مجلة الرسالة/العدد 270/التاريخ في سير أبطال

مجلة الرسالة/العدد 270/التاريخ في سير أبطال

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 09 - 1938



ابراهام لنكولن

هدية الأحراج إلى عالم المدنية

للأستاذ محمود الخفيف

يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من

سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .

- 21 -

وأقام لنكولن في الفندق ينتظر يوم الاحتفال؛ وإنه ليحس أنه كالغريب في هذه المدينة العظيمة؛ ولقد كان كثير من أهلها يتوقعون قبل وصوله أن تصلهم الأنباء عن مقتله في الطريق؛ فلما فوت على الماكرين قصدهم ودخل المدينة ولم تزل غافية أصاب المؤتمرين به كمدوغم؛ ولكن هل فاتت الفرصة فلا سبيل لهم إليه بعدها؟ كلا فما زال الكائدون يتربصون به حتى لقد سرت في الناس إشاعة قوية أنه لن يحتفل بالرئيس الجديد؛ وأنه راجع إلى سبرنجفيلد قبل ذلك اليوم حياً أو ميتاً

وكانت المدينة إلى أهل الجنوب أكثر ميلاً منها إلى أهل الشمال؛ وكان سادتها وكبراؤها ممن يقتنون العبيد ويتمسكون بنظام العبيد؛ وكانت تقع عين القادم إلى المدينة على العبيد رائحين غادين؛ ولقد كان هذا منظراً تنفر منه عينا لنكولن وهو يطل على المدينة من الفندق. . . وكان ذوو النفوذ من أهلها يكرهون الجمهوريين ويسمونهم الجمهوريين السود. . . لذلك أحس ابراهام أنه في جو غير جوه كالنبات نقل إلى حيث لا يجدي معه ري ولا ينفع غذاء

وجلس ابراهام يفكر ويتدبر، فإذا امتد إلي الحاضر فكره رأي كيف تشيع الفتنة وكيف يستفحل الشر، وكيف يزلزل بناء الاتحاد حتى ليوشك أن ينهار. . . وإذا استشرفت للمستقبل نفسه رأى ظلمات فوقها ظلمات؛ فالحرب كما يبدو له واقعة لا محالة، ما لم يقع ما ليس في حسبان أحد. . . وهي إذا شبت نارها واستعرت اكتوى بسعيرها أبناء الوطن الواحد وأصحاب المصلحة الواحدة؛ إنها حرب سوف تكون بين نصفي شعب بقاؤه وسعادته لن يكونا إلا في اتحاد كلمنه والتئام شمله. . .

وليت الفتنة اقتصرت على الناس ولم تمتد إلى الحكومة؛ إذاً لكانت أهون على الرئيس وعلى الشعب. . هاهي ذي تندس حتى تتغلغل في وحدات الجيش والبحرية والسادة المسؤولين من رجال الدولة؛ ولقد وقف بيوكانون حائراً لا يدري ما يأخذ مما يدع حتى لم يعد في إمكانه أن يحسم الشر؛ فكان بذلك وجوده على رأس الحكومة يومئذ شراً على شر

ولكن ابراهام لم يكن بيوكانون؛ وحسبه عزمه المصمم الجبار في هذا الموقف الرهيب؛ هذا إلى إخلاصه وكراهته للعدوان ويقينه الذي لا يداخله شك ولا يحوم حوله شيء مما ينسج الباطل من وهم وما يصور من ريبة

ولقد أشفق من لم يكونوا يعرفونه، بل لقد جزع بعض الناس أن تلقى أزمة الحكم في مثل هذه الظروف في يدي رجل هو في زعمهم لم تحسن يداه أن تقبضا على شيء غير المعول؛ وعجبوا أن تترك الأمور للرجل القادم من الغرب. . . لذلك المحامي الذي كان من قبل يخطط الأرض ويوزع البريد؛ والذي نشأ بين الأحراج ونما كما ينمو وحشي النبات. . . وسخط أعداؤه ممن لا يجهلون مقدرته واشتد بهم الغيظ ألا يجلس في كرسي الرياسة يومئذ إلا هذا الجمهوري الأسود! هذا الذي يعد في الجمهوريين كبيرهم الذي ألهمهم ما يلوكونه من عبارات تؤذي الأسماع وتخز القلوب وتقبض الصدور. . .

أما الذين عرفوا لنكولن وعرفوا خلاله فما خالطهم شك أنه الرجل الذي ليس غيره في الرجال تكون على يده السلامة ويتم الخلاص. . والحق لقد خلقت هذه الحوادث هذه الأزمة وخلقت في الوقت نفسه الرجل الذي ينهض لها والذي لن يقوىعلى حمل أعبائها سواه. . ولو لم يكن في أمريكا في تلك الأيام ذلك الرجل الذي أخرجته أحراجها لتغير تاريخها باتخاذه وجهة غير التي سار فيها

وإنا لنرى في ابراهام أحد الأفذاذ الذين يبرهنون بأعمالهم على فساد الرأي القائل بأن الظروف هي التي تخلق العظماء؛ فهذا رجل نجم عن أبوين فقيرين ودرج بين أحراج الغابة وألفافها؛ فلما واجه الحياة وأخذ يعول نفسه راح يشق طريقه في زحمتها ومفاوزها كما كان يشق طريقة بين الأدغال، ولا عاصم له مما يحيط به من مخاوف إلا عزيمته وفتوته

راح ابراهام يستقبل الحياة ويمشي في مناكبها، وكأن الظروف كلها عدوه؛ فما زال يغالب الظروف وتغالبه، ويعركها وتعركه، حتى وصل إلى مركز الرياسة في قومه، دون أن يستمد العون مرة من أحد؛ أو تكون له وسيلة من جاه أو مال؛ أو حظوة عند ذي قوة، أو غير هذا وذاك مما يبتغي به الناس الوسائل إلى ما يطمحون إليه من غايات. . .

ولما أن بلغ هذا المركز كانت البلاد كما أسلفنا تتوثب فيها الفتنة ويتحفز الشر؛ فكانت الظروف يومئذ كأسوأ ما تكون الظروف؛ ولكنه على الرغم من ذلك سار إلى غايته غير خائف ولا وان ولا منصرف عن وجهته إلى وجهة غيرها حتى عقد له النصر وتم له أداء رسالته. . .

وكيف لعمري تخلق الظروف والعظماء؟ وكيف يسمى عظيما ذلك الذي تخدمه الظروف فلا يكون له من فضل إلا ما يجيء عن طريق المصادفة؟ ألا إن العظيم الحق إنما هو الذي تخاصمه الظروف فينجح على الرغم ما تكيد له الظروف؛ وتتجهم له الأيام فيقدم على العظائم على الرغم من تجهم الأيام، وتعترضه الصعاب الشداد فلا تثنى له عزمه أشد الصعاب. بذلك تكون الظروف هي التي تخلق العظماء؛ فيكون الرجل الذي يظهر عليها ويظفر على الرغم منها هو العظيم، ويكون في ذلك كالدر تطهر النار جوهره

لبث ابراهام في الفندق ينتظر حتى يتخلى له بيوكانون الشيخ عن قيادة السفينة؛ وكان ابراهام يستمع إلى دوي العاصفة يزداد يوماً بعد يوم فيتلفت فلا يرى حوله غير سيوارد؛ ولكن سيوارد وصاحبه لا يلبث أن يدب بينهما خلاف شديد؛ فلقد كبر على سيوارد ألا يشاوره ابراهام في الخطبة التي أعدها ليوم الاحتفال وكان قد كتبها قبل أن يسافر من سبرنجفيلد. . .

وعلم ابراهام بالأمر فألقى بالخطبة بين يدي صاحبه؛ فاقترح عليه أن يغيَّر فيها أشياء وأن يضيف إليها أشياء، فلم ير ابراهام رأيه؛ على أنه قبل أن يضيف إلى الخطبة خاتمة كتبها سيوارد وتناولها ابراهام بالتغيير ليلتئم أسلوبها مع أسلوب الخطبة؛ وظن ابراهام أنه أرضى بذلك صديقه. . . ولكنه فوجئ في اليوم السابق ليوم الاحتفال بخطاب من عند صاحبه ينبئه فيه أنه يتحلل من وعده الذي سبق أن قطعه على نفسه بالاشتراك معه في الحكم؛ وطوى ابراهام الخطاب متألماً مكتئباً. . . ألا ما أشد عنت الأيام! حتى سيوارد الذي ليس غيره ترجى منه المعونة تكون من جانبه العقبات؟

وأشرقت شمس اليوم الرابع من مارس عام 1861، وكان يوماً من أيام الربيع طلق المحيا رخي النسائم. . . فخرج الناس يشهدون موكب الرئيس الجديد؛ وكان موكب الاحتفال بتولية رئيس الولايات من أعظم ما تهتم به البلاد؛ وهو في هذه المرة أجل قدراً منه في كل ما سلف من الأيام؛ وذلك لما كان يحيط بتولية ابراهام من معان تجيش بها نفوس الخصوم والأنصار

وقضى ابراهام صباح ذلك اليوم يقرأ خطبته من جديد ويهذبها بالحذف والإضافة، حتى متع النهار فجاء بيوكانون إلى الفندق في عربة فركب معه ابراهام، والناس على طول الطريق إلى بناء المحافظة (الكابتول) تقع أعينهم على الرجلين، فهذا هو الرئيس القديم يشيع في رأسه الشيب ويبدو على بدنه ومحياه الهزال من أثر السنين ومن اثر ما حمل من عبء أوشك أن يلقيه وقد أربى على السبعين. . . وهذا هو الرئيس الجديد يبدو قوياً فتيّاً وهو يومئذ في الثانية والخمسين؛ هذا هو الرجل القادم من الغرب، هذا هو ابن الغابة. . . هذا هو النجار تملأ الأعين قامته الطويلة التي تلوح للأعين أكثر طولا إلى جانب صاحبه الشيخ الضئيل. . . وهو يرتدي اليوم حلة ما ارتدي مثلها من قبل، حلة ارتضتها له ماري وهيأنها لذلك اليوم، ثم هو يقبض بيده الكبيرة التي أكسبها حمل المعول كبرها وخشونتها، على عصا جميلة أنيقة

وضاقت بالناس الطرقات؛ وكان رجال الشرطة قد أبعدوا الجموع قليلاً عن حافتي الشارع، وقد أمرهم كبيرهم ألا يسمحوا بأي عبث بالنظام مهما خيل لهم أنه تافه. وكان كبير الشرطة يخاف أن تمتد أيدي الآثمين إلى الرئيس بالعدوان إذ كانت الإشاعات قد اتخذت مجراها في كل سبيل، وملأ الهمس بها الآذان، ووجفت من هول الجريمة قلوب الكثيرين من المخلصين

ووصل الرئيس إلى مكان الاحتفال، وهو مرتفع أعد لهذا الغرض، وقد امتلأت الساحة المحيطة به بجموع من الناس حتى ما تتسع بعدهم لقدم. . . وكان على مقربة من المكان تمثال وشنجطون وقد نحت من المرمر الأبيض وهو يتلألأ في ضوء الشمس وتنبعث منه معاني البطولة والعظمة والحرية والفداء. . .

ووقف الرئيس الجديد يوجه الكلام للشعب جميعاً لأول مرة وقف فتى الأحراج هاتيك المجموع ثبت الجنان، مستوي القامة، مرفوع الهامة، وإلقى نظرة أمامه على علية القوم من الشيوخ والأعيان ورجال الجيش ورجال الدين والقضاة وغيرهم وغيرهم ثم مدّ بصره في المجموع وقد سكنت ريحهم فتهيأ للكلام. . . ولكن ماذا عراه؟. لقد وقف يمسك بإحدى يديه عصاه وبالأخرى قبعته، فكيف يمسك الورق ليتلو منه خطبته؟ ها هو ذا يسند العصا إلى الحاجز الخشبي أمامه فأين يضع القبعة؟ لقد أوشك أن يقع في ورطة، وأوشك أن يثير ضحكات الخصوم بحيرته؛ ولكن هاهو ذا رجل يثبت من مكانه وكان يجلس منه في سمت بصره، فيأخذ القبعة من يده. . . ومن هو ذلك الرجل؟ إنه دوجلاس خصمه القديم ومنافسه ذو البأس الشديد. . .

وكان دعاة الانسحاب من أنصار الجنوب يأملون أن يتهدد لنكولن الولايات الجنوبية ويتوعد، فيشتد بذلك الهياج في تلك الولايات ويتعذر لعدها أن يجنح هؤلاء للسلم، ولكن لنكولن خيب ظنونهم وزادهم بحكمته وحصافته وبعد نظره ويقظته غماً على غم. . .

كانت خطبته خير مثال للاعتدال في غير تفريط، وللتواضع في غير استخذاء أو استسلام، وللتحذير في غير إثارة أو استفزاز، وللمرونة في غير رياء أو التواء، وللعدالة في غير مشادة أو عناد. . . كما كانت كالسلسل العذب فصاحة وسهولة؛ ناهيك بما امتازت به من نصوع البرهان ومتانة الحجة واستقامة المنطق وجمال السبك وبراعة السياق ودقة الإلمام بالموضوع، وسعة الإحاطة بما كان يشغل الأذهان

وكان الخطيب رنان الصوت، قوي الجرس، وثيق الإشارات تشيع في كلماته حرارة الإيمان وقوة اليقين وصدق الإخلاص فتنفذ إلى قلوب أنصاره وخصومه على السواء؛ وإن كان خصومه ليكرهون فوزه وينكرون مبادئه. . .

قال يشير إلى مخاوف أهل الجنوب: (يظهر أن المخاوف تنتشر في الولايات الجنوبية، ومبعثها أن قبولهم الحكم الجمهوري من شأنه أن يعرض أملاكهم وسلامتهم وأمنهم على أشخاصهم المخاطر. إنه لم يكن هناك سبب معقول لهذه المخاوف؛ بل لقد قامت بينهم أقوى شهادة على نقيض ذلك، وكانت دائماً سمعهم وبصرهم. . . إنها تكاد توجد في كل خطبة من خطب ذلك الذي يحدثكم الآن، وإني لأقتبس من إحدى تلك الخطب حين أقول ليس لي من غرض مباشر أو غير مباشر في التدخل في نظام العبيد في الولايات التي يقوم فيها ذلك النظام. . . وإني أعتقد أنه ليس من حقي أن أفعل ذلك، وأن الذين رشحوني وانتخبوني إنما فعلوا ذلك وهم على علم تام أني صرحت كثيراً بمثل هذا، ولم أتزحزح مرة عما قلت)

ولم يقف الرئيس في اعتداله عند ذلك الحد، بل لقد ذهب إلى التصريح بأن العبد الفار إلى الولايات الحرة لا تمنح له الحرية. ولقد أشفق كثير من أنصاره من هذا التصريح، ولكن لنكولن يستند في ذلك التصريح إلى مبادئ الحزب التي لا يمنح بمقتضاها العبد حريته إلا إذا ذهب مع سيده غير فار إلى ولاية حرة وأقام فيها

وتكلم لنكولن عن انسحاب الولايات من الاتحاد فقال: (لن يخول القانون لأية ولاية حق الانسحاب) ثم أردف قائلا أن القسم الذي أقسمه على المحافظة على الدستور يجعل لزاماً عليه أن يقوم بواجبه فيعمل على أن يكون قانون الولايات المتحدة نافذاً في جميع الولايات. وأختم الحديث في هذا الموضوع بقوله: (إني واثق أنكم لن تحملوا على التهديد كلامي، بل إنها كلمة الاتحاد يعلن أنه سوف يحمي ويدعم بناءه على أساس من الدستور. وهو إذ يفعل ذلك لا يرى ثمة حاجة إلى سفك الدماء والعنف، وسوف لا يكون شيء من هذا إلا إذا أجبرت عليه السلطة القومية

وأشار إلى الوحدة من الناحية العضوية فقال أن نصف الشعب لا يستطيع أن يقوم بغير الآخر، وإذا كان في الدستور عيب فمن الممكن إصلاحه على يد مؤتمر يجتمع فيه ممثلو الشعب. فإذا رأى الشعب الانفصال حقاً لكل ولاية فله رأيه وليفعل كما يرى، أما هو فليس لدبه من قوة إلا ما منحه الشعب

وتكلم عن الداعين إلى الثورة فقال إنه لا مبرر للثورة إلا إذا لجأت الأغلبية إلى الطغيان؛ ومثل هذا المبرر لا وجود له، وإن الانسحاب معناه الفوضى ولا نتيجة للفوضى إلا الاستبداد. . .

واختتم لنكولن خطبته بتلك العبارة التي اقترحها سيوارد وتناولها بالتعديل قال: (لسنا أعداء بل نحن أصدقاء؛ ويجب ألا نكون أعداء. ومع أن الغضب قد جذب حبال مودتنا فيجب ألا يقطعها؛ وأن الأناشيد الخفية التي ترن في الذاكرة منبعثة من كل ميدان من ميادين القتال ومن كل قبر من قبور الوطنيين، إلى كل قلب حي وإلى جانب كل موقد في هذه البلاد العريضة لتزيد في جوقة الاتحاد، إذا ما مسها من جديد كما نثق أنها ستمس - وحي من طبيعتنا

وأقسم ابراهام اليمين ويمناه على الإنجيل. وتولى صيغة القسم القاضي تين صاحب قضية دروسكوت الشهيرة وكان يومئذ القاضي الأعلى للبلاد. وبعد أن أدى ابراهام اليمين أن يحترم الدستور ويحافظ على قوانين البلاد سار إلى البيت الأبيض، وكان أول عمل له بعد وصوله أن تناول القلم فكتب إلى سيوارد الخطاب الآتي:

(سيدي العزيز: تسلمت رقعتك المؤرخة 2 الجاري التي تسألني فيها أن اقبل انسحابك من الاشتراك معي في إدارة الحكم؛ ولقد كانت رقعتك هذه سبباً لأعظم قلق عندي إيلاما، وإني لأشعر أني مضطر إلى أن أرجوك أن تلغي هذا الانسحاب. أن الصالح العام ليدعوك أن تفعل هذا، وإن شعوري الشخصي ليتجه في شدة الاتجاه. أرجو أن تتدبر وأن يصلني رد منك في الساعة التاسعة من صباح الغد. . . خادمك المطيع. . .)

(يتبع)

الخفيف