مجلة الرسالة/العدد 273/عود على بدء

مجلة الرسالة/العدد 273/عود على بدء

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 09 - 1938



بين الغرب والشرق

للدكتور إسماعيل أحمد أدهم

- 4 -

كان يرى الأستاذ فليكس فارس رجحاناً لطابع الشرق الغيبي على قالب ثقافة الغرب الأثباتية. ومرد هذا الرجحان كما ظهر لنا من مناقشة كلامه اعتقاده بقانون الرجعى، وبأن لهذا الشرق من كيانه نافذة يتطلع منها إلى الحياة، هي نافذة فطرته الموروثة، فمنها يستقبل النور، ومنها يستقبل النسمات لأنفاسه. . وفطرة الشرق الموروثة على زعمه قائمة على الإيمان بالغيب. ونحن نرى ما يعبر عنه بالفطرة الموروثة هو التراث الشعبي لهذا الشرق والثقافة التقليدية له. وهو شيء كما قلنا غير فطرة الشرق وروحه، لأن الفطرة شيء مجرد يظهر في تاريخ الشعب وفي ثقافاته المتعاقبة من حيث يحتضن ثقافة الشعب التقليدية. إذاً من الخطأ من الناحية العلمية ما يقوله مناظرنا الفاضل الأستاذ فليكس فارس من أن فطرة شعوب الشرق هي الحالة الغيبية. والصحيح أن يقول إن طابع ثقافة الشرق التقليدية هو غيبي.

ولا شك أن طابع هذه الثقافة التقليدية ممكن تغييره بالطابع اليقيني، ولكن هذا التغيير وقف على العوامل والظروف التي تجد طريقها إلى محيط هذا الشرق. فنحن نعلم بأن كينونة الإنسان وقف كما قلنا في المقال السابق على مجموع الصلات المتبادلة بين المؤثرات المختلفة التي يختص بها المحيط الاجتماعي والبيئة الطبيعية من جهة، والإنسان من جهة أخرى؛ فإذا ما تغايرت المؤثرات في المحيط الاجتماعي فتبعاً لهل يتغاير منتوج الصلات القائمة بينها وبين البيئة الطبيعية حتى تحوز من المكافأة ما يتوافق مع ما أستجد من المؤثرات. ومثل هذا التغاير الخارجي يؤدي إلى تغير في الأفكار والسلوك الاجتماعي والشعور الذاتي في الجماعة البشرية. . .

وأظن أن مناظري مهما حاول أن يتعسف فلا يساعده المنطق والعلم أن ينال من صحة هذه المقررات الأولية.

وإذن يسقط السبب الوحيد الذي يرجع إليه مناظرنا في إيمانه بتفوق ثقافة الشرق الغيبية.

ولنا أن ننظر مع ذلك في حقيقة الاتجاه الغيبي في المجموع البشري كحالة طبيعية تمر بها الجماعات في تطورها التاريخي وارتقائها الطبيعي، مجردة عن تلك الحالات التي تقيمها اليوم في كيان المجتمع العربي على وجه عام، والمصري على وجه خاص. وسنجد أن الحالة الغيبية مبعثها الجهل بأسباب الأشياء الطبيعية وعللها الكونية، فيجنح العقل إلى ما وراء الطبيعة والكون محاولاً أن يستنزل منها تفسيرات وتعليلات للحالات التي يخلص بها من حياته في العالم المنظور. وأظن أن أحسن ما يمكن أن أقدمه لمناظري الفاضل تاريخ النزاع بين اللاهوت والعلم، ففي كل صفحة من صفحات هذا التاريخ يقع على ما يؤيد فكرتنا.

يقول الأستاذ (بيتي كروزيار):

(لقد كف الناس عن القول بأن المذنبات نذر إلهية عندما عرفوا أسباب ظهورها وعللوا وجودها. وكفوا عن القول بأن الصواعق نتيجة غضب إلهي عندما عرفوا حقيقة الكهربائية الجوية، وعندما استكشف (فرنكلين) مانعته المشهورة. ورجعوا عن القول بأن الجنون والمس عائد إلى أعمال السحرة والمشعوذين وأنصار الشياطين عندما دلهم الطب على أسبابها العصبية. ورفضوا الاعتقاد بأن اللغات منشؤها بابل عندما وضعت قواعد مقارنة اللغات).

نعم لقد كف الناس في العالم المتمدن عن كل هذا، وآمنوا بسنة (كُنْت) من أن الحوادث العالمية والظاهرات الطبيعية لا بد أن تعود إلى سبب طبيعي، وأنه من المستطاع تعليلها تعليلاً علمياً مبناه العلم الطبيعي. من ذلك اليوم انهار قائم اليقين بما بعد الطبيعة للإفصاح عن حقيقة الظاهرات الطبيعية، وكان نتيجة ذلك أن خلص العالم المتمدن بعقلية وثقافة جديدتين طابعهما يقيني إثباتي. ونحن أن كنا نقول باستحالة الأخذ بالعلم الأوربي مع الاحتفاظ بالثقافة الشرقية من حيث أن طابعها غيبي، فذلك مرده أن العلم الأوربي قائم على عقيدة أولية في إمكان الكشف عن سبب طبيعي لكل الحوادث العالمية والظاهرات الطبيعية.

6 - يظهر أن المناظر الفاضل حين أراد أن يرد على القول بوجود أصل فرعوني في ثقافة مصر التقليدية، تعسف إلى حد أن خرج على الأوليات المعروفة في حقائق الاجتماع وعلم تكون الشعوب. وإلا فليفسر لنا معنى سخريته من هذه الأوليات؟

يقول المناظر الفاضل:

(أما أن يعد المناظر (يعنيني بذلك) طريقة استغلال الأرض فطرة (لم نقل فطرة وإنما كل ما قلناه ثقافة تقليدية أو تراث للشعب، فإذا صحح الكلام على هذا الوجه يستقيم) فذلك مما لا يوافقه عليه أحد - لماذا؟ - لأن المسألة هنا تتعلق بتطور في أساليب الصناعة. ولو كان الأمر كذلك لكان كل مرتد غير القميص الأزرق، وكل حارث بآلة حديثة، وكل مستبدل (شادوقاً) (بطلمبة) فاقداً للأصل الفرعوني في ثقافته التقليدية).

وهذه لعمري إحدى أطاريف الكلام في مناظرتنا. ومنحى الطرافة أن يحمل المناظر الحقيقية على وضع يسخر منه!

نعم أيها الصديق، إن ما تظنه موضعاً للسخرية حقيقة واقعة. وإذا أردت السبب فإننا نسوقه بكل بساطة قائلين:

إن منحنى الحياة المعاشية التي يحياها الإنسان لهل أثر في تحديد مشاعره وتوجيه عقليته وتكوين ثقافته، من حيث أن الحياة المعاشية تقيم جواً طبيعياً واجتماعياً يعيش فيه الإنسان، وإلا فما الفرق بين ثقافة إنسان يحيا حياة رعي وصيد، وحياة إنسان يحيا حياة زراعة، وحياة إنسان يحيا حياة صناعية؟

لا أظن أن المناظر الفاضل يتعسف إلى الحد الذي ينكر الفرق الثقافي بين هؤلاء وأثر حياتهم المعاشية في تكوين ثقافاتهم إلا ويخرج عن الأوليات المعروفة في علم الاقتصاد والاجتماع. وهو إن شاء أن ينكر فلسنا نمنعه. ولكن ليبين لنا إلى أي شيء يستند حتى نناقشه على أساسه؟!

كذلك إنكار المناظر أن تكون التقاليد التي احتفظ بها المصريون من العهد الفرعوني دليلاً على ظهور الدين الإسلامي في مصر على الدين الفرعوني فلا أظن أن منطقه أسعفه في إنكاره، لأنه يعترف ضمناً بهذه الحقيقة في اعتراضه بقوله:

(على أن ما تبقى من التقاليد يعد بدعاً لا يزال الدين يعمل على اقتلاعها من المجتمع لخيره وسلامة إيمانه) فكأن هناك تقاليد تبقت من العهد الفرعوني وتسربت إلى الدين الإسلامي في مصر ولونته بلون محلي. أما أن الدين يعمل على اقتلاعها لخير المجتمع وسلامته فليس ذلك من شأن الباحث المستقري. وله أن ينظر إليها إذا ما نجح الدين في اقتلاعها وأصبحت حقيقة ملموسة.

7 - قلنا إن لمصر ثقافتها التقليدية التي تتميز بها عن جاراتها من بلدان الشرق العربي. غير أن المناظر وإن اعترف معنا بأن للمميزات الإقليمية أثراً على ثقافة الأمم اعتبر أن لكل أمم الشرق العربي ثقافة عامة شاملة، ومن هنا اعترض علينا وقال بوحدة ثقافة أمم الشرق العربي. غير أن هذا الاعتراض في غير محله، لأن اعتباره أن لأمم الشرق العربي ثقافة عامة شاملة إن كانت صحيحة إلى حد ما فهذه الثقافة تتلون وتأخذ طابعاً في كل بلد من بلدان الشرق العربي، فمظهرها في سوريا غير مظهرها في العراق، وهي في العراق غيرها في مصر، وهي في مصر غيرها في الحجاز، وهي في الحجاز غيرها في مراكش أو تونس. وهذه حقيقة قد تظهر أوضح للمراقب الأجنبي من حيث تتميز عنده الفروق الأساسية. ومن مظاهر هذه الفروق اللهجات العربية في مختلف بلدان العالم العربي، ومناحي الحياة المعاشية.

ولقد وهم المناظر الفاضل أننا نهزل حين قلنا إن العامية في مصر هي العربية الآخذة بأسباب الفرعونية، بينما نحن في مجال الجد؛ غير أن ناحية من الهزل بدت من خلال كلامنا حين لم يلاحظ مناظرنا ما قلناه في المقال الأول من أننا نعني بالفرعونية وحدة الحياة - عقلية أو معاشية - متمشية في ثقافة المصريين التقليدية حتى العهد الفرعوني. فإذا قلنا إن العامية هي العربية الآخذة بأسباب الفرعونية فإنما نعني أنها تأخذ طابعاً مصرياً خاصاً بها، هذا الطابع هو الذي يتمشى في ثقافة المصريين التقليدية حتى العصر الفرعوني، ومن هنا جاءت كلمتنا الآخذة بأسباب الفرعونية).

وأظن أن كلامي قد وضح وبان مفهومه وظهر أنه جد لا هزل. . . وبهذه المناسبة ألفت نظر المناظر إلى مراجع قيمة في اللهجة المصرية تشفي غلته وتؤيد وجهة نظرنا، وأهم هذه المراجع بحث للبروفيسور نلينو عنوانه (كتاب في اللهجة المصرية) وهو مطبوع بميلانو عام 1903، ودروس الأستاذ احمد والي ويوسف المغربي والأستاذ كراتشفوفسكي.

(للمقال بقية) إسماعيل أحمد أدهم