مجلة الرسالة/العدد 274/إلى لجنة إنهاض اللغة العربية

مجلة الرسالة/العدد 274/إلى لجنة إنهاض اللغة العربية

مجلة الرسالة - العدد 274
إلى لجنة إنهاض اللغة العربية
ملاحظات: بتاريخ: 03 - 10 - 1938



الأخلاق والأدب الوجداني الرفيع

للأديب السيد ماجد الأتاسي

منذ أسابيع خلت، عثرت في بريد (الرسالة) الأدبي على كتاب أرسله الأستاذ أحمد أمين إلى صديقه الأستاذ الزيات جواباً عما سأل سائل لجنة إنهاض اللغة العربية عن إغفالها كتب أستاذنا الزيات فيما اصطنعت للطلاب من كتب أعلام الأدب وأمراء البيان

ولقد كنت أوثر ألا أكون بين من يتحدثون عن هذا الموضوع المصري المحلي البحت؛ وإن كنت أومن أم وادي الكنانة وسائر ربوع العروبة الزهراء وطن كل عربي الوجه واليد واللسان

ولكن ما جاء في قرار أعضاء اللجنة وفي كتاب الأستاذ أمين من نعيهم جميعاً على (رفائيل وفرتر) انتهاكهما حرمات المثل الأخلاقية العليا، وذهابهم إلى أن من الخير أن يبعد هذان الكتابان العالميان عن أيدي الطلاب وأعينهم، وما يفهم من حكمهم هذا من مذاهب في العلاقة بين الأخلاق وهذا اللون من الأدب الوجداني الرفيع، كل هذا يغريني بأن أكتب غيرة على الأدب ودفاعاً عن الحق

ولست آخذ اليوم نفسي بالدفاع عن الزيات؛ فتحت أجنحة هذا النسر الجبار يستظل الألوف ممن هم أشد مني بأساً وأقوى مراساً. . ولن يضير الزيات أن تزل في تقدير أدبه مقاييس الحكم أو تطيش فيه نزعات الهوى - إن كان هناك هوى - بل ليفخر الزيات بأن يظلم مع (غوته ولامرتين)

ولئن بغي على النبوغ (قوة السلطان وحكم الأثرة فشهد فيه بالزور وحكم عليه بالباطل) ففي الأجيال القادمة - حين لا أهواء ولا مآرب - سيكون للعبقرية الموتورة نصفة، وللحق المبين رفعة

يقول الأستاذ أحمد أمين: (إن آلام فرتر موضوعه حب هائم ينتهي بانتحار فظيع، وإن روفائيل رسائل غرام بين شاب وامرأة متزوجة. ولم نر من الخير أن توضع أمثال هذه الكتب في أيدي الطلبة لناحيتها الأخلاقية لا ناحيتها البلاغية؛ ولو فعلنا لخالفنا ضمائرنا وهاج علينا أولياء أمور الطلاب بحق) ويقول هذا العاجز - في هدوء وبعد تفكير وتقدير -: إن من الخير كل الخير أن توضع أمثال هذه الكتب في أيدي الطلبة لناحيتها الأخلاقية، ولو لم نفعل لخالفنا ضمائرنا وهاج علينا الذين يفهمون من أولياء الطلبة بحق

ففي فرتر ورفائيل مثال من الفضيلة تحس كل نفس الميل إليه وتود لو بلغته أو دنت منه، وفيهما أسوة حسنة للناشئة يتعظون بهما في تثقيف عقولهم، وصقل عواطفهم، وارتفاعهم عن الغرائز الدنيا. ولو كنت أستاذاً أو أباً لأغريت تلاميذي وأبنائي بأن يعرفوهما ويحبوهما، ويكلفوا بهما، ويحاولون أن يتدبروا معانيهما ويتفهموا مراميهما

يعيب الأستاذ أحمد أمين رفائيل لأنها رسائل غرام بين شاب وامرأة متزوجة قضت شرائع المجتمع أن تكون - قلبها وجسدها - لزوجها، ولزوجها وحده

ونحن من الحق علينا لنحكم لهذا الغرام أو عليه أن نتناول بالتحليل عوامله، ومثله، وآفاقه

هناك في فندق من فنادق السافوا عرف رفائيل جوليا، فكان بينهما تآلف وتعاطف، وإن امتدت بينهما أسباب هذه الصلات التي فصلت آياتها في القصة

تعارفا. فأما رفائيل فتعلق بها، وأما هي فعطفت عليه ورقت له، ولمحت فيه مواهب النبوغ والعبقرية تومض وميض الفتنة في الزهرة الأرجة في فتوة مشبوبة القلب، بعيدة الأفق، طاهرة الذيل، جذابة الطوابع، فأعجبت به، واطمأنت إليه واستعانت به على الوحدة، والمرض، وآلام النفس

من هنا كان بينهما هذا اللون المعقد من الصلات العاطفية:

لا هو بالحب وحده، ولا هو بالصداقة وحدها، وإنما هو مزيج من هذا وذاك، فيه من الصداقة أكثر مما فيه من الحب، ومن الإعجاب فوق ما فيه من الرغبة

ولم تذهب هذه الصلات النقية بما لزوج جوليا في قلبها من مكان وحرمة. فلقد كانت تحفظ في أعماق نفسها وأحرج مواقفها العرفان الخالص لجميل هذا الزوج الذي يحبها، ويعطف عليها، ويأسى لها

لقد أخطأت في خطوتها الأولى، ولكن أي زهر فوَّح هذا الذي كان يتفتق على آثار الخطوات التالية؟

وأي حب كان حب رفائيل؟ إنه تذوق الذوق الفني الجميل للجمال الفني يتجلى - في أبرع آياته وروائعه - في قطعة فنية تسمى (المرأة). . . إنه تسبيحة القلوب العلوية الموهوبة ترتفع في هدوء الليل. وابتسام الصبح صلاة حارة ظامئة في الأيمان بالحياة، والشعور بخفقانها

أحب امرأة ممتنعة عليه، وقد هدها السل، فذوت زهرتها ونضب معينها، وتقطعت أسباب رجائها، فهي تنتظر مع الليل هذا الطارق المخيف الذي يروح ويغدو على بابها. . .

الجمال المريض، والأنوثة الوديعة، والشعور الجريح، والقلب الذكي، والأفق البعيد، كل هذا حببها إليه، وأخذ عليه هواه. ولقد دلهه إذ دلهه جاذبية هذا الذبول الذي يبعث فينا العطف والحنان فوق الافتتان حين يمتد إلى زنبقة من زنابق الربيع فإذا الحر يلفحها، وإذا هي تذوي هشيماً وقد كانت من قبل ملء العين نوراً وملء الجو عطراً، وإذا هي في ذبولها أشد ما تكون فتنة وسحراً

ألا فليحلِّل الأستاذ أحمد أمين هذه القبلات الملتهبة التي لم يكن ليطبعها رفائيل إلا على يدي جوليا، وعلى يدها فحسب

أفلا يجد أن فيها - على أنها ذوب القلب، وعصارة الروح - من الإعجاب أكثر ما فيها من الحب، ومن التحفظ فوق ما فيها من الرغبة، ومن معاني الكبت للنزعات الملحة ما يعد مثلاً أعلى يضرب في الأخلاق لأبناء الأرض؟ إنها انتصار الخلق في شفتين ألهبهما الغرام، وأرمضهما الظمأ والسغب. . ليحلل الأستاذ هذه القبلات؛ وليذكر أن هذا الحب - على عنفه - لم يجر إلى معصيته، وأن هذا المحب - على فتوته - عف ولم يسف.

وأما فرتر. . .

يأخذ الأستاذ أحمد أمين على فرتر أنها تنتهي بانتحار فظيع. ذلك هو - عنده - موضع الضعف في القصة لناحيتها الأخلاقية.

وإنني لأربأ بفهم الأستاذ وعلمه أن يجد في موضع القوة ضعفاً وفي محاسن القصة شر المساوئ

لقد هام فرتر هياماً عنيفاً، ولا نزاع في أن هذا الهيام خطر شديد الخطر - بالقياس إلى الكثيرين من الشباب العاديين في نفوسهم وأعصابهم وعقليتهم - فهو إذن إسراف وخطيئة على رغم طهره وصدقه. إذن على هذا النحو يكون الانتحار ثمرة الخطيئة؛ وإذن تكون الخطيئة في القصة قد عوقبت

وهذا هو يا أستاذي كل ما يريده الأخلاقيون

هناك من يقول: إن القصة تحمل الشباب على الانتحار وترغبهم فيه. ودليلهم على ذلك أن عدداً وافراً من الشباب انتحروا في الغرب عند قراءته

والواقع أن الذنب ذنب العصر والمكان، وبرهاني على هذا أنه لم نر الآن في الشرق والغرب من انتحر من الشباب بعد قراءة فرتر، ولقد ترجم إلى العربية كما يقول الزيات منذ ثمانية عشر عاماً وأعيد طبعه سبع مرات، وقرأه كل مثقف في بلاد العروبة، ولم نسمع أن حادثة من حوادث الانتحار قد وقعت بسببه

وهاهو ذا اليوم (يقرأ ويدرس ويمثل في الملاعب ويغني في دور الموسيقى دون أن يحدث من سوء الأثر وقبح العاقبة ما أحدثه في ذلك العصر يوم ظهوره)

يقول الدكتور طه حسين: (لقد أساء بعض الشبان ذوي النفوس المريضة فهمه والاستفادة منه، لأن ظروف الحياة الاجتماعية كانت من الشدة والضيق في أوربا بحيث تجعل نفوس كثير من الناس ضعيفة رخوة، وخانعة مستسلمة، لا تستطيع مقاومة ولا احتمالاً. وأما اليوم فالظروف الاجتماعية التي ملأت نفوس الأوربيين سأماً ومللاً في أوائل القرن التاسع عشر قد انقضت واستحالت وأصبح الناس وقد ملاهم الأمل، وملكتهم الرغبة في الحياة وما فيها من لذة ونعيم، لهذا لم بيق من هذا الكتاب إلا أثره النافع، وهو عظيم جليل الخطر)

ولنفرض أن في رفائيل وفرتر بعض ما لا يرضي الناس، فهل من الأصوب في هذه الحال أن نبعدهما عن أيدي الناشئة أم نقربهما؟ إن الأستاذ أحمد أمين - كما يفهم من قوله - يرى أن خير سبيل إلى حفظ الناشئة من الرذيلة أن يخفي عنهم خطيئات الآخرين، وأن نلقي في روعهم أن ليس في هذا العالم خطايا ولا مخطئون

ليسمح لي الأستاذ أن أقول إنه ليس هناك أخطر على الشباب من هذا الأسلوب من أساليب التربية

إن الطبيعة هي التي تلقننا أبجدية الخطيئة تلقيناً، والطلاب أخذوا عن الطبيعة تلك الدروس، درساً درساً، بل فقرة فقرة؛ وهم تدبروها وتفهموها فامتلأت بها نفوسهم، وصبت إليها قلوبهم، وكلفوا بها كلفاً لا قبل لهم برده. فما الذنب ذنب غوته ولامارتين وغيرهما من أعلام الفن الوجداني الرفيع، وإنما هو ذنب الطبيعة نفسها

فإذا كنت تريد لناشئنا فضيلة وتقوى فأطلعهم على خطيئات لامرتين. افتح لهم أبواب الحياة الواقعية، ولا تخش عليهم بعد هذا بأساً ولا عثاراً؛ فالطبيعة التي أوجدت الخطيئة، جعلت لكل خطيئة في الحياة الواقعية قصاصها، وحاطتها بالعفن والنتن فهي مكروهة حتى من الملوثين بها! وهذا وحده كاف لأن يعرفوا الشر ويتجنبوه. قيل لعمر رضي الله عنه ما معناه: (يا أمير المؤمنين، إن هذا الرجل يقوم ليله، ويتعبد نهاره، ويتقي الله حق تقاته. حتى لكأنه لا يدري ما هو الشر ولا كيف يكون!. .) فأبتسم العبقري العليم بحقائق الحياة، وطبائع النفوس وقال: (إذن هو أحرى أن يقع في الشر لأنه لا يعرفه!)

ورحم الله شاعرنا أبا فراس فقد قال:

عرفت الشر لا للشر ... لكن لتوقيه

فمن لا يعرف الشر ... من الناس يقعْ فيه

فالخير كل الخير يا أستاذ أن تأخذ بأيدي شبابك لتريهم - تحت رقابة ذكية فطنة - بؤر الخطايا حيث ينتشر النتن، ويمتد العفن ببهرجها الزائف، وتهاويلها المغرية، وسيتعلمون - على الأقل - كيف يتقون الأشواك حين يمدون يدهم لقطف وردها.

والمناعة ضد الخطيئة، هي في اطلاعهم على عواقبها وعقابها، كما أن المناعة ضد البرد لا تكون في التدفئة - بل إن التدفئة تهيئ للإصابة به - وإنما هي في التعود على التعرض له

أليس من الخير أن يعلموا كيف يرتفع الشباب عن السفاسف والميول الأرضية، وكيف يطهر نفساً وينبل قلباً

أليس من الخير أن نحمل إليهم بأيدينا هذه الكتب الفنية الرفيعة بدل أن تدفعهم وساوس الشيطان إلى ملء ساعات فراغهم ودرسهم بقراءة المجلات الساقطة والروايات الخليعة التي تتملق الذوق العام، فتوغر الميول، وتثير الأهواء، وتوجهها إلى سبيل محفوف بالمكاره والأخطار؟

إن في رفائيل وفرتر وغيرهما من كتب الأدب العاطفي الرقيق الرفيع ترفيهاً عن نفوسهم وتنفيساً لها؛ ولهم فيها - فوق هذا وذاك - مثل في الأخلاق تحس كل نفس الإعجاب بها، وهم يجدون في هذا الترفيه وهذا التنفيس متعة القلب وراحة النفس

يقولون إن في الانتحار في الأمم الكاثوليكية هو أقل منه في الأمم الأخرى. وتعليل هذه الظاهرة عند علماء النفس والاجتماع أن في اعتراف الآثم لكاهنه، ترفيهاً عن نفسه، وتنفيساً عنها. وهذا الاعتراف هو أشبه شيء بمفتاح البخار يفتحه سائق القطار إذا ثقل تكاثف البخار ليخفف الضغط، ورفائيل وفرتر وغيرهما اعتراف نابغين إلى القارئ، وقراءتهما هي اعتراف القارئ إلى نابغين ملهمين

أذكر أنني قرأت رفائيل في الخامسة عشرة، وفي السادسة عشرة قرأت فرتر

وإنها لسانحة سعيدة تسنح لي الآن. أعترف فيها بكثير من الغبطة ورضى الضمير، أنني مدين بفضيلتي - إن كان فيَّ فضيلة وتقوى - إلى غوته ولامارتين والزيات. نعم يا أستاذ احمد أمين إلى غوته ولامارتين والزيات. أعترف فوق هذا أنها كانت ساعة من ساعات حياتي المشهودة المذكورة لها خطرها في حسن توجيه ميولي ونظري وفكري، تلك التي عثرت فيها - في هذه السن الخطرة - على رفائيل وفرتر

(حمص، سورية)

ماجد الأتاسي