مجلة الرسالة/العدد 27/من دار إلى دار

مجلة الرسالة/العدد 27/من دار إلى دار

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 01 - 1934



للدكتور طه حسين

قال أستاذ البيان لتلميذه: زعموا أن البيان يعين صاحبه على أن يؤدي المعنى بعبارات مختلفة فيها الحقيقة والمجاز، وفيها التشبيه والاستعارة، وفيها الكناية والتمثيل وفيها ما نعلم وما لا نعلم من الوان الجمال اللفظي، هذه التي عن قصد، وتأتي على غير عمد، كأنما يوحي بها إلى الكتاب المبين. ولكنك تعلم أنا لا نذهب في فهم البيان هذا المذهب، ولا نقصد به إلى هذا النحو، وإنما نذهب به مذهبا اعم من هذا واشمل، كان يذهب إليه القدماء حين كانوا يتخذون البيان وسيلة إلى أداء ما يعرض للكاتب من الأغراض والمعاني في أشد الألفاظ ملاءمة لأغراضه ومعانيه، ولعلك تذكر انهم كانوا يذهبون في تعليم الطلاب فن البيان مذهبا طريفا كثيرا ما كان يضيق به المتكلفون من أصحاب الأخلاق، والذي لا يعلمون إلا ظاهرا من الفلسفة. قال التلميذ: نعم هو هذا المذهب الذي كان يحمل الأستاذ على أن يطرق أمام تلاميذه ويحمل تلاميذه على أن يطرقوا أشد الموضوعات تناقضا وأعظمها اختلافا فيؤدوها كأنهم يؤمنون بها أقوى الايمان، ويقتنعون بها أشد الاقتناع. وكانت هذه بدعة استحدثها السوفسطائية ثم ورثها عنهم أصحاب البيان فلم يغيروها، وإنما أمعنوا فيها إمعانا. وكتاب أرسططاليس في الخطابة حافل بذلك. وقد أبلى الجاحظ في هذا النحو من تعليم البيان بلاء حسنا، وقد ألف أساتذة اللغة والبيان في هذا النحو من الأدبكتبا لا تخلو من لذة ومتاع، فيها مدح الشيء الواحد وذمه، وفيها مدح النقيضين وذم النقيضين، وفيها. . . . قال الأستاذ حسبك، فقد أرى أن أشهر الصيف وما كان فيها من ارتحال وطواف، ومن اختلاف البيئات عليك وترامي أطراف الأرض بك لم تنسك ما أنفقنا فيه من أشهر الربيع من الدرس والبحث، فأنا نريد الآن أن نبتدئ من حيث انتهينا، ونمضي من حيث وقفنا، ونعود إلى ما كنا فيه من التمرين. فاختر لنا موضوعا واحدا يثير الضحك ويثير الرثاء. يثير الشماتة ويثير الرحمة. يبعث في النفوس مرحا وابتهاجا ويملا القلوب كآبة وحزنا، وهو على ذلك كله واحد لا يتغير، وإنما يتغير وجهة النظر إليه ونحو التفكير فيه، وأن الشيء الواحد قد يخالف نفسه ويباينها باختلاف الجهات التي تنظر إليه منها، والطرق التي تسلكها إلى فهمه والوصول إليه. قال التلميذ فأني لست في حاجة إلى أن أج وأكد، أو ألتمس واختار، لأن الموضوع ماثل أمامي شهدته أمس فأثار في نفسي هذه العواطف، المختلفة، وبعث في قلبي هذه الألوان المتباينة من الشعور، وكان المتعمقون في البيان يسرفون على أنفسهم وعلى تلاميذهم وعلى الفن حين كانوا يجتنبون ما يحدث بين أيديهم من الحوادث، ويختلف عليهم وعلى أمثالهم من الخطوب، ويلتمسون الموضوعات من عند أنفسهم يخلقونها خلقاً، فيصيبون حيناً ويخطئون أحيانا، ويعيشون في عالم الخيال على كل حال، مع أنهم لو نظروا فيما حولهم من الأحياء والأشياء لما احتاجوا إلى هذا الكد والجد، ولما بعدوا بأنفسهم وتلاميذهم عن مواضع الحق والصدق والصواب، ولما نقلوا الأدبمن هذا العالم المعروف الذي يضطرب فيه إلا الوهم، ولما قطعوا الصلة بين الأدب الذي يجب أن يكون صورة الحياة وبين الناس الذين يجب أن يتخذوه مرآة يرون فيها أنفسهم وحياتهم كما هي أو كما يحبون أن تكون، أو كما يكرهون أن تكون قال الأستاذ: هات موضوعك ولا تمعن في الاستطراد، فقد علمت وقد أنبأتك بأني علمت أن أشهر الصيف لم تنسك دروس الربيع. قال التلميذ: فان الموضوع الذي شهدته أمس موضوع ويثير من المعاني ما لم تشأ، ويلهم ما أحببت من الخواطر ما لا تحب، يبعث الابتسام أن شئت أن تبتسم، ويبعث العبوس أن أحببت أن تعبس، وقد يكرهك على الابتسام وأنت عابس، وقد يكرهك على العبوس وأنت مبتسم، وقد لا يقف بك عند الابتسام، بل يغرقك في الضحك إغراقا، وقد لا يقف بك عند العبوس بل يدفعك إلى البكاء دفعاً، وقد يقفك من الابتسام والعبوس ومن الضحك والبكاء موقفا بين ذلك، فيه هدوء وعجب، وفيه رضى وسخط يضطربان في النفس ولا تظهر آثارهما على الوجه قال الأستاذ كفكف من هذا السيل اللفظي المتدفق، واقصد بنا إلى ما نريد. فقد علمت أن أشهر الصيف لم تنسك دروس الربيع في المعاني، وقد علمت أيضا إنها لم تنسك دروس الربيع في الألفاظ، وقد علمت أنك ما زلت قادراً على أن تجيد هذا الفن الذي يمكن الكاتب أو المتكلم من أن يقول فيطيل دون أن يؤدي معنى أو يدل على شيء. قال التلميذ: وكأنك تنكر هذا الفن أو تسخر منه أو تزعم أن جمال الكلام لا يأتي من الكلام نفسه، وأن الألفاظ ليست على حظ من الجمال الذاتي الذي يأتي من اتساقها والتآمها وانسجامها، قال الأستاذ: دعنا من كل هذا العبث واقصد بنا إلى ما نريد فقد نعود في يوم آخر إلى حديث الألفاظ والمعاني وما يجب أن يكون بينهما من صلة، وما يجب أن يقسم بينهما من الجمال.

ولكن اذكر أن كنت نسيت أنك شهدت أمس موضوعا واحداً يثير الضحك ويثير الرثاء فحدثني عن هذا الموضوع، كيف أثار الضحك؟ وكيف أثار الرثاء؟ قال التلميذ: وكيف أنسى موضوعاً لا يمكن أن يعدو عليه النسيان؟ وما رأيك في أديب خلق ليكتب، ويقول فيقضي عليه فجأة إلا يكتب ولا يقول؟ خلق ليفكر ويرقى بتفكيره إلى السماء فيجذب إلى الأرض جذباً، ويكره على البقاء فيها إكراها، ويؤخذ بالحياة مع أهلها أخذاً، خلق ليقرأ فيقضى عليه فجأة إلا يقرأ، خلق أطول الناس بالكلام لساناً، وأجرأهم بالقلم يداً، وأسرعهم إلى المعاني نفسا، وأخصبهم بالخواطر ذهنا: فيعقد لسانه وتغل يده وتقيد نفسه ويجدب ذهنه. خلق واضح الجبين باسم الثغر مبسوط الأسارير، تضطرب في نفسه الغنية معان غزيرة فيظهر اضطراب هذه المعاني على وجهه، فإذا هو متحرك الهيئة دائماً لا تكاد تنظر إلى محياه حتى ترى له شكلا جديداً يصور معنى جديداً، يضطرب في تلك النفس التي لا تهدأ ولا تستقر فيقضي على هيئته أن تسكن، وعلى وجه أن يتخذ صورة بعينها جامدة مستقرة لازمة لا تتحرك ولا تنتقل ولا تزول.

قال الأستاذ وماذا تنكر من أمر هذا الأديب؟ إنما هو صورة من صور برومثيوس الذي كان حركة متصلة منتجة خصبة، سريعة لبقة، تعلم الناس في غير انقطاع. وتسلك إلى تعليمهم كل السبل، وتبتغي إليه كل وسيلة، حتى لم تتحرج من أن تختلس نار الآلهة اختلاساً فتهديها إلى الناس وتمنحهم بذلك الحضارة والعلم والفن وتغنيهم أو تكاد تغنيهم عن (زوس) وأصحابه من سكان الأولمب، فغضب عليه زوس وضاق به وأزمع أن يعاقبه على ما جنى، فشده إلى صخرته تلك في القوقاز وقضي عليه أن يظل طوال الدهر مغلولا. وقد كانت الحركة جوهره عاجزاً، وقد كانت القدرة حقيقة لا يملك لنفسه ولا للناس شيئاً، لا يدفع عن نفسه ولا عن الناس شيئاً، يزوره النسر الذي وكل به من حين إلى حين، فينهش كبده نهشاً، وهو يرى ذلك ويألم له أشد الألم ولا يستطيع له دفعاً، يدعو الحرية فلا تستجيب له، لأن زوس قد كفها عنه، يدعو الموت فلا يستجيب له، لان الأقدار قد كتبت له الخلود. وقد صور ايسكولوس حال برمثيوس هذا تصويراً بديعاً ألهم من جاء بعده من الكتاب والشعراء، والمثالين والمصورين والموسيقيين. وقد أثار ايسكولوس في تصويره ضحك الذين قست قلوبهم، ورثاء الذين رقت نفوسهم كما أثار معاني أخرى أقوم وأخصب وأبقى من الضحك والرثاء. قال التلميذ: لم أقصد إلى برومثيوس ولم أفكر فيه، وهل تضن أني رأيته أمس ولم أذهب إلى القوقاز وإنما أنا معك في القاهرة، ولعلي أن ذهبتإلى القوقاز فلا أرى الصخرة ولا قرينها فلم يحدثنا عنهما أحد من الذين زاروا تلك البلاد بعد ايسكولوس. قال الأستاذ فهي صورة من صور برومثيوس قصدت إليها واتخذتها نموذجا لهذا النحو من البيان كما كان يفعل القدماء. قال التلميذ لم أفكر في برومثيوس ولم اقصد إلى تقليد ايسكولوس، وإنما هو شيء شهدته أمس. قال الأستاذ وماذا شهدت؟ قال التلميذ شهدت صديقنا فلانا وقد أرادت له ظروف الحياة أن ينتقل من دار إلى دار. قال الأستاذ وقد اغرق في الضحك ما ابعد هذه الصورة التي تحدثني عنها من تلك الصورة التي كنت أذكرك بها! وأين يكون صديقنا فلان حين تنقله الظروف من دار إلى دار، من برومثيوس حين يشده كبير الآلهة إلى صخرة القوقاز، قال التلميذ فقد أثار صديقنا فلان في نفسك الضحك لأن صورته ذكرتك بتلك الصورة الضخمة العظيمة التي نصبها أبو التراجيديا للناس فلما انحدرت منها إلى هذا الشخص الضئيل النحيل الذي كان يقيم في طرف من أطراف القاهرة فأنتقل إلى طرف آخر لم تملك نفسك أن أغرقت في الضحك إغراقا. ومع ذلك فلو قد رأيته أمس كاسف البال كئيب الوجه محزون القلب معقود اللسان مقيد الرجل مغلول اليد، محصورا بين طائفة من الأثاث وأدوات البيت، مختلفة اشد الاختلاف، متباينة اشد التباين، فيها الكبير والصغير، فيهاالأنيق والدميم، قد جمعت حوله تجميعا، وكدست حوله تكديسا، وقد وضع هو بينها وضعا على كرسي أو شيء يشبه الكرسي، وقيل له أقم لا ترم حتى يأذن الله أو يأذن العمال لك بالانتقال، وهو مقيم لا يريم، لا يستطيع أن يقول شيئا، ولا ينبغي أن يقول شيئا، لأنه لا يفهم مما حوله شيئا، يريد أن يخلو إلى نفسه ويعيش مع خواطره، وإذا هو مصروف عن ضميره صرفا بهذه الأصوات العنيفة المختلفة التي تأخذ من كل مكان، والتي تؤلف من حوله نوعا فجا فظا غليظا من الموسيقى، فيه أصوات العمال على اختلافها، واصطدام الاثاث، ووقعه على الأرض، وهذا الصوت الذي يغيظ ويهيج الأعصاب ويأتي من جر الأشياء على الخشب حينا وعلى الحجر حينا آخر، وخفق الأقدام وتداعي الخدم، وتناهي الحمالين وما شئت مما يحصر وما لا يحصر، من هذه الضوضاء الغريبة التي يمتلئ بها البيت حين تفارقه الحياة، ويمتلئ بها البيت حين تدخله الحياة.

قال الأستاذ محزونا مشفقا، وكم قضى المسكين من وقت على هذه الحال؟ قال التلميذ يوما كاملا نصفه في ذلك البيت الذي كان يخلو، ونصفه في هذا البيت الذي كان يعمر. ولقد فهمت أن اتحدث إليه في الانتقال من دار إلى دار، وأن اذهب معه مذهب الادباء في هذا الحديث، فأخذت أذكر له وقوف الشعراء على الاطلال واحيائهم لما يثير هذا الوقوف في نفوسهم من الذكرى وما يسفح على خدودهم من العبرات، وذهبت اروي له: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل. . وانشده: لخولة اطلال ببرقة ثمهدي. . واتغنى له بدمنة ام اوفى. . واروى له ما قال ذو الرمة في ربع مية. واستطرد به إلى ما قال أبو تمام في عمورية بعد أن دمرها المعتصم تدميرا. فلم أجد منه نشاطا ولا انبساطا وإنما قال في صوت المحزونولهجة المتعب المكدود وما أنا وذاك؟ لقد تنقلت في حياتي بين دور كثيرة من حوش عطى، إلى درب الجماميز، إلى شق الثعبان، إلى مونبلييه، إلى باريس، إلى السكاكيني، إلى الحوياتي، إلى هليو بوليس، إلى الزمالك، فأقسم ما وجدت ساعة الانتقال لحظة من هذه اللحظات الحلوة التي يغنيها الشعراء غناء جميلا في شعر جميل اودع فيها دارا احببتها وبلوت فيها الحلو والمر من الوان الحياة، واستقبل فيها دارا لا اعرفها ولا أ ' رف ما ستتكشف لي فيها الايام عنه من الاحداث والخطوب. إنما هو الضجيج والعجيج وازدحام الادوات والاثاث، وصياح العمال والحمالين وخفق الاقدام، وجر الاثقال، ومجلس ضيق كهذا المجلس الذي ترى وساعات طوال ثقال كهذه الساعات التي رأيت، ثم وصل لما انقطع من الحياة، وسعى فيما أهمل من العيش، وانغماس في هذه الحركات العنيفة التي لا موضع فيها للشعر ولا مكان فيها للغناء. هنالك عدلت به عن النحو من الأدبالنو آخر. فأخذت اتحدث إليه عن قول ابي تمام

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الاول

كم منزل في الارض يألفه الفتى ... وحنينه ابدا لاول منزل.

واخذت أساله عن احب منازله إليه وآثرها عنده فلم يحتج إلى تفكير ولا تقدير، وإنما قال في صوت حزين يشوبه الابتسام احب دار واثرها عندي إنما هي تلط التي درجت فيها طفلا في قرية من قرى الريف، وهذه الدار التي نشأت فيها شابا في حوش عطى، ثم هذه الدار التي أقمت فيها طالبا للعلم في شارع من شوارع الحي اللاتيني في باريس ولكن بشرط إلا أعود إلى الاقامة والحياة في وحدة منها، هي حبيبة إلى كريمة اثيرة عندي حين اذكرها وحين ألم بها الألمامة القصيرة اليسيرة، فأما أحب الدور إلى وآثرها عندي الآن فهي هذه التي تراها مضطربة مختاطة مملوءة بالضجيج والعجيج والصياح من كل نوع، وتراني فيها اسير سجيا بين هذه الادوات المختلطة المكدسة حولي لا أستطيع حركة ولا انتقالا لانها ستستقيم لي بعد أيام، وستحمل الي فيها ساعات الحياة من الوان العيش ما لم اذق بعد. ويكفي أن اذكر تلك الدور كلها وكيف انتقلت من احداها إلى تلك التي تليها حتى انتهيت إلى هذه الدار لتعلم اني كغيري من الناس خليق إلا امنح تلك الدور من نفسي إلا هذه الدار الذي يقترن بالذكرى، مومن يدري لعلي أن انتقل من هذه الدار التي تراها إلى دار اخرى أوثرها عليها واختصها بالتفضيل، إنما نترك في كل دار نسكنها قطعة من قلوبنا، ولكنك تعلم أن قلوبنا لا تنقص بما نفرق من أجزائها بين الدور، وإنما تكمل وتستكثر من الثروة بهذه الذكريات التي نحملها معنا إلى أن يأتي هذا اليوم الذي ننتقل فيه إلى منزل آخر لا نؤثره ولا يؤثرنا، لا نحبه ولا يحبنا، لا نسعى إليه ولا يسعى الينا، وإنما نكره عليهاكراها، ويكره هو علينا اكراها. . .

هنالك أحسست مرارة الحديث فهممت أن اتحول بصاحبي إلى حديث آخر، ولكن أمور الدار وترتيبها كفتني مؤونة هذا. الانتقال، فقد اقبل المقبلون يرفعون هذا وذاك، يتصايحون ويتبادلون بينهم الامر والنهي. قال الأستاذ لا بأس بهذا الموضوع ولكن على أن تعالجه علاجاً آخر وتعرضه عرضاً فنيا يثير الضحك ويثير الرثاء وإنما يأتي ذلك حين تقصد إليه قصد صاحب الفن وتبث فيه جزءا من اجزاء نفسك يمنحه شيئا من الحياة.

طه حسين