مجلة الرسالة/العدد 27/لطيفة النادي. . .!
مجلة الرسالة/العدد 27/لطيفة النادي. . .!
منذ أسابيع استشهد في ميدان الطيران حجاج ودوس! فتقاطرت في هذا المكان عبرات الأسى سوداء من هذا القلم، وتصاعدت زفرات الأسف حارة من هذه الصحيفة، وقلنا أن الأمة التي لم تكد تأخذ بأسباب الطيران حتى يسبق إلى الشهادة في سبيله فتيان من فتيانها، ويبادر إلى خوض أهواله فتاة من فتياتها، لا يستطيع أن يكسر من ذراعها حادث، ولا يتكاءدها في طريقها إليه عقبة.
كنا نقول ذلك والقدر الذي فتح لهذين الفتيين في السماء باب الخلود، كان يشق لهذه الفتاة في الأرض طريق المجد! فماكاد يعثر بنا الحظ في الجو الُمِضَّب الغريب، حتى نهض عجلان في جونا الضَّحيان العجيب، وكان يوم نهوضه الأغر يحلق في سماء مصر الجديدة ثمانية وعشرون من نسور أوربا القشاعم! يستعدون للسباق في سمائنا المشرقة الطليقة، ويستَنوَّن للرهان استنان الجياد العتيقة، ويظنون أن مصر التي فكرت في الطيران آخر الأمم لا يمكن أن تكون إلا مطارا لكل طائر، ومائدة لكل زائر! أما أن تكونِ قرنا يغالب، وموتورا يطالب، فذلك ما لم يقع في وهم ولم يَدُر في خَلَد! ولكن مجدنا الذي تحدى القرون وغبَر وجه الفلك لا يزال جياش الغضب على غدرة الجو بشهيديه في فرنسا! فهو يُدمَث لنسوره مثوى الضيافة، ويعقد غيب ضميره على الثأر، ولا يثأر إلا بطريقة تليق بماضيه ونزكو بأصله!! نفث في روع حمامة من حمائم الوادي أن تسابق هذه النسور في حَلبْة الهواء إلى الأمد! فصفَّت الحمامة المصرية في الجو جناحها الهشّ وريشها الناعم، ثم نظرت نظرة التحدي إلى النسور المحوّمة، فتوقدت صدور الكواسر غضبا من هذه الجرأة، وشق على ملوك الهواء وجبابرة السماء أن يشعروا بهذه الحمامة وقالوا ممتعضين: ريشة تواثب الريح، وهامة تعاجز الثور، ونملة تناجز القدر! وقال (ضيوفنا) الأعزة أصحاب (النشرة البذيئة)، والفخر المتعصب يثنى اعناقهم، والزهو الساخر يلوى أشداقهم: (يا لغَرور (أبناء العرب)! متى دخلت (الحمير) مضامير السباق؟ ومتى سامت وحوش (البهائم) سوابح الطير! ألم تكفهم فضيحة (الجنديين القذرين) حجاج ودوس؟
وكانت عيون مصر حينئذ تشخص إلى السماء مغرورقة بالأمل، ومحركات الطوائر الدولية تهزم في الجو الصافي هزيم الرعود، والأجنحة المعدنية تضرب في الهواء الساكن إلى الإسكندرية، ولطيفة النادي تتقدم بطائرتها الصغيرة السرب المتعاقب المثار إلى قصبات السبق!! ثم غابت الأصوات في مطاوي الفضاء، واستولى على المطار اللجِب سكون وصمت، حتى إذاأزف موعد الرجوع سَرَحت العيون في الجو، وسبحت النفوس في الخيال، وتجاذبت أمم أوربا حبل الأمل في الظفر! هل هي فرنسا؟ هل هي إنجلترا؟ هل هي المانيا؟ ولم يقل أحد لا منا ولا منهم هل هي مصر؟ ولكن القدر على الغيب منا ومنهم قالها! وكان الجواب الحاسم عند لطيفة النادي!
من كان يخطر بباله منا - ولا أقول منهم - أن الآنسة لطيفة بنت الخدر العربي، وذات الخفر المصري، تباري أساطين الطيران ذوي الماضي البعيد والمران الطويل والخبرة الواسعة وهي لم تقض في علاج هذا الفن غير ستة شهور، فكيف يقع في الظن أن تسبق سابقهم وتهبط الأرض قبله بدقيقة كاملة؟
هنالك طفر المصريون من الفرح، وماد الأجانب من الذهول، واقبل المحكمون على الطائرة المُجَليَّة، يعصرون يدها من الإعجاب والدهشة، ويقولون والعرق البارد يتألق فوق الجباه الزٌّهر، كما يتألق رشح الرطوبة فوق الرخام الأبيض، يا آنسة قبلنا سبقك موضعاً ورفضناه شكلاً!! لان هناك على ساحل البحر (خيمة) أخرى لم تدوري حولها، والخطأ خطأ المنظمين لأنهم لم يضعوها في مكانها!
ثم منحوا المصلى الفرنسي جائزة المال، ومنحوا السابقة المصرية جائزة الشرف! وهل تبتغي مصر غير ذلك؟ ليقل لنا أصحاب (النشرة البذيئة) ما رأيهم في هذا الشعب؟ إلا يرون أنهم جحدوا فضله كما غمطوا حقه؟ إلا يجدربربائب المدنية وللعلم أن يفهموا أن عجز القيادة وتردد السياسة وطغيان الدخيل، إنما تخمد الشعور إلى حين، وتضعف الأخلاق إلى حد؟ وأن الأمم الحرة بطبيعتها، لا تلبث أن تنفي الزغل عن حقيقتها، فتظهر مجلوة الصفحة نقية الأديم؟ أفلا ينظرون إلى المصري في الميادين الحرة كيف سبقت قدمه وعلت يده؟ ألسنا في الرياضة والسباحة والغناء والأدب والطب أبطالا عالميين أو شبه عالميين؟
أن أسوأ الآراء الأوربية في مصر ربما كان عن المرأة، فانتصار البطلة لطيفة في هذا الميدان الخطير يصحح الخطأ في العقول المنصفة، ويُقر الحق في النفوس الكريمة،
افتحوا لنا باقوم طريق الحياة، وأفسحوا لنشئنا مجال العمل، وخلوا بين نفوسنا وبين الحرية، ثم انظروا بعد ذلك ماذا يفعل الفتى، كما رأيتم بعيونكم ماذا فعلت الفتاة! احمد حسن الزيات