مجلة الرسالة/العدد 270/حاشية على التفريع
مجلة الرسالة/العدد 270/حاشية على التفريع
للأستاذ عباس محمود العقاد
إذا كان الجسم الجميل هو الجسم الذي به فضول، فما هو الفضول الذي يعيب الأجسام؟
الفضول في تعريف عاجل هو الزيادة عن الحاجة. ونعود فنسأل: ما هي الحاجة؟. أن الجسم قد يحتاج إلى الصحة، وقد يحتاج إلى الحركة، وقد يحتاج إلى الظهور، وقد يحتاج إلى الخفاء، فكيف نعرف الحاجة التي يتعلق بها الفضول ثم يتعلق بها النظر إلى الجمال؟
نقول في تعريف عاجل أيضاً: أن الحاجة إلى إنجاز (الوظيفة الحية) في تكوين الأحياء
فالزرافة لها عنق طويل لا نستقبحه إذا رأينا هذا الحيوان، ولكنا لو رأينا عنق الزرافة على جسم حصان لقلنا أنه حصان قبيح مشوه مختل التكوين؛ والتشويه والجمال ضدان لا يجتمعان
يسأل سائل فيقول: إذن يرجع الجمال إلى المنفعة؟ إذن نستطيع أن نقول إن العضو الجميل هو العضو النافع على وجه من الوجوه؟
ونسرع فنقول: لا. أن الجسم النافع ليس هو الجسم الجميل في جميع الأحوال، بدليل أن هناك حيواناً أجمل من حيوان، فلماذا يكون الحصان مثلاً أجمل من الزرافة أو تكون الهرة مثلا أجمل من الفار إذا كان المرجع في نظر الجمال إلى منفعة الأعضاء؟
كل عضو في حيوان فهو نافع لذلك الحيوان، وعنق الزرافة نافع لها لأنها حيوان يعيش في الغابة ويختار من لطائف الشجر كل ما ارتفع في الأغصان. ولكن لماذا كان عنق الحصان أجمل من عنق الزرافة؟ ولماذا كان الحصان في جملته أجمل من الزرافة في جملتها، وكانت حركة الحصان أجمل من حركة الزرافة في السرعة أو المهل؟
ذلك أن مرجع الأمر في نظر الجمال إلى شيء غير المنفعة للحيوان أو لمن يستخدم ذلك الحيوان
مرجع الأمر إلى الحرية كما بينا في مقالات كثيرة سبقنا بنشرها قبل سنوات
فكلما كان الجسم أقل ضرورة وأكثر حرية كان أقرب بذلك إلى الجمال؛ وعنق الزرافة يفيدها بالغابة، وليس هذا هو الشأن في عنق الحصان فأنه لا يفيده بمكان. فهو من ثم أجمل من الزرافة في هذا الاعتب وإنما نرجع إلى (الوظيفة الحية) لنعلم أن الطول أو القصر في جزء من أجزاء الحيوان ليس بطول تشويه ولا بقصر تشويه، لأن التشويه الجمال لا يتفقان
فأنت إذا رأيت عنقا طويلا على كتفي زرافة لم تحسب أنها زرافة شائهة أو زرافة ممسوخة؛ ولم يمنعك إذن مانع التشويه أن تحسبها (زرافة جميلة)
أما إذا رأيت هذا العنق كما هو على كتفي غزال، فانك معتقد فيه المسخ والتشويه على البديهة، ومعتقد من ثم أنه لن يكون على شيء من الجمال، بل هو نقيض الجمال
على هذا المعنى كان جسم الرجل أجمل من جسم المرأة، وإن صعب فهم هذا على بعض الأذواق التي تنساق بالغريزة، دون النظر إلى جمال المعاني وجمال الأوضاع
فمن رأى جسم المرأة رأى لأول وهلة أنه جسم ملحوظ فيه ضرورات كثيرة، وأنه منظور فيه إلى مخلوق آخر غير صاحبة الجسم التي لا تحتاج إلى ذلك التركيب، وهذا المخلوق الآخر هو أما الجنين الذي تحمله في أحشائها، وإما الرجل الذي ينظر إليها نظرة الاستحسان
فإذا قلنا إن العضو الجميل هو عضو يحمل نفسه ويخيل إليك أنه غير محمول على سواه فالمرأة كلها محمولة على تركيب حيوان آخر منعزل عنها، ولا بد أن يجوز على ما في تركيبها هي من معاني الجمال العليا
فيلاحظ في أغلب أجسام النساء طول الجذع واتساع المسافة بين الحرقفتين، وإنما يوجب ذلك أنها في حاجة إلى مكان الجنين ومكان خروجه بعد تمام حمله، وقل ذلك في النهدين والثديين، أو قل شبيهاً بذلك في ضيق الكتفين، فان قصر الكتف وضعفها لا يضيرانها في إنجاز وظائفها، فهي على هذا المعنى تنجز وظيفتها بزيادة في مواضع ونقص في مواضع أخرى منظور فيها جميعا إلى تركيب خارج عن تركيبها؛ ولن يبلغ الجسم حد الجمال الأقصى ما دام جماله معلقاً على شيء غيره؛ وما دام ذلك الشيء أولى بالملاحظة والتقديم في بعض الأحوال
لهذا يصعب التوفيق بين ضرورات الوظائف الحية وبين معاني الجمال المطلق في جسم المرأة
فالمرأة التي يقصر جذعها ويضيق حوضها هي جسم جميل؛ ولكنها قد تجور بجمالها على أمومتها
والتوفيق بين الأمرين من أندر الأمور، في حين أن جسم الرجل لا يحتاج إلى صعوبة في التوفيق بين إنجاز شرائط الأبوة فيه وإنجاز شرائط الجمال
ومع ندرة التوفيق بين الشرطين في المرأة، لا غنى عن التجوز والتسهل في كثير من الأحوال، فأقصر النساء جذعاً وأضيقهن حوضاً وأكملهن أكتافاً لا يحمد منها أن تلوح كالرجل في تركيب هذه الأعضاء؛ ولا بد من التجوز والتسهل في بعض الزيادة على الردفين وبعض النقص على الكتفين، وإلا كان ضمور الردفين ضموراً تاماً علامة تشويه لا علامة جمال، إذ كان الأصل في المرأة أن لها وظيفة الحمل والولادة، فإذا تجردت من هذه الوظيفة فهي مشوهة، وإذا احتفظت بها فمن مرض؛ ولا شك أن تكون عظام الردفين غير مكسوة باللحم الذي لا بد منه لكل جسم صحيح سليم
وعلى هذا تكون المرأة جميلة ولا تكون قنطاراً واحداً لا زيادة عليه
تكون جميلة إذا قل فيها الفضول ولو زاد الوزن غاية ما يقدر له المزيد
وتكون مع ذلك (امرأة جميلة) وليست جميلة بمعاني الجمال على إطلاقها؛ وهي كما أسلفنا القرب من الحرية والبعد من الضرورة؛ وأن يكون الجسم معلقاً على نفسه غير معلق شروط في خارجه، سواء صعب أو سهلت في التحصيل
ولا بد من التجوز والتسهل على هذا الاعتبار في حدود ما قدمناه
ويلحق بتفصيل ما قدمنا الجواب عن سؤال وجهه إلينا الأديب (عبد المنعم شلبي) يقول فيه:
(هل يعجز امرئ القيس وهو ذلك الفنان البارع ذو الخيال الوثاب الذي استطاع أن يتذوق جمال الطبيعة ويترجم عنها في قصائد عن رسم مثال للأنوثة موافق لمعاني الجمال بمعزل عن المتعة لتخلف الأوان؟ وهل لتخلف الأوان دخل في تقدير الجمال؟ وإذا كان كذلك فمالنا نرى تمثال فينوس مع تخلف أوانه رمزاً ومقياساً لمعاهد الجمال في العصر الحديث؟)
والجواب أن أحيل الأديب صاحب السؤال إلى ما أسلفت عن سبب قصور امرئ القيس في تعريف مقاييس الجمال، فأنني لم أقل أنه يقصر في هذا الباب لتخلف الأوان ثم سكت على ذلك؛ بل قلت أنه يقصر فيه (لتخلف الأوان وندرة الأسباب) ومن الأسباب ولا جدال أن الأعراب في البادية لم يصنعوا التماثيل كما صنعها اليونان الأقدمون أصحاب فينوس، ولم يشغلوا عقولهم وأذواقهم وأخيلتهم بمطالب هذه الفنون، وما تستتبعه من دراسة للأجسام ونظر في تمثيل الأعضاء
وليذكر الأديب صاحب السؤال أن الله عز وجل وعلا لم يغضب على المحدثين جميعا لأنهم محدثون، بل خلق فيهم أناسا وهبهم (الفن والخيال والبراعة وأتاح لهم يتذوقوا جمال الطبيعة). . فإذا تساوى ما بينهم وبين امرئ القيس في هذه الناحية فهناك زيادة العصر الحديث بل زياداته التي يضيق بها الحصر في مذاهب الفنون والأذواق والعلوم والأرقام
عباس محمود العقاد