مجلة الرسالة/العدد 273/على هامش أبحاث التيسير

مجلة الرسالة/العدد 273/على هامش أبحاث التيسير

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 09 - 1938



ملاحظات انتقادية على قواعد اللغة العربية

للأستاذ أبى خلدون ساطع الحصري بك

مدير دار الآثار العراقية

- 2 -

أبحاث العلامات

إن سلسلة (قواعد اللغة العربية) تحتوي - في أقسامها الثانوية - على عدة أبحاث في (العلامات)، فتذكر سلسلة طويلة من (العلامات) التي (تميز) كلاً من الاسم والفعل والحرف، كما تشرح العلامات التي تميز كلاً من الماضي والمضارع والأمر.

وتذكر تسع علامات للاسم، وخمس علامات للفعل بوجه عام، وعلامتين لكل من الماضي والمضارع والأمر بوجه خاص؛ وأما فيما يخص (الحرف) فأنها تقول في صدده (ليس للحرف علامات تميزه، فعلامته ألا يقبل شيئاً من علامات الاسم والفعل).

إنها تعتبر - مثلاً - (قبول التنوين من علامات الاسم) (وقبول ضمير الرفع المتصل) من علامات الفعل، (وقبول تاء التأنيث الساكنة) من علامات الفعل الماضي، و (صحة الوقوع بعد لم) من علامات فعل المضارع. .

كل من ينظر في هذه الأبحاث، نظرة فاحصة عارية عن تأثير الألفة المخدرة، يضطر إلى التسليم بأنها خالية من الفائدة، ومخالفة للمنطق في وقت واحد. .

من الأمور البديهية أن مفهوم (ضمير الرفع المتصل) الذي يلحق الفعل - مثلاً - أعقد بطبيعة الحال من مفهوم (الفعل) نفسه، ومعرفته أصعب من معرفة الفعل بدرجات؛ فلا يجوز أن نعتبره واسطة لتمييز الفعل من غيره من الكلمات بوجه من الوجوه؛ ولا سيما أن (قبول أو عدم قبول ضمير الرفع المتصل) ليس من الأمور التي يمكن معرفتها رأساً واختبارها مباشرة. فاعتبار (القبول أو عدم القبول) علامة للفعلية أو عدم الفعلية يخالف أبسط قواعد المنطق مخالفة كلية. .

كذلك الأمر في سائر العلامات. فأعتقد أنه يتحتم حذف جميع الأبحاث المتعلقة التي ذكرناها آنفاً، على أن يفرغ البعض منها على (شكل قاعدة) يتعلمها الأطفال: (للعمل) لا (للتمييز):

لا يجوز لنا أن نقول: (دخول قد على الكلمة يدل على أنها فعل)، بل يجب علينا أن نقول: (لفظة قد لا تدخل إلا على الأفعال). .

لا يجوز لنا أن نقول: (صحة وقوع الكلمة بعد لم تدل على أنها فعل مضارع)، بل يجب أن نقول: (إن لفظة لم تدل على النفي؛ غير أنها لا تستعمل إلا في المضارع؛ فيجوز أن يقال لم يكتب، ولا يجوز أن يقال لم كَتب).

وبهذه الصورة تتحول هذه الأبحاث إلى قواعد عملية مفيدة. وأما الاستمرار على استعراض الأمور التي ذكرناها آنفاً كعلامات تساعد على تمييز أنواع الكلمات فهو بمثابة الخروج على المنطق بصورة صريحة. .

أما دخول مثل هذه الأبحاث في كتب القواعد، بالرغم من مخالفتها الصريحة للمنطق، فأعتقد أنه لا يمكن أن يعلل إلا بالرجوع إلى السبب الأصلي الذي ذكرته آنفاً. .

فالأعجمي الذي يتعلم العربية، دون أن ينشأ عليها، والذي يستطيع أن يقرأ الكلمات دون أن يفهم معانيها، قد يستفيد من مثل هذه الأبحاث في تمييز أنواع الكلمات حسب بعض العلامات الظاهرية التي ترافقها؛ فإذا رأى كلمة لا يعرف معناها، ولاحظ أنها منونة استطاع أن يقول إنها (من الأسماء لأنها منونة)، كما أنه إذا رأى كلمة غريبة عنه ولاحظ أنها مسبوقة بلفظة قد، قال (هذه من الأفعال، لأنها قبلت دخول لفظة قد عليها).

فإذا جاز لعلماء اللغة القدماء أن يسلكوا هذا المسلك، متوخين بعض الفوائد العملية التي يستطيع أن يجنيها منها بعض الأعجام. . فلا يجوز لمؤلفي القواعد ومعلمي اللغة في هذا العصر أن يشوشوا الأذهان بمثل هذه الأبحاث الغريبة. .

4 - تصنيف الكلمات والجمل

قبل أن أختم هذه الملاحظات الانتقادية، أرى أن ألفت الأنظار إلى مآخذ الخطة التي اعتادها علماء اللغة العربية في أمر تصنيف الجمل والكلمات:

1 - من المعلوم أن الكلمات تقسم - في قواعد اللغة العربية - إلى ثلاثة أنواع: اسم، وفعل، وحرف؛ في حين أنها تقسم في سائر لغات العالم إلى أنواع كثيرة يبلغ عددها ثلاثة أمثال ذلك.

فيجدر بنا أن نتساءل - تجاه هذا الفرق العظيم - فيما إذا كان هناك مبررات فعلية وأسباب حقيقية تستوجب التباعد إلى هذا الحد بين العربية وبين سائر اللغات من وجهة تصنيف الكلمات.

إذا أنعمنا النظر في المعاني التي يقصدها اللغويون من كلمتي (الاسم والفعل) وجدنا أن علماء العربية يُضيقون (مفهوم الفعل) بعض التضييق، غير أنهم يوسعون (مفهوم الاسم) توسيعاً كبيراً. . .

إنهم يحددون مفهوم الفعل بحدود ضيقة جداً، لأنهم لا يرون (الدلالة على الحدث والعمل) كافية لتعريف الفعل، بل يشترطون فيه (الدلالة على حصول العمل في زمن خاص) ولهذا السبب لا يدخلون المصدر واسم الفاعل واسم المفعول في عداد الأفعال. . .

وأما مفهوم الاسم، فإنهم يوسعونه بدون حساب، ويدخلون فيه كثيراً من الكلمات التي تعتبر في سائر اللغات أنواعاً قائمة بنفسها. ولا نغالي إذا قلنا إنهم يدخلون في مفهوم الاسم كل ما يبقى خارجاً عن نطاق الفعل والحرف. فالاسم الذي يتصورونه يشبه كشكولاً يحتوي على أشياء شتى - من اسم العلم إلى الصفة، ومن اسم الموصول إلى الضمير، ومن اسم الإشارة إلى المصدر. . فيصبح من المتعذر على المتعلم أن يكوّن في ذهنه مفهوماً واضحاً عن الاسم، كما يتعسر على المؤلفين أنفسهم أن يحددوا مفهومه ويعينوا معناه بالدقة التي تتطلبها التعريفات العلمية. .

فإذا استعرضنا التعريفات المسطورة في (كتب قواعد اللغة العربية) الرسمية عن (الاسم)، وجدناها لم تكن من التعريفات الجامعة المانعة، وأن الغموض والنقص والارتباك تسودها بكل وضوح وجلاء. . .

لأننا نجد في الجزء الثاني - الخاص بالدراسة الابتدائية - التعريف التالي: -

(. . . اسم لإنسان أو حيوان أو نبات أو جماد. . .) (ص1) من الأمور البديهية أن التعريف لا يشمل - من الوجهة المنطقية - الصفات والأعداد، ويبقى أضيق من أن يتسع للاسم الموصول ولاسم الإشارة بطبيعة الحال. . .

وأما في الجزء الثالث، فنجد تعريفاً يحاول إكمال التعريف الأول وتصحيحه بقيد جديد: - (الاسم هو الذي يدل على الإنسان أو الجماد أو النبات أو الحيوان وغير ذلك. . .) (ص1) ولا حاجة للبيان أن تعبير (وغير ذلك) الذي أضيف إلى التعريف بهذه الصورة لا يخلو من الغموض، ولا يحدد الأمر بوجه من الوجوه.

وأما إذا راجعنا كتاب الدراسة الثانوية، فنجد فيه تعريفاً آخر يختلف عن التعريفين السابقين اختلافاً كبيراً:

(الاسم ما دل بنفسه على معنىً تام ليس الزمن جزءاً منه) (ص1) كما نجد بعد هذا التعريف بعض التفاصيل الإيضاحية (ويكون: 1 - لإنسان. . . 2 - ولحيوان. . . 3 - ولنبات 4 - ولجماد. . . 5 - كما يكون لمعنى يفهم ويتصور ولا يحس، مثل الذكاء، الحكمة، الفهم (ص1).

إنني أعتقد أن هذا التعريف أيضاً لا يمكن أن يشمل - منطقياً - الضمائر والأسماء الموصولة بالرغم من كثرة المفاهيم المجردة التي تقيّده وتعقّده. . .

وتأييداً لذلك ألفت الأنظار إلى الأمثلة المذكورة خلال التفاصيل التي تلي هذا التعريف، فإنها لا تحتوي على مثال واحد من نوع الضمير واسم الإشارة والاسم الموصول. . .

هذا ولا يستطيع أحد أن يدعي بأن كلمات (الذي، ذلك، نا، كما. . .) تدل على معنى تام قائم بنفسه. . . كما أنه ليس في وسع أحد أن يسلم بأن الزمان ليس جزءاً من مدلول كلمات (الماضي، الآني، الأمس، السنة، الشتاء، أسرع، أقدم. . .).

يظهر جلياً من جميع هذه الملاحظات أن علماء اللغة لم يوفقوا لإيجاد تعريف يشمل جميع الكلمات التي اعتبروها من أقسام الأسماء. . .

فليس من المعقول إذن أن نبقى متمسكين بهذا التقسيم القديم؛ بل من الأوفق أن نعيد النظر فيه على أساس تكثير أنواع الكلمات، أسوة بما يفعله لغويو العالم. . . ولا شك في أن ذلك يكون أقرب إلى مقتضيات العقل والمنطق، وأضمن لتسهيل التفهيم والتعليم.

أنا لا أحاول وضع خطة تفصيلية لهذا التقسيم الجديد، بل أكتفي ببيان الحاجة إليه، وأذكر بعض الأمثلة لتوضيح رأيي في هذا الأمر وتأييده. .

(أ) أن معنى الاسم - في حد ذاته - يختلف عن معنى الصفة اختلافاً بيناً؛ لأن الاسم يدل عادة على الأشياء نفسها، في حين أن الصفة تدل على أوصاف الأشياء وحالاتها. والصفات تقوم بأدوار مهمة في الحديث والكتابة تختلف عن أدوار الأسماء الاعتيادية اختلافاً كبيراً. فلا مبرر لاعتبار الاسم والصفة من نوع واحد خلافاً للخطة المتبعة في تصنيف الكلمات في سائر اللغات.

ومما يجب أن يلاحظ في هذا الصدد إن الاسم والصفة يختلفان في اللغة العربية من وجهة بعض القواعد أيضاً: فإن الاسم - بالمعنى الخاص الذي أشرنا إليه آنفاً - يكون مذكراً أو مؤنثاً في حد ذاته، وأما الصفة فلا تكون مذكرة أو مؤنثة في ذاتها؛ بل تقبل التذكير والتأنيث بطبيعتها، فتذكر أو تؤنث حسب جنس الأسماء التي تصفها. . .

أعتقد أن هذه الملاحظات كافية لاعتبار (الصفة) قسماً خاصاً من أقسام الكلام مستقلاً عن الاسم؛ ولا شك في أن ذلك يكون أوفق وأقرب لمقتضيات العلم والتعليم في وقت واحد.

(ب) إن مدلول الضمير أيضاً يختلف عن مدلول الاسم الاعتيادي اختلافاً واضحاً، ولا سيما الضمائر المتصلة، فإنها تتباعد عن مدلول الأسماء تباعدً كلياً

فإذا احتفظنا بمبدأ تقسيم الاسم إلى ثلاثة أقسام، وفكرنا في القسم الذي يجب أن يدخل فيه (المتصل) من الضمائر وجدنا أنه أقرب إلى مدلول الحرف من مدلول الاسم. وما دمنا نعرف الاسم بقولنا (كلمة تدل بنفسها على معنى تام) ونعرّف الحرف بقولنا (كلمة لا يظهر معناها إلا إذا ذكرت مع غيرها. . .) فلا نستطيع أن ندخل الضمير المتصل - دون أن نخرج عن جادة المنطق - في عداد الأسماء، بل نضطر إلى اعتباره من جملة الحروف. . .

ومهما استرسلنا في سلوك طرق التأويل الملتوية، لا نستطيع أن نجد مبرراً منطقياً لاعتبار لفظة (نا) من الأسماء مع اعتبار لفظة (لا) من الحروف، أو (ها) من الأسماء مع اعتبار (ما) من الحروف. . .

وإذا استعرضنا بعض التعبيرات المتداولة مثل (عنه، منك، فينا، بها، لكم. . .) وأنعمنا النظر في مدلول كل جزء من جزئي هذه التعبيرات على ضوء التعريفات الموضوعة لكل من (الاسم والحرف) لا نستطيع أن نجد أدلة منطقية على أن الجزء الأول منها: (عن، من، في، بِ، لَ) يجب أن يعتبر من جملة الحروف، والجزء الثاني منها: (هُ، كَ، نا، ها، كم) يجب أن يعتبر من الأسماء. . .

فمن الأوفق - من جميع الوجوه - أن نعتبر الضمير قسماً مستقلاً من أقسام الكلام، لا نوعاً من أنواع الاسم.

2 - من المعلوم أن علماء اللغة يحصرون الفعل في الماضي والمضارع والأمر، لأنهم يعرّفونه بقولهم: (ما يدل على حصول عمل وحدث في زمن خاص) ويدعون أن اسم الفاعل لا يتضمن (الحدوث في زمن خاص) في حين أن الأمر يعني (طلب العمل بعد زمن التكلم).

إنني أرى في كل ذلك شيئاً من الجبر لطبائع الكلمات، لأن الأمر يدل - في حقيقة الحال - على (طلب العمل) فقط، ولا يدل على زمان العمل مباشرة.

لا شك في أن (الأمر) لا يمكن أن يعود إلى الماضي، والمأمور لا يمكن أن يعمل العمل الذي يؤمر به إلا بعد تلقيه، فيجوز لنا أن نقول بهذا الاعتبار: (إن الأمر يعود إلى المستقبل بطبيعة الحال).

غير أنه يجب أن نلاحظ على الدوام أن المعاني التي يستدل عليها من الكلمات والعبارات بنتيجة المحاكمات الذهنية شيء، والمعاني التي نفهمها منها مباشرة شيء آخر.

وإلا فإذا أردنا أن نسترسل في المحاكمات والتفسيرات استطعنا أن ندعي أن اسم الفاعل أيضاً لا يخلو من فكرة الزمن، كما أن اسم المفعول لا يختلف عنه في هذا الباب. فعندما يقال لنا (الطائر مجروح) نستدل من كلمة مجروح أن الطائر جرح قبلاً، وأن آثار الجرح لا تزال ظاهرة عليه. وعندما يقال لنا: (فلان نائم) نفهم من كلمة نائم أنه نام قبلاً، ولا يزال في حالة النوم. وعندما يقال لنا: (أنا ذاهب) نفهم من كلمة ذهب أن القائل يتأهب للذهاب.

ومن الغريب أن علماء اللغة العربية الذين يتناسون هذه الحقائق الواضحة يسترسلون في تأويلات غريبة لإظهار معاني الأزمنة المندمجة في أسماء الأفعال، فيقولون مثلاً: (آه) اسم فعل مضارع بمعنى (أتألم). و (هيهات) اسم فعل ماض بمعنى (بَعُد). و (هلُمَّ) اسم فعل أمر بمعنى (أقبِل). .

كل من ينعم النظر في هذه التعريفات والتقسيمات والتفسيرات الملتوية دون أن يبقى تحت تأثير الألفة المخدرة، يضطر إلى التسليم بأن كل ذلك يحتاج إلى التبديل والتصحيح، ويتطلب البحث عن تعريفات وتقسيمات جديدة.

3 - من المعلوم أن الجملة تقسم إلى نوعين: فعلية واسمية. ولكنا عندما ننظر إلى الأمور نظرة منطقية، يجب أن نفهم من تعبير (جملة فعلية) الجملة التي تحتوي على فعل، وبتعبير آخر: الجملة التي تعلمنا ما حدث وما يحدث؛ كما يجب أن نفهم من تعبير (جملة اسمية) الجملة التي لا تحتوي على فعل؛ وبتعبير آخر: الجملة التي تخبرنا عن أوصاف اسم من الأسماء وحالاته.

غير أن قواعد اللغة العربية لا تلتزم هذه التعريفات والمفهومات المنطقية بل تخالفها مخالفة كلية:

فإنها تعتبر الجملة (فعلية) عندما تبتدئ بفعل، و (اسمية) عندما تبتدئ باسم. ومعنى ذلك: - أنها لا تصنف الجمل حسب أنواع الكلمات التي تتألف منها، بل تصنفها حسب نوع الكلمة التي تبتدئ بها دون أن تلتفت إلى بقية كلماتها.

ونظراً لهذه القواعد الرسمية فإن عبارة (نام الولد) يجب أن تعتبر جملة فعلية، في حين أن عبارة (الولد نام) يجب أن تعتبر جملة اسمية، مع أن كلتيهما تتألفان من نفس الكلمات، وتؤديان إلى نفس المعنى.

إنني أعتقد أن تقسيم الجملة على هذا النمط الغريب نتيجة خطأ منطقي، وقع فيه علماء اللغة - في عصور التدوين الأولي - بسبب اهتمامهم بالأوصاف الظاهرة أكثر من تفكيرهم في المعاني المفهومة. . كما شرحنا ذلك آنفاً.

وأما استمرار المؤلفين المعاصرين على التزام هذه الخطة العجيبة فلم أجد سبيلاً إلى تعليله إلا بتأثير (الألفة المخدرة) ونزعة التفادي من الخروج على التعاريف والتصانيف القديمة. .

ومما يجب أن نلاحظه في هذا الباب أن هناك أمراً آخر يزيد في غرابة نتائج هذين التعريفين، ويوسع المسافة بين المنطق والقواعد:

لقد عرّف علماء اللغة (الفاعل) - تحت تأثير النزعة التي ذكرناها آنفاً - بقولهم: (اسم مرفوع يتقدمه فعل). . فإذا تقدم الاسم على الفعل لا يترتب على ذلك - في عرفهم - تحول الجملة من فعلية إلى اسمية فحسب، بل يترتب على ذلك خروج الاسم من الفاعلية أيضاً. فعندما يقال (الولد نام) لا يرون مسوغاً لاعتبار كلمة الولد فاعلاً، نظراً لمخالفة ذلك للتعريفات التي وضعوها. . .

وبما أن هناك (فعلاً) يتطلب فاعلاً، فإنهم يلتجئون إلى طرق التأويل الملتوية، فيقولون إن الفاعل لهذا الفعل ضمير مستتر، وأما الولد فما هو إلا مرجع هذا الضمير المستتر. وبتعبير آخر: يدعون إن الفاعل ليس (الولد) المذكور صراحة، وإنما هو ضمير مستتر يعود إلى الاسم المذكور. .

إنني أعتقد أن الإنسان لو قصد التعقيد والتشويش لغرض من الأغراض، لما استطاع أن يجد طريقة تصنيف وتفسير أكثر اعوجاجاً وأشد غرابة من تلك. . .

أفلم يحن بعد وقت الإقدام على التخلص من هذه المسالك الملتوية والرجوع إلى طرق المنطق والصواب؟

الخلاصة

إن الأمثلة الانتقادية التي استعرضتها في الأبحاث السالفة تبين بكل وضوح وجلاء أن (قواعد اللغة العربية) الرسمية مشوبة بنقائص كثيرة، من حيث الخطط المتبعة في التعريف والتصنيف والتبويب. . .

وأما الأسباب المولدة لهذه النقائص والشوائب، فتتلخص في تأثير نزعة أساسية، هي نزعة الاهتمام بالإعراب أكثر من الالتفات إلى المعنى، والاعتماد على العلامات المحسوسة أكثر من الاستناد إلى المعاني المفهومة.

هذه النزعة نشأت من الظروف الخاصة التي أحاطت بعلوم اللغة العربية في أدوار تكوينها الأولى، واستمرت بتأثير (روح المحافظة) التي سيطرت على أذهان علمائها في أدوارها الأخيرة. . وباعدت بين قواعد اللغة وأحكام العقل والمنطق من جهة، وبينها وبين أسس التربية والتعليم من جهة أخرى.

ولذلك يجب علينا في موقفنا هذا أن نخرج على هذه النزعة التقليدية، ونعيد النظر في جميع ما ألفناه من أساليب التعريف والتصنيف والتبويب في قواعد اللغة العربية، فنتأمل فيها بنظرة علمية جديدة، مراعين مقتضيات العقل والمنطق من جهة، ومطالب التربية والتعليم من جهة أخرى. . حتى نتخلص على هذا الوجه من أغلاط الاجتهاد والاستنباط التي وقع فيها اللغويون القدماء. . .

هذا ما أود أن أدعو إليه العلماء والمؤلفين

أدعوهم إلى إعادة النظر في جميع مباحث الصرف والنحو، بنظرة محايدة خالية من تأثير الألفة المخدرة، مستنيرين بالطرق المتبعة في سائر اللغات، ومستندين إلى المعاني المفهومة من الجمل والعبارات. . .

وأعتقد أن الإصلاح على هذا الوجه يجب أن يكون أول خطوة من خطوات التيسير.

أبو خلدون