مجلة الرسالة/العدد 270/عود ثان

مجلة الرسالة/العدد 270/عود ثان

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 09 - 1938



الدين والأخلاق بين الجديد والقديم

لأحد أساطين الأدب الحديث

ليسمح الأستاذ النمراوي أن نؤكد له أن حرية القول في الأدب الأوربي ولا سيما الحديث منه ما كانت لتؤثر في أدباء اللغة العربية بمقدار ما أثرت، وما كانت تحتذي بمقدار ما احتذيت، لولا أن أدباء اللغة العربية تأثروا قبل اطلاعهم على الأدب الأوربي بحرية القول في الأدب العربي، ولا سيما العباسي وما يليه؛ فالشاب الذي يُحثُّ على قراءة دواوين العرب وكتب الأدب ويستوعبها لا بد أن يحتذيها في صراحتها. ألا ترى أن السيد توفيق البكري والشيخ شريف رأيا أن الأبيات التي أشرنا إليها في المقالات الماضية أشياء غير مستنكر شرحها وطبعها؟ فإذا كان شيوخ الدين والتربية يتأثرون هذا الأدب اللغوي المكشوف تأثراً لا يشعرون به، ويجعله مألوفاً أُلفة تمنع الاستنكار، فكيف لا يتأثره الشبان الذين لم تكن لهم سابقة الاشتعال بأمور الدين أو التربية، وربما أطلعوا عليه وهم في سن المراهقة كما يفعل الفتيان والفتيات الذين يستعيرون كتب هذا الأدب من مكتبات مدارسهم. والقارئ المسن يستطيع أن يتذكر فورة شبابه أيام المراهقة، ويستطيع أن يحكم كيف تؤثر قصائد ابن الرومي التي شرحها البكري والشيخ شريف في شهوة المراهق، وكيف تؤثر الدواوين والكتب القديمة المشحونة بأمثال تلك القصائد. وانظر كيف يتغير نظر الشاب المراهق إلى اللائق وغير اللائق مما ينبغي أولا ينبغي الاطلاع عليه عندما يرى أن شيوخ الدين والتربية يعنون بشرح هذه الفحش ويطبعونه له، وعندما يرى أن المدارس تحثه على قراءة الكتب التي طبع فيها وتؤنبه إذا لم يقرأها. ومعاذا الله أن نقول إن البكري أو الشيخ شريف أرادا بالشبان والفتيات شراً، إنهما فعلا ما فعلا على قاعدة أن لا حياء في اللغة وأدب اللغة، وأن الفن يراد للفن لا لما به من الفحش، كمن يستجيد مثلا صنعة أبي نواس البيانية في مجونه لا بسبب حبه للمجون بل لحبه للبيان والبديع. ولكن هل تلوم الشبان إذا تأثروا بهذا الأدب اللغوي المخالف للعرف والتقاليد والآداب والأخلاق الإسلامية وسن المراهقة له حوافز ودوافع؟

وإذا قرأ الشاب بعد ذلك بعض مجون شاعر أوربي كمجون هنري هيني الألماني (وهو كل مجون إذا قيس بما في كتب العرب) ألا يرى أن العالم كله الشرقي والغربي يبجل هذا الأدب اللغوي ويعنى بشرحه وطبعه، وأنه إذاً لا ضير عليه من احتذائه؟ وإذا قرأ بعد ذلك قصة عشيق الليدي شاترلي وجد مجوناً كمجون الفحش العربي ولو أنه كتب بطريقة تحليلية علمية أرقى بعض الرقي من فحش ماجِني الدولة العباسية. ألا يرى القارئ أن تأثر الشباب بالأدب العربي مثل شعر بشار بن برد والحسن بن هاني وغيرهما يسهل قبوله للأدب الأوربي الذي يشكو منه الأستاذ النمراوي؟

لكن الأستاذ تجاهل تاريخ الأدب العربي القديم والحديث لكي يستطيع أن يبرهن على أن الأدب القديم غير مخالف للفضائل والآداب والأخلاق، وأن الأدب الجديد أو أدب المذهب الجديد مخالف للشهوات ومخالف للفضائل. والحقيقة أن هذا التقسيم غير حقيقي وغير منطقي، فأدب المذهب القديم به ما يراعي الفضائل والأخلاق وبه ما لا يراعيها، وأدب المذهب الجديد أيضاً به ما يراعي الفضائل وبه ما لا يراعيها سواء بسواء. فكان الأحجى بالأستاذ أن يقسم الأدب إلى مذهب قديم ومذهب جديد، بل إلى أدب فاضل وأدب إباحي في الأخلاق، ثم ينتقد الأقوال لا الأدباء جملة، لأن كل أديب أو شاعر قد يكون له ما يضعه الأستاذ في القسم الأول، وقد يكون له ما يضعه في القسم الثاني. أو لو أراد قصر مقاله على الرافعي لاستطاع أن يقول إن كل أدبه من أدب الفضائل من غير أن يتجاهل تاريخ أدب اللغة كله، ومن غير أن يحكم حكمين كل منهما جائر لما فيهما من التعميم الذي يخالف طبيعة العلماء أمثال الأستاذ، فان العلماء الباحثين ولا سيما علماء الكيمياء والطبيعة يتحرجون من إصدار أحكام عامة بسبب شواهد خاصة معدودة، فلا يقولون إن أدب المذهب القديم هو أدب الفضائل، وإن أدب المذهب الجديد هو أدب الرذائل على وجه التعميم

لكن الأستاذ النمراوي عالم، فلا بد أن فطنته وبحثه قد أوصلاه إلى حقيقة أراد أن يفسرها فبالغ في تفسيرها وأشتط وأصدر هذه الأحكام العامة. ومن أجل أن نتتبع تفكير الأستاذ ينبغي أن ننظر إلى الفرق الحقيقي في أدب المذهب القديم وأدب المذهب الجديد من حيث الروح. إن الأدب القديم وصل في عهده الأخير إلى أدب احتذاء لا أدب اجتهاد، ونعني بالاجتهاد الاصطلاح الفقهي لا المعنى اللغوي، فأن نصيبه من الاجتهاد كبير إذا أريد المعنى اللغوي للاجتهاد. وهذا هو الفرق الحقيقي بين اجتهاد أدباء المذهب القديم واجتهاد أدباء المذهب الجديد؛ فالمذهب الجديد يريد بحث النفس وعواطفها وشرائعها وسننها، لا قصر البحث على شهواتها، ولا رغبة في إطلاق هذه الشهوات من عقالها كما يقول الأستاذ. فبحث النفس يقتضي بحث جانب الإيمان منها كما يقتضي بحث جانب الشك؛ ولكنه الشك الذي يبعثه الإيمان، وهو الشك الذي يبحث عن أمل للإنسانية في هذه الحياة وبعد هذه الحياة، والذي يحاول أن يداوي شرور الحياة ما استطاع الإنسان ذلك. وهذا الشك لا يستقيم لمن كان قلبه غير عامر بالايمان؛ والشاعر لا يكون شاعرا إلا بمثل هذا الإيمان الملِحْ العنيف الذي يريد أن يزكي نفسه. وهذا أول أسباب سوء الظن بهذا المذهب. وثانيها أن الاجتهاد شبه الفقهي في تفسير الحياة وعوامل النفس قد يشط أحيانا. وقد أقفل باب الاجتهاد في الفقه النفسي والفكري لم يقفله المذهب الجديد. فخصائص المذهب الجديد الروحية هذه أي الرغبة في بحث جوانب النفس والحياة واستئناف اجتهاد الفقه الفكري والروحي هي خصائص يشط معها الأديب في بعض الأحايين، ويكون شططه في عهد الصبا أكثر، إذ تكون خبرته قليلة واندفاعه عظيماً. ثم أن بعض الأدباء قد تشط بهم هذه الخصائص دائما شططا بعيداً؛ ومن أجل ذلك ليس من الحق أن نسلك جميع الأدباء في نظام واحد. ألا ترى أن الأدب الأوربي الحديث يشمل نزعات مختلفة كل الاختلاف منها ما يحدث صلة بينه، وبين الأدب الأوربي في العصور السابقة، ومنها ما ينأى به عنها؟ فحكم الأستاذ النمراوي على المذهب الجديد كمن يحكم حكماً عاماً واحداً على الأدب الأوربي الحديث على اختلاف نزعاته الذي يشبه اختلاف نزعات الأدب المصري الجديد من أجل أن أساس تلك النزعات واحد وهو بحث التجارب النفسية والفكرية؛ فمن الأدباء من يبحثها على طريقه المعري، ومنهم من يبحثها على طريقة شكسبير، ومنهم من يبحثها على طريقة أدباء الرمزية. . . الخ. وكما أنه ليس من الحق أن يحكم الأستاذ حكماً عامّاً على أدباء المذهب القديم (وبينهم تفاوت في الروح)، ولا من الحق أن يحكم حكماً عاماً على أدباء الأدب الجديد، فليس من الحق أن يحكم حكماً عاماً على الشاعر أو الأديب الواحد، فإن الشاعر نفس وللنفس مظاهر مختلفة تقتضي تفصيل الحكم عليها ما دام لا يحكم على قول أو عمل واحد، أو عليها في حالة أو زمن خاص وليس من الحق أيضاً أن يُغْفِل الأستاذ أثر حرية القول في الأدب العربي الذي شرحناه في أول هذا المقال، ولا من الحق ألا يرى أن حرية القول الناشئة من إطلاق الشاعر نفسه من القيود أثناء البحث شططا منه لم يأت بأشنع من الأمثلة التي ذكرناها للأستاذ من الأدب العربي، بل لعلها أقل شناعة؛ وهي على أي حال ليست من لوازم أي مذهب، فمثلها في آداب العصور والأمم موجود، وواجب الناقد أن يميز بينها وبين الصالح من قول الأديب أو الشاعر. ومما يدل الأستاذ على أن الأدب المصري الحديث خليط من القديم والجديد أن أحدهما يلقى زميله فيسأله هل أنت من أنصار المذهب القديم أم من أنصار المذهب الجديد؟. كأن الحكم ليس لما يؤلفه الأديب من شعر أو نثر، وكأنما يصح أن يكتب الأديب على طريقة المذهب الجديد ويختار أن يعد من أنصار القديم أو العكس. لكن هذا السؤال له معنى وقيمة؛ إذ هو دليل على الحيرة من أجل أن أدب كل أديب خليط من مؤثرات الأدب العربي في عصوره المختلفة والأدب الأوربي أيضاً؛ وإنما هذا الخليط عند كل واحد باختلاف مقادير عناصره. ومن الأسباب التي تدعو إلى سوء الظن بالأديب الجديد علاوة على ما ذكرنا، ما يقرأ منه أحياناً من سخر وتشاؤم، وقد يكون فيهما شطط، وقد يحسبان من قلة الإيمان، ولكنهم قد يكونان من الإيمان الحائر في وجوه الكون والحياة الذي لم يوهب نعمة الأستقرار، وهي حالة تعرض لكثير من النفوس فلا يستطيع تجنب وصفها كل التجنب. وإذا نظر الأستاذ إلى ما ينشر في الصحف والمجلات والكتب في جميع الأقطار العربية من شعر ونثر وجد في تباين أبواب القول الذي يترك جانباً من النفس والحياة لم يحاول نعته، ما يدل الأستاذ على أن هذا التنوع هو خصيصة الأدب الحديث، وهو يشمل ما يشكو منه الأستاذ، ولكنه أعم مما يشكو منه، وقد صار هذا التنوع في الأدب وشموله بحث نزعات النفس وجوانب الحياة قاعدة عامة في آداب العالم كله؛ ولا يمكن إعادة عقارب ساعة الزمن إلى ما كانت عليه في الماضي للقضاء على ما يشكو منه الأستاذ. فإذا أراد أن يظفر بتطهير الأدب كان الأحجى به ألا يتعصب لقديم ولا لجديد، وأن يأخذ من الجديد على تنوع أغراضه وأبوابه ما لابد لإشباع مطالب النفس والفكر في عصر تعددت فيه مطالبهما وأصبحت كمد النهر في فيضانه، وألا ينتقد هذا الأدب الجديد بالجلة كي يصيب سامعاً مجيباً إذا هو قصر نقده على ما في هذا الأدب الجديد من شطط، وأن يتخذ في نقده هذا الشطط طريقة التحليل النفسي والإلمام بأسبابه ونتائجه وشواهده على طريقة الطبيب المداوي بالتحليل النفسي، وألا يقصر نقده على شطط الجديد من غير نظر إلى شطط القديم، وقد أوضحنا أن حرية القول في الأدب الجديد تمت بسبب إلى الأدب القديم سواء أكان ذلك في الغزل والأمور النفسية أم في الأمور الفكرية، وليطهر كتب الأدب القديم وعاداته المألوفة من مجون وشطط فكري كما بينا

وإني لأربأ ببصيرة الأستاذ وعقله أن يظن كما يظن بعض الناس أن إسقاط أديب أو أكثر من أديب من أدباء المذهب الجديد يقضي على هذا المذهب. ولو كان من المستطاع القضاء على كل ما قاله أدباء المذهب الجديد من شعر أو نثر - الجيد منهما وغير الجيد والمقبول، وغير المقبول - فان القضاء على ما قاله المعاصرون لا يقضي على الأدب الجديد، لأن أسبابه أعم وأكبر من أن تحسب من ابتكار أديب أو أكثر من أديب. وربما كان من الحكمة أيضاً ألا ينسى الأستاذ وهو الخبير بالنفس الإنسانية أن بعض العداء الذي لاقاه المذهب الجديد من غير المبرزين الفطاحل كان بسبب الإجادة المحمودة المأثورة المحسودة في بعض هذا الأدب الجديد، وإن كان عداء المبرزين الأفاضل أمثال الرافعي بسبب اختلاف حقيقي في الرأي والروح

(قارئ)

سهو

ذكرت سهوا أن أبيات ابن الرومي في (كتاب صهاريج اللؤلؤ) والحقيقة أنها في كتاب (فحول البلاغة) للمؤلف نفسه أي البكري ولا يوجد شرح ولكنه اختارها هي وقصيدة (بوران) ولم يكف عن اختيار المجون تحرجا. وكذلك لا يوجد شرح في الأرجوزة الأخرى ولكن عدم التحرج ملحوظ أيضاً

(ق)