مجلة الرسالة/العدد 273/في الطريق إلى مؤتمر المستشرقين

مجلة الرسالة/العدد 273/في الطريق إلى مؤتمر المستشرقين

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 09 - 1938



من القاهرة إلى بروكسل

للدكتور عبد الوهاب عزام

- 3 -

بنيتي العزيزة ميّة

لم أجد قبل اليوم فراغاً لأحدثك عن مشاهدي في السفر إلى بروكسل، ولولا وعد سبق في رسالتي إلى بثينة لوجدت من مشاغلي عذراً وأخرت الكتابة حيناً.

بلغنا جنوة ظهر الأحد 25 جمادى الآخرة (21 أغسطس) فبدت المدينة مطلة على خليجها بين أمواج البحر وقمة الجبل. وما راقني مرآها ولا راعني، ولكني حينما دخلتها رأيت مدينة نظيفة الأبنية فسيحة الطرق رفيعة الأبنية يلفت الوافد إليها ضخامة البناء ورفعته، لها على البحر شارع طويل تفضي إليه شوارع أخرى ذات بهاء وضخامة

ولن أحدثك عن شيء في هذه المدينة إلا شيئاً واحداً لا يخطر ببالك أني أحدثك عنه: سمعنا ونحن على الباخرة أن مقبرة جنوة ومقبرة ميلانو جديرتان بالزيارة، ثم نزلنا إلى المدينة مزمعين أن نبيت بها لنستجمَّ ونستعدَّ للمرحلة الثانية. وغادرنا الفندق في العشىَّ نجول في الأرجاء، وبدا لنا أن نسأل عن طريق المقبرة.

ثم عنَّ لنا أن نركب تراما فنذهب معه إلى منتهى مسيره لنرى بعض جوانب البلد! ركبنا فسألنا العاملُ: إلى أين؟ قلنا: إلى نهاية الطريق. وبلغ الترام أطراف البلد وما زال حافلاً بالراكبين. فقلنا: إن للمكان الذي نسير إليه لشأنا. وإلا فما بال الناس لا ينزلون وقد أوشكنا أن نخرج من عمران المدينة؟ ثم بلغ الترام غايته، فإذا الناس يتجهون وجهة واحدة يؤمون باباً رفيعاً واسعاً. قلنا: أتراها مقبرة المدينة؟ ورأينا على جانبي الطريق باعة الأزهار، وأبصرنا كثيراً من الداخلين يحملون طاقات من الزهر فغلب على ظنّنا أنها المقبرة. ثم ولجنا الباب فإذا هالات من الأزهار مسندة إلى الجدار، ثم ولجنا باباً آخر فإذا مدينة الأموات: ماذا عسى أن أصف من مقبرة جنوة الهائلة؟ أصف لك بعض ما وعيت منها، والذي وعيته بعض ما رأيت. ولم أر المقبرة كلها. .

هناك جبل عال بنيت المقبرة في حضيضه وسفحه؛ في الحضيض ساحتان متصلتان بينهما جدار، يحيط بكل ساحة منهما أروقة عالية سميكة الجدُر رفيعة العمد. فأما الساحة فقد نظمت فيها صفوف كثيرة من القبور تحنو عليها الأشجار وتعطف عليها الرياحين - قبور بيضاء تختلف أشكالها وما عليها من تماثيل وصور، ويجمعها معنى واحد هو الفناء، بل معنيان: الموت الهامد تحتها، والحسرات المرفرفة فوقها.

وأما الأروقة ففي أرضها بلاطات نقشت عليها أسماء وتواريخ دلت على أن تحتها أجساماً وتواريخ، وفي صدرها صفوف من النواويس الحجرية تتخلل الجدران بعضها فوق بعض، قد انطبقت على أسرارها ونطقت بمواعظها وعبرها؛ وبجانب الجدران نواويس أخرى من الرخام والمرمر افتن النحاتون في تشكيلها ونقشها وإقامة التماثيل عليها - تماثيل الموتى والقديسين والملائكة، وتماثيل لآمال الناس وآلامهم على ظهر هذه الأرض بين المولد والممات. وكأنما يمشي الزائر في متحف ازدحمت فيه التماثيل والصور وبدائع الفنون. وإلى هذا وذاك قناديل معلقة تبِص فيها الفتائل أو فوانيس صغيرة يخفق فيها الشمع: مناظر إذا تقصَّاها المعتبر أو اللاهي أمضى نهاره دون أن يحصيها.

فإذا صعد الزائر على السفح وجد قبوراً أضخم أو حُجَراً تلوح من أبوابها القبور والتماثيل، أو دهاليز نظمت فيها قبور وهياكل وكنائس في أطراف هذه الصفوف؛ ثم إذا صعد رأى نظاماً آخر من القبور والفنون حتى يملَّ أو يتعب فيهبط وهو يصعَّد الطرف في هذا الجلال والجمال ويرجع أدراجه إلى الحضيض ويعود إلى طريقته في الساحة أو تحت الأروقة حتى يخرج وهو يتلفت ليتزود من هذا الجمال في الموت والبقاء في الفناء

جُلنا في المقبرة تسير أفكارنا أكثر مما تسير أرجلنا، وتتلفت قلوبنا أكثر مما تتلفت عيوننا. خرجت قائلاً: ليت شعري أهنا موت أم حياة؟

وأصبحنا يوم الاثنين مبكرين إلى المحطة فركبنا القطار إلى ميلانو نجتاز طريقاً أخضر ممرعاً كثير الزرع والشجر والعشب حتى بلغنا المدينة بعد ثلاث ساعات.

نزلنا بميلانو فأمضينا بقية النهار نجول في أرجائها، ولم نر من مشاهدها العظيمة القديمة إلا الكنيسة الكبرى، وهي من عجائب الأبنية تبدو في حلة من الرخام لم تعطل قطعة فيه من نقش أو صورة أو تمثال، وتبدو شرفاتها ومناراتها في صنعة لطيفة دقيقة كأنما يستقبل رائيها دوحة من الرخام. وليس باطن الكنيسة أقل فخامة ورونقاً من ظاهرها، وهي فيما سمعت من آثار القرن الخامس عشر. برحنا ميلانو صباح الثلاثاء نؤم سويسرة، فلما أجزنا حدودها أحسسنا تغير الأرض شيئاً فشيئاً حتى تغلغلنا في مناظرها الساحرة الرائعة: أودية وبحيرات تطل عليها جبال شاهقة ترقي العين فيها معجبة بالخضرة الناضرة على سفوحها، ثم ترقى فترى الجبل قد انتطق بالسحاب وأوفت قمته عليه، أو ترى القمة قد تغلغلت في السحب فاختفت فيها، وترى زرقة السماء بين السحب وذرى الجبال كزرقة البحيرات في الحضيض فتُسِف العين متمهلة على السفح كأنها تشفق أن تزل إلى الأودية العميقة والبحيرات، حتى تبلغ الماء وكأنما عادت به إلى صفاء السماء وزرقتها. وترين الماء مندفقاً على السفح فإذا حاولتِ أن تعرفي أوله رأيته هابطاً من السحاب كأن السحاب يسيل أنهاراً لا أمطاراً.

وقصارى القول في هذا الجمال الهائل أنه صلة السماء بالأرض، وأنه حيرة الطرف، ومتعة النفس، وروعة القلب، ومسرح الفكر، وتجلى الخالق في جمال خليقته وجلالها في مشاهد لا ينتهي أولها إلى آخر.

ما أعجب هذا مجالاً لشاعر مُلهَم أو كاتب مبين لو اتسع الوقت وأمهل السفر وانفرجت المشاغل عن ساعة يستملي فيها القلم الوجدان والخيال!

بلغنا لوسرن في ثلاث ساعات.

ولعلي أصل الحديث من بعد، وإن لم أجد فراغاً للتفصيل والتطويل لأجعله حديثاً ممتعاً شائقاً.

تحيتي ودعائي لك وللأخوات والأسرة كلها.

(بروكسل 9 سبتمبر سنة 1938)

عبد الوهاب عزام