدا في اللبنانيين ميلاً إلى احتراف السياسة سواء كانوا من السياسيين المسيحيين أم من المسلمين. وقد سلم بعض العرب في لبنان بالفكرة الفكرة القائلة بأن البلاد لا يمكن أن تستغني عن فرنسا، وأن الصواب يقضي بالاعتراف بالأمر الواقع ونبذ أحلام الوحدة العربية. وهذا الشعور بالانخذال قد جعلهم أقل إيماناً بتحقيق المثل العليا في عرب سورية. ومن نتيجة ذلك - على ما يقال - أن الأغراض الشخصية تلعب في بيروت دوراً أعظم من الذي تلعبه في دمشق
النصرانية العملية
إن أعظم مشكلة معقدة يجابهها لبنان هي مشكلة الدين، فإننا نرى من جهة أن المزج بين السياسة والدين قد حشر الدين في أمور غريبة عنه في الأصل. ومن جهة أخرى فان الدين قد أصبح بعيداً كل البعد عن أسسه المشروعة
ليست حكومة لبنان حكومة حزبية ولا هي بالحكومة ذات الاختصاص الفني البعيدة عن الأحزاب، وإنما هي حكومة تتشكل من ائتلاف دائم يمثل الطوائف المختلفة. فان كلا من الوزير والموظف الإداري والمعلم وطبيب البلدية يعين بالنظر إلى طائفته لا بالنظر إلى مقدرته الفنية. وقد أدى تدخل الكنيسة في السياسة إلى إساءة الاستعمال كما أدى إلى انحطاط عام في الدين. وقد كاد جميع من تحدثت إليهم (وبينهم أستاذ الجامعة والسياسي والتاجر وصاحب العمل الحر والمسيحي والمسلم) يجمعون على الشكوى من أعمال الكنيسة السياسية، ومع ذلك فلم أجد لدى أحد ما الجرأة الكافية لمعالجة هذا الموضوع
إن الفرنسيين يفتخرون في بلادهم بفصل الدولة عن الكنيسة، ولكنهم في لبنان قد استعملوا الاكليروس الماروني منذ البدء لتحقيق غاياتهم السياسية. إن كليات اليسوعيين الفرنسيين ومدارسهم نفسها قد أصبحت مراكز للدعاية الفرنسية، حتى إن أكثر القسيسين الفرنسيين يعتبرون أنفسهم جنوداً يخدمون الراية المثلثة الألوان كما يخدمون الصليب. وقد شعر رجال الاكليروس من غير الموارنة أنهم لا يجوز أن يتأخروا عن إخوانهم في هذا المضمار فدخلوه بدورهم، وأخذوا يستعملون نفوذهم الديني لتحقيق الأغراض السياسية. أما المسلمون فان دينهم في الأصل لم يفرق بين القوانين الدينية والمدنية، ومع ذلك فقد كانت سلطة الأئمة والمفتين في الأمور غير الدينية لا تشمل غير الأفراد التابعين لهم. أما الآن فقد أصبحوا هم أيضاً يلعبون دوراً سياسياً
إن الدولة المنتدبة لم تعمل شيئاً للوقوف في وجه حركات رجال الدين السياسية، بل هي على العكس قد شجعتهم عليها لأنها أدركت أن أي خلاف ينشب بين فئات متباينة من أهل البلاد من شأنه أن يقوي مركزها. إن روح الاستخفاف التي تنطوي عليها هذه السياسة قد بينتها جريدة الطان بجلاء، إذ أشارت في مقال لها في شهر يناير عام 1926 إلى مهمة المسيو دو جوفنيل المندوب السامي الجديد بهذه لعبارة: (إن وظيفة المسيو دو جوفنيل لواضحة تماماً: فهو يجب أن يفرق لكي يسود) على أن خطر هذه السياسة قد أخذ يتناول الفرنسيين أنفسهم، فالمارونيون شرقيون في الدرجة الأولى وإن كانوا نصارى؛ ولا رغبة لديهم في أن ينقادوا لفرنسا انقياداً أعمى. ومن المحتمل أن يجدوا أنفسهم في المستقبل في صف المسلمين
والإنصاف يقضي بأن نعترف بأن اشتغال رجال الدين بالسياسة لم يمح كل أثر للشعور الديني، فإننا نجد بين النصارى طائفة لا تزال شديدة التمسك بالدين، ألا وهي طائفة الأرمن، وكذلك الفلاحون في الجبال الذين يختلفون عن باقي فلاحي الشرق الأدنى بسمو أخلاقهم. أما الإسلام فهو منذ الحرب العظمى قد أخذ نفوذه يضعف. وأما الدروز فأنهم على الرغم من تمسكهم بدينهم كادوا يفقدون تأثيرهم في حياة المجتمع الروحية بسبب اعتصامهم وراء طقوس دينهم السرية
إن الكثيرين من مثقفي النصارى والمسلمين لا يفرقون بين الدين كما هو معروف في بلادهم وما تتطلبه الحزبية من دسائس وفساد. وهذا ما حمل بعضهم على الافتخار بأنه لا ديني؛ ففي بادئ الأمر كنت أستغرب قول بعض المتمسكين بتعاليم الدين لي بأنهم ضد الدين، ولكني ما لبثت أن أدركت أنهم يقصدون بذلك أنهم ضد رجال الدين
إن الحكومة اللبنانية تشعر بضعفها وهي لهذا لا تجرؤ على السعي للقضاء على نفوذ رجال الدين السياسي لكيلا تعرض نفسها لغضب قسم من رعاياها عليها
(يتبع)
علي حيدر الركابي