مجلة الرسالة/العدد 268/فتاوى شرعية

مجلة الرسالة/العدد 268/فتاوى شرعية

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 08 - 1938



معضلات العصر

للأستاذ الجليل محمد بن الحسن الحجوي

وزير معارف الحكومة المغربية

تتمة

نص الجواب على الأسئلة الأشفودرية

جواب السؤال الثاني:

إن الذي يأخذ مرتباً كبيراً من الدولة الأجنبية سواء الذي في بلاده أو في بلاد مجاورة إن كان يتقاضى ذلك في مقابلة عمل يضر بأحد كالجوسسة أو الوسوسة أو خدمة مؤامرة أو إيقاد فتنة أو إي ضرر آخر بفرد أو بالأمة، فالمرتب حرام وسحت، والفعل المذكور مذموم وخيانة عظمى، والجاسوس ملعون ومعلوم حكمه في كتب الفقهاء فلا نطيل عليكم به. ومن أحكامه إباحة دمه حسب نظر الإمام وكما تقتضيه المصلحة، ما لم يؤد ذلك إلى فتنة أعظم فللإمام النظر فيه. وبالجملة إن السؤال عن المرتب وهو سحت وحرام فأن لم يكن في مقابلة ذلك بل كان لأمر اقتصادي أو مرتباً عمريَّاً في خدمة مشروع أو نحو ذلك مما لا ضرر فيه على أحد فلا شيء فيه

جواب السؤال الثالث:

. . . في الطرق الصوفية التيجانية أو غيرها. . .

إن هذا السؤال كان سألني عنه شيخ الإسلام المقدس المبرور سيدي احمد بيرم التونسي بذاته وكنت أجبته مشافهة بمحضر جمع من علماء تونس والجزائر ومنهم العلامة صفينا سيدي الحاج أحمد سكيرج، أحد عظماء الطريقة التيجانية الأعلام

وهأنذا أكتب لكم ملخص الجواب الذي أجبته به بمحضرهم بمعناه: إن الطرق الصوفية تجانية أو غيرها، إنما حدثت في الإسلام لجمع قلوب المسلمين على إقامة الشريعة الغراء إقامة كاملة كافلة تطهير النفوس من الأخلاق الذميمة، وتحليتها بحلية مكارم الأخلاق ضمن دائرة العمل بالكتاب والسنة والمحافظة على أنفاس العمر ألا تضيع في سفاسف الأعمال، مع التراحم والتواد بين عموم المسلمين كما أشرت لهذا في كتابي (الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي) في الربع الثالث منه عند الكلام على تاريخ علم التصوف، وقد بسطته أتم بسط في كتابي (برهان الحق في الفرق بين الخالق والخلق) حيث تكلمت على الكثير من الطرق ومنها الوهابية

فكل طريقة وجدناها تخدم الإسلام بإخلاص سائرة على هذا المبدأ سيراً مستقيما فأنعم بها وأكرم؛ وكل طريقة حادت عن هذا المبدأ نبذناها نبذ المستقذرات وتبرأنا من عملها تبرؤ إبراهيم من أبيه. أن سيدي الوالد المقدس كان من أتباع الشيخ التيجاني - رحم الله الجميع - وكان يؤكد لي أن الشيخ كان يقول لأصحابه: زنوا كلامي بميزان الكتاب والسنة، فما وافقهما فخذوه، وما خالف فانبذوه. فنحن نعمل بوصية الشيخ ونزن ما ينسب إليه بعض الجهلة من أصحابه إليه الذين لا يفرقون بين النبي والولي ولا بين الخالق والمخلوق - بميزان الشريعة، ثم نفعل ما أمرنا به قدس الله روحه

وعلى هذا فالقولة التي شاعت وذكرها بعض المؤلفين منهم ونسبها للشيخ وذكر أنه وجدها بخطه وهي: أن صلاة الفاتح لما أغلق تعادل ستين سلكة من القرآن أو ثمانين. ثم جاء بعض المؤلفين منهم فزاد صفراً وقال ستمائة، ثم جاء محشيه وزاد صفراً ثانياً وقال ستة آلاف سلكة

نقول إنا عرضناها على الكتاب والسنة فلم نجد إلا ما يردها وينبذها لأنها تقتضي كناية وهي أبلغ من التصريح أنها أفضل من الصلاة الإبراهيمية التي صحت بها الأحاديث بل ومن القرآن أيضاً وأن كلام المخلوق أفضل من كلام الخالق (ولذكر الله أكبر)

دعني من فرية أنها من الكلام القديم فمثل هذا لا ينطلي حتى على المغفلين ولا يلتفت إليه المؤمن بالله الذين يعلمون أن الوحي انقطع بموت النبي ، وأن إلمامات المتصوفة والمرائي المنامية لا قيمة لها في الحجية عند كافة أهل العلم والدين المعتد بهم؛ والثواب على الأعمال ومقداره عند الله لا يدرك إلا بطريق الوحي الحقيقي ولسان النبوة الناطق؛ خلافاً للمعتزلة القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين؛ وأن العقل يستقل بمثل هذا

ومن المكر الخفي والكيد للإسلام المنطوي تحت هذه المقالة تزهيد الناس في القرآن العظيم وفي تلاوته ثم الأعراض عنه إلى ما هو أخف عملاً وفي الميزان أثقل في زعمهم الباطل وإني لأعجب لمسلم استنار قلبه بنور القرآن يقبل هذه المقالة الشنعاء في الإسلام فلا حول ولا قوة إلا بالله

لذلك إذا أحسنا الظن بالشيخ - كما هو شأن المسلمين مع سلفهم الصالح - واعتقدنا فيه الكمال، فلنكذب نسبتها للشيخ ونسترح، فإن الاشتغال بتأويل كلام غير المعصوم من العبث وتضييع الوقت. ثم لأن سند نسبة المقالة للشيخ واه من أصله لضعف سند الوجادة إن صدقنا من قال إن الخط خط الشيخ. وقد جرب المحدثون التغفل على الكثير من العباد والمتصوفة، لذلك ضعفوا رواية كثير منهم كما هو مقرر في فن المصطلح. كما أننا جربنا الكذب والبهتان والتغفل والبله على كثير من الأتباع لما يحملهم عليه التعصب الطرقي والتحزب المذهبي وحب انتشار الطريق، لأن ذلك من أساليب الارتزاق، واستغلال استبلاه المغفلين الجاهلين، يحببون إليهم الطرق بتكثير ثواب الأعمال وطرح المشاق وسهولة الوصول وتخفيف المسؤوليات أمام الله.

فيقولون للمريد: من عمل في طريقنا قليلاً كان له أكثر من الأجر الذي يكون لغيرنا بأضعاف. فإذا كان لمطلق المسلم ليلة قدر واحدة في السنة فالتجاني كل لياليه ليلة القدر. وإذا كان لغيرنا على الحسنة عشر حسنات فلنا آلاف الحسنات؛ وإذا كان غيرنا عليه حساب ومسؤولية أمام الله ثم عقاب، فنحن ندخل الجنة بغير حساب. نحن لنا سيد أحمد التجاني ضامن وهم لا ضامن لهم؛ وكل تجاني يحضر سيدي أحمد لقبض روحه. إلى غير هذا مما هو معلوم لدى كل من خالطهم، فيصورون له طريق التجانية بأجمل صورة يتصورها الوهم. فكأنها ورقة حماية من دولة لها سلطة عالمية، تعلى من يجير ولا يجار عليه، فكأنهم نسوا القرآن

فبهذا صارت الطريقة التجانية في نظر أهل العلم بالسنة والكتاب كأنها مسجد الضرار ضد الإسلام

فالله يقول في نبيه خاتم النبيين، وهم يقولون في الشيخ التجاني هو الختم، وهو لبنة التمام للأولياء، فحجروا على الله ملكه وقطعوا المدد المحمدي وهم لا يبالون أو لا يشعرون، وحتى إن شعروا فالمقصد يبرر الواسطة؛ وإذا سمعوا أن النبي أفضل النبيين قالوا أن التجاني رجله على رقبة كل ولي لله بهذه العبارة الجافة من كل أدب والجارحة لعواطف كل مسلم، لأن الولي في عرفهم يشمل النبي، إذ يقولون إن ولاية النبي أفضل من نبوته، ولا يبالون أن يكون أصحابهم أفضل من أبي بكر وعمر والعشرة المبشرين بالجنة الذين كانوا يخافون الحساب ولا يأمنون العقاب؛ ولم يكن عندهم بشارة النجاة منهما. إذ لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون

حكي لي بعض القضاة قال: كان في محكمتي تسعون عدلاً في البادية. وقد تقصيت الصالح والطالح منهم لأعلم مقدار ثقتي بهم في حقوق المسلمين فوجدت عشرين منهم متساهلين لا يؤتمنون على الحقوق؛ وحين دققت النظر في السبب تبين لي أنهم جميعاً تجانيون، فبقيت متحيراً حتى انكشف لي أن السبب هو اتكالهم على أنه لا حساب ولا عقاب بترصدهم فانتزع الخوف من صدورهم. كل هذا سببه الفساد الذي أدخله جهال الطريق عليها فأفسدوها وانعكس المقصود من الطرق التي كان يقصد منها ردع الخلق عن المعاصي والتوبة منها وزيادة خوف الله فصارت إلى أمن مكر الله، وإزالة مخاوف الآخرة من عقولهم فلا يبقى في قلوبهم ذرة من خوف الله وإنما تمتلئ بتعظيم شيخهم حتى تتراءى لهم عظمته فوق عظمة الله ورسوله

ومعتقدي في الطريق التجانية الحقيقية نزاهتها عن هذه الهذيانات وهذه الإباحة المقنعة إذ كان فيها فحول الدين وأساطين العلم، مثل أشياخنا: مولاي عبد الملك العلوي الضرير سيدي محرب التهامي الوزاني، سيدي الوالد المقدس، سيدي الحاج محمد بن محرب عبد السلام كنون، سيدي أحمد بن أحمد بناني. . . ومن قبلهم كسيدي إبراهيم الرياحي التونسي ومن قبله، ومن بعدهم ممن هم موجودون الآن وفر الله جمعهم ووفقهم للقيام بأحكام الطريق. وقد ذكرت في الفهرست وفي الفكر السامي تراجم جملة منهم. وكانوا سرج هدى في علوم القرآن والسنة والوقوف عند أمرهما؛ وحاشاهم أن يتمذهبوا بطريق تؤسس على ما يوهم خلاف عظمة الإسلام والشرع الإسلامي أو يرضوا بذلك وهم من هم علماً وديناً وورعاً وذباً عن الإسلام وغيرة عليه. ومنهم من كان يذكر هذه الزوائد علناً، ومنهم من أنفصل عن الطريق لأجلها كسيدي الفاطمي وغيره رحمة الله عليه

أما كتاب (جواهر المعاني) الذي ألفه أحد العوام من أصحاب الشيخ التجاني، فأخذ أكثره حتى الخطبة بلفظها من كتاب (المقصد الأحمدي) الذي ألفه قبل الشيخ التجاني سيدي محمد ابن الطيب القادري في مناقب سيدي أحمد بن عبد الله معن الأندلسي، والمقصد الأحمدي قد طبع فبان عوار جواهر المعاني حتى الشعر الذي قيل في سيدي أحمد بن عبد الله أخذه بنفسه وجعله في الشيخ التجاني ونقل الفضول بلفظها، بل كل ما وصف به سيدي أحمد بن عبد الله جعله وصفاً لشيخه ظاناً أن اتحاد الاسم اتحاد للوصف. وذلك ما يدلك على براءة الشيخ التجاني من كل ما تضمنه الكتاب المذكور

ومن أغلاط أدباء هذه الطائفة وغلوِّهم المفرط أنهم جعلوا قانوناً لطريقتهم ضمنوه مختصراً على لهجة مختصر الشيخ خليل المالكي نسقاً وأسلوباً، وبينوا فيه الأحكام الخمسة من وجوب وحرمة وندب وكراهة وجواز كأنهم لم يسمعوا قوله تعالى (إن الحكم إلا لله)

ومن عجيب أمرهم أنهم جعلوا حكم الردة عن طريقهم أقسى وأهول من حكم الردة عن الإسلام

فإن من ارتد عن الإسلام تقبل توبته ولو تكررت: (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا) الآية. أما من أرتد عن الطريق التجاني فلا تقبل توبته وليس له إلا الخلود في النار والموت على سوء الخاتمة، ويبقى عندهم ملحوظاً بتلك السمة، ولا مطمع في قبول توبته، ولو أناب ورجع لطريقهم. ويظن بعض أنه لو كانت لهم سلطة متمكنة لقتلوه وما استتابوه

فعملهم هذا يتخيل منه أن لهم برنامجاً خاصا يستدرج طريقهم لتصير ديانة مستقلة عن الإسلام. . . حكي لي أن محمد الأمين الشنقيطي لما ألف المختصر المذكور ظاناً أنه عمل عملاً عظيماً حميداً - جاء به إلى الأستاذ العارف سيدي العربي الموساوي ساكن زرهو، وهو من علماء هذه الطائفة الكبار ومقدميها الأخيار؛ فلما اطلع عليه وبخه توبيخاً عنيفاً قائلاً: أتجعلون طريقنا مسجد الضرار للإسلام؟ السنة تجمعنا والبدعة تفرق بيني وبينكم، أو ما هذا معناه. ولم يقدروا على إظهار هذا المختصر إلا بعد وفاة هذا السيد الجليل رحمه الله. وبعد موته وجد في تركته فسرقه من سرقه ونسبه لنفسه وطبع ونشر فكان موت الأكابر زلة الأصاغر

لقد وقع مثل هذا في الديانات تسلط عليها الجهلة فأفسدوها ظانين الإصلاح فكيف بالطرق؟

وهذه صورة مصغرة ترينا كيف وقع في الديانات حتى اختل نظامها وطمست أعلامها وهرمت بالقلب والإبدال الذي أشار إليه القرآن. . .

وإذا لم يتدارك هذه الطريقة علماؤها بحذف ما زيد فيها، وإبطال كل ما خالف القرآن والسنة ونبذ كل تأويل وتضليل فإنها تؤول للاضمحلال، إذا الإسلام أفاق من سكرته، ولم تعد أفكار أهله تقبل أدنى شيء يمس بجوهر أصول الكتاب والسنة أو يخالف العقل الصحيح

وتمسكوا أي تمسك بقاعدة أن الدين لا أمت ولا عوج؛ وهو ما بين دفتي المصحف والبخاري ومسلم وصحيح السنة من رواية العدول الثقات دون المغفلين الجاهلين، ورموا خلفهم كل ما خالف ذلك غير ملتفتين لتأويل المؤولين وتظليل المرتزقة المضللين

وإني على يقين أنه بانتشار التعليم الصحيح المؤسس على الأصول السابقة، تنكمش تعاليم المخرفين وتظهر رداءة نفوذهم المزوَّرة، فتنكشف صبغة نفوذهم المدبرة بإشراق شعاع شمس الكتاب والسنة والعقل الصحيح؛ فاجتهدوا في تعليم أولادكم الدين القويم قبل أن يسبق إلى قلوبهم أي تعليم آخر سواه؛ فهو يناضل عن حوزته لأن برهانه في نفسه: (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا). (إن الله متم نوره ولو كره الكافرون) وعليكم سلام الله ورحمته من منبطه وجامعه معتذراً بقصوره وكثرة شواغله

(الرباط)

محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الجعفري