مجلة الرسالة/العدد 266/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 266/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 08 - 1938



موت فرنشيسكو فرنشا

مترجمة عن الإيطالية

يا بني! لا جدال في أن عصر النهضة الإيطالية عصر ربيع الحياة الفنية العظيمة؛ أورق الفن فيه وأزهر، ونهض الرسم نهضة قوية جبارة، إذ نفض عن كاهله رماد الموت، ونفخ في هيكله روح حياة جديدة، فجاءنا بكل شهي بهي، وأسعف ذوقنا بكل رائع خلاب

أوجد من الرجال العظام ومن الرسامين الفطاحل ما يدهش لمده وحصره كل قارئ وكل مؤرخ: رجال أكفاء، أفذاذ، في المناقب والأعمال، جبابرة في التفكير، عظماء في الإبداع والخيال

وكلنا مشوق ولا شك إلى دراسة حياة رجالات هذا العصر، لتفهم طراز درسهم للفن، وطرق تدرجهم نحو ذروة الكمال والمجد: بعد أن طواهم الردى واحتوتهم الرموس ومن الغريب العجيب كما قال (أوسيان) أننا حين ذكرانا لهم وتتبعنا لخطواتهم ينهضون معاً ويأتوننا مجتمعين ليذكرونا بقيمة فهم المتحد المشترك، وبقوة الدهر الذي عاشوا بين أحضانه حتى اصبحوا خير مثل

هناك حوادث كثيرة، ومناقب طريفة نقلنا إلينا تاريخهم العامر المجيد، قد نظنها عند سماعها إنها من خيال الكتاب أو من تزويق الرواة مستحيلة الوقوع خارقة لطبيعة الواقع. ولكن ها هي آثارهم الخالدة لا تزال تستهوي لبناً بعد أن طواها البلى، فكيف بها وقت أن كانت في صبح شبابها الرائع، وفي عصرها الذهبي الذاهب؟!

هناك قصة يهلع لسماعها القلب ويخشع، هي قصة الفنان العظيم (فرانشيسكو فرانشا) أستاذ المدرسة البولونية اللومباردية

ولد فرانشيسكو فرانشا في أسرة متواضعة فقيرة

ثم جعله أهله في صغره عند صائغ فكان الفن الرفيع متجلياً فيما يبدع. ولما شب كان أمراء (لومبارديا) يتقدمون إليه لينقش لهم صورهم على العملة التي كانوا يسكنوها. ولم يقتصر الإعجاب به على أمراء بلده فحسب، بل تدعاهم إلى أمراء المقاطعات المجاورة، فكانوا هؤلاء إذا زاروا (بولونيا) - موطن الفنان - أوفضوا إليه ليطبع صورهم على اللوحات المعدنية، وينقشها على العملة التي يريدونها، كما كان يصنع لأمراء بلدة وأقيالها

ومع ما بلغه فرانشيسكو من المنزلة السامية والمكانة المرموقة كانت نفسه التواقة تتطلع إلى ذروة أسمى مما وصلت. ولما بلغ الأربعين حولاً، وجه عزيمته الجبارة لشق طريق جديد لم يسلكها أحد قبله. . . تعتمد على العلم والدراسة والذوق والحس. . . وها هوذا يبدأ بدراسة الرسم، فيدرس توافق وتراكيب الرسوم، وتناسب وامتزاج الألوان، وأثر وقوى النور، وأساليب رسم المنظور بالطرق الهندسية. فاستطاع بعد هذه الدراسة يخط في مدة قصيرة لنفسه طريقة جديدة في عالم التصوير: هي المعروفة في التاريخ (باسم المدرسة البولونية اللومباردية)

اعترى سكان لومبارديا ضرب من الذهول والتعجب حين طلع عليهم فرانشيسكو بلوحاته الجميلة وجاماته البديعة، وكانوا يعتقدون استحالة الجمع بين النقش والتصوير، وخاصة بهذه السرعة العجيبة. ولكن الأمراء لم يسيروا مع ذهولهم ولم تطل ساعة تعجبهم بل راحوا يختطون ما أنتج من لوحات وما أبدع من جامات ليزينوا بها دورهم وقصورهم كما كانوا يستبقون قبلاً لشراء آثاره المعدنية المنقوشة. . .

نال فرانشيسكو فرانشا منزلة سامية في الرسم لا تقل عن منزلته في النقش في وقت كان فيه اسم (رافائيللو سانسيو) العظيم فنان روما وصاحب الحظوة عند البابا، قد سار به الركبان وردده الخافقان. فنجاح فرانشيسكو لا يفسر بخلو المكان وفقدان المنافس، كما أن شهرته في النقش لم تكن زريعة للنجاح أو الزلفى إلى الأمراء والكبراء، لأن الكفاية الفنية ليست كضربة لاعب أو رمية رام؛ بل هي ومضة علوية تشع آلاف الأشعة الوهاجة، فتنير من نفسها طريق الفهم وتدلنا على مواقع الإسفاف أو السمو بدون إبهام ولا خداع؛ فنرى بأعيننا آثار هؤلاء الفنانين العظام الذين هم بحق نعمة من نعم السماء

لا شك أن فرانشيسكو كان من ألمع رجال الفن في عصر النهضة. له كما لهم المنزلة المرموقة في نفوس رجال النقد والتأليف في العالم أجمع، لا لشيء إلا لأن هذه الصفوة العجيبة من الفنانين العظام استطاعت أن تشيد على أنقاض الجاهلية الجهلاء صرحاً مكين الدعائم رفيع الأركان في أفسح ساحات المدينة الفاضلة وفي عالم الفن الرفيع المخلد. وكانت يد فرانشيسكو من أطول الأيدي وأقدرها على رفع الأساطين وتشييد الجدران، فأنتجت وافر الإنتاج وأبدعت غاية الإبداع، وطافت على قصور (لمبارديا) فكستها الجمال، وأكسبتها الفتنة والملاحة. وراحت إيطاليا كلها بعد لومبارديا تذكر فرانشيسكو بكل إجلال وإكبار

كان رافائيللو في روما يرهف سمعه للصدى الخلاب الذي تتجاوبه الأفواه المعجبة. وكان يصغي بقلبه للحديث العذب الذي يتحدث به أهل بولونيا عن فنانهم العظيم، وكان يطرب لموسيقى اسم الفنان ويتشوق لرؤية آثاره وطلعته، وقد أسعفه الحظ فرأى ما أعجبه فاتصل روفائيللو بفنان لومبارديا فأطرى طريقته إطراء جميلاً وامتدح أسلوبه وقرظ فنه الحسن العجيب

لقد بلغ فرنشيسكو بحق منزلة رفيعة من لطف الحس ورقة الروح وجودة الأسلوب ودقة العمل، وقد أعجب بفنه كثير من الكتاب، وغالي أحدهم فدعاه إله الفن. وقد قال (كافاتزوني) إن روفائيللو بعد أن رأى (عذراء فرانشيسكو) تحرر من الجمود الذي علق بفنه من إتباعه طريقة (بروجا) وخلص من الجفاف المشاهد اليوم على بعض لوحاته من قبل تأثره بفن فرانشيسكو. وروح الفنان كالأسفنجة ما جاورت غديراً إلا تشربت من مائه

لم يكن إطراء رافائيللو لفرانشسكو إلا قوة جديدة دفعته إلى الاستزادة، ورأى أن فنه لم يصل بعد إلى المكانة القصوى، واتخذ من مدح رفائيللو له جناحاً جديداً سيساعده على الطيران في عالم الخلود

كان فرنشيسكو دون سائر الفنانين يستطيع أن ينافس رفائيللو الحظوة التي كان ينعم بها عند البابا وفي نفوس أهل روما، وكان في قدوة فرنشيسكو أن يباري رفائيللو في حلبة الفن ويطاوله في سماء المجد، ولكن الحظ لم يواته فلم ير لرفائيللو أثراً ليضرب الطريقة التي يسير عليها ضربة قاتلة. كان مقيما ببولونيا لم يبرحها طيلة حياته، وكان رفائيللو مقيما بروما وروما ضنينة به والبابا من أحرص الناس على ملازمته. وكان فرانشيسكو الشيخ يتشوق لرؤية آثار فنان روما قبل إغماضه الغمضة الأخيرة، رغم الفكرة التي استخلصها من وصف الناس لفنه ومن الكتب التي كان يتلقاها منه لماماً، فقدر أنه مثيله في نواح متعددة، وقد يفوقه في إحدى النواحي العميقة التي وصل إليها بطول المدة التي مارس فيها الرسم جاءه البريد يوماً بكتاب من رفائيللو يقول له فيه: إنه أرسل إليه لوحة (للقديسة سيشيليا) أعدها لكنيسة (سان جوفاني) بمدينة بولونيا نفسها، وأنه يرسل هذه اللوحة إلى صديقه (فرانشيسكو) أولاً راجياً منه التكرم بمراقبة وضعها بالمكان الذي أعدت له. وقد يكون السفر الطويل قد أضر بها، أو ربما يرى فيها بعض هفوات فنية، فهو (أي رفائيللو) يرجو منه إصلاح ما فسد وتصحيح ما أخطأ فيه. على أن لغة التواضع التي اتبعها رفائيللو في كتابه إلى صديقه فرانشيسكو وأذن له بأن يعمل ريشته في اللوحة التي سيرسلها إليه ليتحقق من سلامتها وصحتها؛ كل هذا أثار في نفسه ثورة متضاربة شديدة من الأخيلة المضطربة، ولم تسعفه مخيلته في تصور ما سوف يري، أو في تقدير ما سيشاهد من المقدرة الفنية والبراعة التصويرية

وفي عصر يوم من الأيام التي مرت على وصول رسالة رفائيللو إليه رأى تلاميذه يوفضون إليه فرحين مستبشرين يزفون إلى أستاذهم خبر البشرى بقدوم اللوحة المنتظرة، وكانوا قد أعدوا لها مكاناً حسناً في المعمل على ضوء كامل

ها هي الدنيا تدور برأس فرانشيسكو الشيخ. . . ولماذا؟. .

أنى لنا أن نصف لرجال هذا العصر الشعور الذي غمر نفس ذاك الفنان العظيم حين شاهد لوحة أعجبته وملكت لبه؟! هو شعور أخ فارق أخاً له منذ الصغر، وارتقب عودته على نار الغضى. . . وفي الوقت الذي فتح ذراعيه لعناقه كان أمام. . . أمام ملاك سماوي باهر الضياء

خفق قلب الشيخ المسكين وعنا وجهه وخشع أمام جلال الفن الرهيب، وانحنت رجلاه ساجدتين كأنه أمام كائن سماوي مهيب. . .

سمر في مكانه وتسارع الطلاب إلى أستاذهم يسرون عنه بعض ما حل به، ولا يفهمون لكل ما حدث سبباً. . . أمطروه بالأسئلة والشيخ في عالم غير عالمهم. . .

صحا الشيخ قليلاً. . . ولكنه ما زال شاخصاً نحو اللوحة السمائية (لوحة رفائيللو) ينظر وينظر. . . وكيف لنا أن نعرف ماذا كان يفكر في هذه الساعة الرهيبة؟

لقد تحطم المسكين أمام شعاع العظمة. . . وهاهو يسائل نفسه بغصة وألم عن السبيل إلى التفكير عن الجريرة التي اقترفها. إنه لكنود كفور. تطاول على رفائيللو العظيم وغمطه فنه. ولقد خيل إليه عن جهل وطمع أنه صنو له وند. . . وقد طفق يعمل أصابعه الواجبة بشعره الأشهب الأشيب ويزرف الدمع سخيناً غزيراً على ما فرط في جانب الفن. لقد كد وجد في حياته طعماً في المجد، ولكنه في الساعة الأخيرة من عمره رأى صرح فنه الفخم ينهار أمام عظمة روفائيللو. تطلع إلى حيث كانت تنظر القديسة المصورة. . . إلى السماء وكشف عن قلبه المحطم وصلى صلاة قصيرة طلب فيها الصفح والغفران. . .

خانته ركبتاه وضعفت رجلاه عن حمله فسارع تلاميذه إليه فحملوه. . .

وكان هو خارج من معمله ينظر إلى بعض لوحاته المعلقة ونفسه تذوب حسرات وألما. وألقى نظرة الوداع على لوحة دفن القديسة سيشيليا التي كانت لا تزال في معمله وخرج.

مرض الشيخ، واصطلحت عليه الأوصاب. وأخذت ذاكرته تخبو، واستولى عليه هذيان الحمى الأخير، وراحت تعتاده السكرات والغمرات. . . لقد خان العقل الجبار صاحبه في أواخر ساعاته، ذلك العقل الذي غبر زمناً طويلاً يبدع الوجوه المشرقة ويسوى الأجسام على الأقمشة بالألوان والأصباغ. . .

واجتمعت تلك الوجوه التي أبدعتها مخيلته السحرية وخلقتها ريشته الصناع دفعة واحدة مع سعير الحمى المتأججة وراحت ترقص رقصة الشماتة والسخرية. وترفل في ثياب رثه بهيئات مقلوبة ممسوخة ووجوه مشوهة دميمة، تدق طبول الهلع وتنفخ في بوق الفزع، وتقرب ما بينه وبين الهوة المجهولة. . .

وزاره طلابه يستفسرون عن صحته. . . فإذا هو قد فارق الحياة. . .

حقاً لقد كان هذا الرجل عظيماً، حينما شعر بالضعف أمام عظمة روفائيللو العلوية، عظيماً عندما أثر في نفسه فن رفائيللو هذا الأثر الغريب. إن عبقرية فرانشيسكو في رأي حكم النقاد والمؤرخين هي في طليعة العبقريات الفذة، وآثاره تنطق بأنه راح ضحية النشوة والانفعالات الفنية

زفر الشيخ (فاسرى) زفرة عميقة وهو يقص على فاجعة الفن بموت أبي الفن فرانشيسكو فراننشا، ثم أردف قائلاً: عجبي من تلك العقول القاصرة التي تدعي النقد والعلم والتي لا تريد أن تفهم أو التي لا يمكنها أن تفهم سر تلك العبقريات التي أودعها الله سبحانه تلك النفوس العظيمة التي هي ولا شك من طينة غير طينة الناس، وتريد هذه العقول أن تقول إن كل ما نقل إليها وما قيل لها عن هؤلاء الأبطال الجبابرة حديث خرافة أو ضرب من خيال الرواة، وليس هذا غريباً من عقول لا تسمو بطبيعتها إلى عقول هؤلاء الرسل والأنبياء: رسل الإلهام والخيال، وأنبياء الفن والجمال

إنني لآسف يا بني أن نسمع من يقول بوقاحة وصفاقة إن فرانشيسكو فرانشا قد مات بالسم.

المترجم

محمد غالب سالم

خريج الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة بروما