مجلة الرسالة/العدد 273/للتاريخ السياسي
مجلة الرسالة/العدد 273/للتاريخ السياسي
النزاع الروسي الياباني
للدكتور يوسف هيكل
شهد شهر أغسطس (آب) الفائت حوادث دولية متفاقمة الخطورة، إذ طارت شرارة الحرب العالمية في الشرق الأقصى فأشعلت النار بين الروس واليابان، فكادت الحرب تجتاح العالم لولا الجهود الدبلوماسية التي بذلي لإخماد نار الحرب الروسية اليابانية. غير أن شبح الحرب العالمية عاد من الشرق الأقصى إلى أوروبا الوسطى، وأخذ يحوم في جوها مهدداً السلام بشدة.
وحديثنا في هذا المقال مقتصر حول النزاع الروسي الياباني. ولعرض هذا النزاع يحسن بنا التكلم عن أسباب الصدام الذي حدث بين القوى الروسية واليابانية، وعن تطور القتال بينهما، وأخيرا عن المفاوضات الديبلوماسية التي بذلت لعقد الهدنة بين موسكو وطوكيو، وعن شروط هذه الهدنة وأسبابها.
نشأت في اليابان في السنين الأخيرة روح استعمارية جديدة. فبعد أن أغرقت اليابان أسواق الشرق بمنتوجاتها، مما أدى بالدول الأخرى إلى وضع ضرائب فادحة على المنتوجات اليابانية لتحول دون دخولها بلادها، أخذت تتبع سياسة تتعارض وبقاء الأوربيين في الشرق. وكان هدفها الأول إجلاء الأوربيين عن الصين. فعملت، قبل احتلالها منشوريا، على تحقيق هذه الأغراض بالتفاهم مع الصين، ولذلك ساعدت على قيام أحزاب قوية في بلادها مطالبة بأن تكون (آسيا ل
الآسيويين كما أن أوربا للأوربيين، وأمريكا للأميركيين). ثم عملت على إنشاء فروع عديدة لهذه الأحزاب في الصين وجاوة والهند.
ولكن الحكومة اليابانية رأت أن الحالة الدولية تتطلب السرعة في العمل، فعدلت عن سياسة التفاهم مع الصين، وعمدت إلى سياسة القوة التي مكنتها من احتلال منشوريا، على رغم تعدد المصالح الغربية فيها. بعد هذا الفتح واجهت اليابان أوربا بقاعدة جديدة هي (ارفعوا أيديكم عن الصين).
لم تتحسن العلاقات بين اليابان والصين بعد استيلاء اليابان على منشوريا، بل عمد الصين إلى مقاومة النفوذ الياباني، وجدت في المحافظة على كيانها. غير أن اليابان قررت شل الحركة الصينية المعادية لها بالقوة، فكانت الحرب اليابانية الصينية.
واستيلاء اليابان على الصين يهدد وجود الدول الغربية في البلاد الأسيوية، ولا سيما في الشرق الأقصى والأوسط. ويتحقق حينئذ الخطر الأصفر الذي كان الإمبراطور ولهلم أول المنذرين به.
وفي مقدمة الدول التي تخشى اليابان في الصين الحكومة الروسية. لأن الخطر الأصفر لا يحرم هذه الدولة بعض مستعمراتها فقط، بل ربما يسلخ عنها قسماً كبيراً من بلادها، وهو سيبريا الممتدة في شمالي آسيا من أقصى الشرق حتى الغرب منها. وقد كانت الروسيا في المدة الأخيرة هدف عداء اليابان، إذ أن طوكيو عقدت تحالفاً مع برلين وروما، غايته مكافحة الشيوعية. والشيوعية ما هي إلا رمز يراد به الحكومة الروسية. فهذه المصالح المتضاربة هي السبب الرئيسي لكل حرب تقع بين اليابان والروس، أو بين اليابان وأية دولة غربية أخرى.
أما السبب المباشر للنزاع الأخير الذي حدث بين اليابان والروسيا فهو حادث حدود، وهو أن الجند الروس، حسب قول اليابان، اخترقوا الحدود الفاصلة بين السوفيات (الروسيا) ومنشوكو واحتلوا تشانج كوفنغ ومضيق شانغ كو. ولذلك طلبت طوكيو من موسكو سحب القوات السوفياتية إلى ما وراء الحدود، فرفضت موسكو ذلك أواسط شهر يونيه، مجيبة بأن المنطقة المختلف عليها هي جزء من الأراضي الروسية، وأن طلب اليابان يعد تدخلاً منها في شؤون السوفيات الداخلية
إن تهديد اليابان وجواب روسيا جعلا الدولتين تقفان وجهاً لوجه دون أن تستطيع إحداهما الرجوع عن موقفها من غير أن يكون ذلك تراجعاً منها أمام رغبة الأخرى. وفي أثناء ذلك كانت الجيوش تتجمع، والطائرات تحوم في الجو، فكان التصادم، وكانت حوادث قتال محلية لم تأخذ صبغة حرب بين الدولتين، لأن القوى التي اشتركت في القتال كانت محدودة، ولأن المفاوضات كانت مستمرة لإيقاف القتال وإيجاد حل للخلاف.
أما هدف القتال فكان احتلال قمة (تشانج كوفنغ) وما جاورها. فبعد أن احتلت القوى السوفياتية هذه القمة، أصر الجيش الياباني على إرجاع الروس عنها؛ فدارت معارك عديدة، واشتركت فيها القوى البرية على اختلاف أنواعها والجوية، وأدت إلى استيلاء الجيش الياباني على تلول (تشانج كوفنغ) و (شاتسا) و (بينج) وذلك في 30 يوليه سنة 1938. وقد صرح حينئذ الميجر (اكياما) بلسان الجيش قائلاً (قد عدنا إلى احتلال هذه الأراضي المنشوكية بالقوة، ولا نريد شيئاً أكثر من ذلك. فنحن نجهل النيات السوفياتية. ولكن إذا حاول السوفيات استرداد هذه المواقع وجب أن ينتظروا معاملة أقسى وأشد)
ولكن هذا التهديد لم يثن عزيمة السوفيات بل أثار هياج الرأي العام في روسيا، فقامت الجماهير بمظاهرات عدائية نحو اليابان جاء في قراراتها: (يجب أن لا تنسى قط اليابان وإيطاليا وألمانيا أن الجيش الأحمر لن يتخلى عن متر واحد من الأراضي السوفياتية، كما يجب أن لا يفوتها أن الشعب الروسي بأكمله هو في حالة تجنيد، وأنه يجيب أول نداء تذيعه حكومته وسلاحه بيده) وقد أصدرت الجمعيات العامة المنشأة في جميع أنحاء البلاد قرارات جاء فيها: (إننا لن نتراجع أمام أي تهديد. فحدودنا لا يمكن خرق حرمتها، وستدفع العصابات اليابانية موت جنودنا سيولاً من الدماء).
استعد الروس لاسترجاع منطقة (تشانج كوفنغ)، فظهر الجيش الروسي الأحمر الأول مرة في القتال، فقام في 3 أغسطس بهجوم عنيف على هذه المنطقة، اضطر اليابان إلى دفع عشرين ألف مقاتل لصد هجوم الروس. ولم تكن هذه المعركة حاسمة، ولم يتمكن الروس من استرداد المنطقة التي استولى عليها اليابانيون في 30 يوليه الماضي. على أن القتال لم يقف، بل ازداد حماسة وشدة. فحدثت معارك، أدت إلى تقدم الروس، فأعلنت قيادة الجيش الروسي في 7 أغسطس أن القوى السوفياتية (أجلت بتاتا الجيش الياباني عن الأراضي السوفياتية). ولكن المقامات اليابانية نفت بتاتاً جلاء اليابانيين عن أكمة (تشانج كوفنغ). ويظهر أنه في ذاك التاريخ قد جلا اليابانيون عن قسم من المنطقة المختلف عليها، وظل القسم الآخر تحت سيادتهم
واصل الروس القتال، وتسلم المارشال بلوخر القائد العام للقوات السوفياتية في الشرق الأقصى، قيادة الأعمال الحربية، فتقدم الروس وتراجع اليابانيون. وصدر في موسكو بتاريخ 10 أغسطس بلاغ رسمي يقول: (إن تشانج كوفنغ التي وقع الخلاف عليها بين الروس واليابانيين أمست الآن في أيدي الروسيين).
وفي 10 أغسطس أيضاً أعلنت الهدنة بين روسيا واليابان، وأوقف القتال في ساحة (تشانج كوفنغ) عند ظهر اليوم التالي حسب توقيت الشرق الأقصى أي قبيل شروق الشمس في بلادنا.
كانت خسائر الطرفين حسب تقدير اليابان الرسمي 158 قتيلاً و 723 جريحاً من اليابانيين، وما ينيف عن 1700 قتيل وجريح من الروس. غير أن إحصاء الروس الرسمي ينص على أن عدد قتلى الروس 236، وجرحاهم 611، وعدد قتلى اليابان 600، وجرحاهم 2. 500. ومن الأكيد أن هذه الأرقام غير صحيحة لأن من عادة الدول المتحاربة محاولة إخفاء حقيقة خسائرها، والمبالغة في مقدار خسائر الخصم. والغاية المتوخاة من ذلك بيان تفوقها وتقوية روح جيوشها المعنوية من جهة، وإظهار ضعف الخصم وإضعاف روحه المعنوية من جهة ثانية
لم يكن إعلان الهدنة مفاجئاً لأن المفاوضات لتصفية النزاع الروسي الياباني كانت سائرة منذ ابتداء القتال. وكانت الدوائر السياسية الغربية تتفاءل تارة وتتشاءم تارة أخرى، ولكن التفاؤل غلب التشاؤم بتراجع اليابان عن موقفها
فكيف كانت المفاوضات؟ وما هي شروط الهدنة؟ وما هي الأسباب التي دعت اليابان إلى هذا التراجع؟
على أثر دخول الجند الروسي المقاطعة المختلف عليها قابل البارون سيجيمنسو السفير الياباني في موسكو، الرفيق لتفينوف وزير خارجية روسيا عدة مرات طالباً منه سحب القوى الروسية من مقاطعة (تشانج كوفنغ). وكانت خلاصة الحديث الذي دار بينهما في 20 يوليو (تموز) أن الحكومة اليابانية مقتنعة بأن المنطقة الواقعة غربي بحيرة (كاسان تشانتشي) داخلة في حدود منشوريا، وأنها توافق على تعيين الحدود تعييناً دقيقاً، والدخول في مفاوضة مع حكومة موسكو لهذا الغرض؛ ولكن بعد أن يتم انسحاب القوات السوفياتية من المنطقة التي احتلتها. وقد رد وزير الخارجية الروسية على بيانات السفير الياباني بأن الحكومة السوفياتية قدمت إلى السفارة اليابانية عدة وثائق منها معاهدة (هونتشون) والخرائط الملحقة بها المبينة للحدود بدقة وجلاء تامين. وهذه الخرائط والوثائق التي وقعها ممثلو الحكومة الصينية السابقة تثبت أن المنطقة الواقعة غربي بحيرة كاسان داخلة ضمن نطاق الحدود الروسية، وأن روسيا كانت ترسل إليها الدوريات العسكرية ولا تزال تفعل ذلك. فأبان السفير الياباني أن حكومته لن تكون مرتاحة إلى هذا الرد، وأنه من الضروري اتخاذ تدابير تعيد الأمن إلى نصابه على الحدود، وإلا اضطرت اليابان أن تستنتج من ذلك وجوب الالتجاء إلى القوة. فرد الرفيق لتفينوف أن مثل هذا التهديد لا يؤثر في روسيا ولا يخيفها. وعلى أثر ذلك قطعت المفاوضات
وبعد احتلال اليابان لتلول (تشانج كوفنغ) في 30 يوليو (تموز) تلقى سفير اليابان في موسكو التعليمات من حكومته بأن يطلب من الرفيق لتفينوف استئناف المفاوضات بشأن (تشانج كوفنغ) التي قطعت في 20 يوليو (تموز) فاجتمع السياسيان في 4 أغسطس وبسط السفير الياباني وجهة نظر حكومته التي ترمي إلى تسوية النزاع بالطرق الودية. فأصر الرفيق لتفينوف على أنه يجب على اليابان قبل بدء المفاوضات أن تسحب جيوشها إلى وراء الخط المعين في الخريطة الملحقة بمعاهدة (هونتشون) المبرمة عام 1886. فأجاب السفير بأن الخريطة المذكورة التي لا يوجد لها صورة رسمية إلا في وزارة الخارجية في موسكو، لا يمكن قطعاً اعتبارها المستند الوحيد الذي يستطاع استخدامه في تعيين الحدود، لأنها لم تنشر قط، ولأن السلطات اليابانية المختصة لم تعلم بها لحد الآن. على أثر ذلك انفض الاجتماع دون أن يصلا إلى نتيجة إيجابية
وفي اليوم التالي قابل السفير الياباني وزير الخارجية الروسية وعرض عليه اقتراح حكومته المشتمل على النقط التالية:
1 - انسحاب القوات اليابانية إلى المنطقة المتنازع عليها حول جبل (تشانج كوفنغ).
2 - تعهد روسيا بألا تحتل هذه المنطقة.
3 - بقاء هذه المنطقة منطقة حياد إلى أن تقوم لجنة بتخطيط الحدود.
فرد الرفيق لتفينوف على هذا الاقتراح بقوله: إن روسيا لا تدخل في أية مفاوضات قبل سحب القوات اليابانية داخل حدودها. وعلى أثر هذه العبارة استأذن السفير الياباني بالانصراف وارفض الاجتماع. وكان القتال في هذه الأوقات شديداً، وهجوم الروس لاسترجاع منطقة (تشانج كوفنغ) قويا
وفي 10 أغسطس اجتمع الرفيق لتفينوف والبارون سيجيمنسو واتفقا على شروط الهدنة التي تلخص كما يلي:
1 - وقف الحركات العسكرية ظهر يوم 11 أغسطس حسب توقيت الشرق الأقصى أي الساعة الخامسة صباحاً في موسكو.
2 - بقاء قوات الفريقين في المواقع التي كانت فيها في منتصف ليل 11 أغسطس.
3 - تأليف لجنة مختلفة قوامها عضوان روسيان وعضو واحد ياباني، وآخر منشوري لتعيين حدود المنطقة المختلف عليها، فإذا لم تتوصل هذه اللجنة إلى الاتفاق وجب عرض الخلاف على حكم يختاره الفريقان.
4 - تستند هذه اللجنة في أبحاثها إلى الخرائط الملحقة بالمعاهدات المعقودة بين روسيا وحكومة الصين السابقة.
وبرغم الهدنة حدث في 12 أغسطس حادث جديد فحواه، حسب تقرير السوفيت، أن الجيش الياباني أخذ يتقدم، فجابه الجيش الروسي على بعد مائة متر. وبقي الجيشان وجهاً لوجه حتى اتفقا على أن ينسحب كل منهما مسافة ثمانين متراً. وفي 13 أغسطس قدم الرفيق لتفينوف إلى السفير الياباني احتجاجاً على (الاعتداء الجديد على حدود السوفيات) طالباً انسحاب القوى اليابانية، ومهدداً باعتبار حكومة السوفيات الهدنة ملغاة فيما إذا لم تجب الحكومة اليابانية مطالبها. فانسحب الجيش الياباني، في 14 أغسطس، إلى الضفة اليمنى لنهر (تومن) داخل حدود كوريا ولم يبقى جندي واحد في منطقة (تشانج كوفنغ) الواقعة على الضفة اليسرى.
كانت هذه الهدنة فوزاً سياسياً كبيراً للحكومة السوفياتية، عزز نفوذها وهيبتها في الشرق الأقصى، وذلك بإكراهها اليابان على قبول شروطها من سحب الجيش الياباني من المنطقة المختلف عليها، ومن تشكيل لجنة الحدود بحيث يكون فيها أعضاء للروس بقدر ما لليابان وحكومة منشوكو معاً. أما اليابان فكانت تريد أن يكون لكل من روسيا واليابان وحكومة منشوكو عدد متساو من الأعضاء.
وسبب تراجع اليابان هذا أنها يوم أقدمت على إخراج الجنود السوفياتية من هذه المنطقة بقوة السلاح، كانت تظن أن روسيا ليست في حالة تمكنها جدياً من محاربتها، وكانت تعتقد أنها ستلقى من ألمانيا وإيطاليا مساعدة عملية، عملاً بميثاق مكافحة الشيوعية وامتداد محور روما برلين إلى طوكيو.
ولكن الحوادث لم تحقق هذا الظن، لأن حكومة السوفيات أظهرت بطريقة لا شك فيها أنها لا تتردد في خوض غمار الحرب دفاعاً عن كرامتها وسلامة حدودها في الشرق الأقصى. ولأنه ظهر وهن ميثاق مكافحة الشيوعية المراد منه مقاومة نفوذ السوفيت. إذ أنه لما استفسر سفير اليابان في برلين من الهر ريبنتروب وزير خارجية ألمانيا يوم الاثنين الموافق 8 أغسطس، عن مدى المساعدة التي تقدمها ألمانيا لليابان إذا خاضت غمار الحرب ضد روسيا، أجاب الهر ريبنتروب بما معناه: أن ألمانيا مع ميلها إلى اليابان وتمنيها لها الفوز، لا تستطيع في الوقت الحاضر مدها بمساعدة عملية في حالة نشوب حرب يابانية روسية فأبرق السفير الياباني في برلين حينئذ إلى حكومته أن تعمل كل ما في وسعها لعدم تمديد الخلاف مع روسيا
أما روسيا فسوف لا تكتفي بهذا الفوز الأدبي الذي أحرزته على اليابان لأن مسألة (تشانج كوفنغ) لم تكن السبب الحقيقي في النزاع الذي كاد يؤدي بها إلى الحرب (بل هناك سبب أعظم منه هو أن مصالحها الحيوية تقضي عليها بوقف المطامع اليابانية في الصين عند حدودها، فإذا لم تعدل اليابان عن هذه المطامع، وتحل خلافها مع الصين على أساس يكفل للصينيين سيادتهم وسلامة بلادهم، فالحرب واقعة بينها وبين روسيا، وربما تشترك فيها بعض الدول الغربية من أصحاب المصالح في الصين
يوسف هيكل