مجلة الرسالة/العدد 274/التاريخ في سير أبطاله

مجلة الرسالة/العدد 274/التاريخ في سير أبطاله

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 10 - 1938



إبراهام لنكولن

هدية الأحراج إلى عالم المدنية

للأستاذ محمود الخفيف

يا شباب الوادي خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من

سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .

- 23 -

وإنه ليحق للمرء أن يتسأل: ألم يكن في طاقة القائمين بالأمر يومئذ تجنب تلك الحرب الضروس؛ تلك الفتنة التي لم تصب أوزارها فريقاً دون فريق؟

إن هناك من يعتقدون أنهم قادرين على تجنب ذلك الصراع العنيف، وهؤلاء ومن يرى رأيهم من المؤرخين يأخذون الساسة باللوم الشديد، لا يعفون منهم أحداً؛ ويجعلون نصيب كل من اللوم على قدر ما تواتي له من الجاه والنفوذ؛ ولذلك فقد كان لنكولن عندهم أول الملومين وكبير المسؤولين عن ويلات تلك الحرب وبلى لنكولن في ذلك جفرسون زعيم الاتحاد الجنوبي

ولكن الذين يتوخون الأنصاف يرون أن الحرب كانت أمراً لا محيص عنه؛ كان مردها إلى حركة ولدتها الأيام فما زالت تنمو حتى اتخذت آخر الأمر سبيلاً لم يكن في الإمكان أن تسلك غيرها، لم تكن تلك السبيل لتؤدي إلى غير ما أدت إليه من نهاية دامية؛ ومن ذا الذي يستطيع أن يلوي الأيام عن وجهها؛ أو أن يتصرف في الحادثات ليجعلها تفضي إلى نتيجة بعينها؟

لقد كان للزمن وللبيئة حكمها الذي لا ينقض وفعلها الذي لا يقف وسنتها التي لا تبديل لها؛ فهؤلاء أهل الشمال كانوا كما ذكرنا أهل صناعة وأهل ثقافة بينما كان إخوانهم في الجنوب أهل زراعة، ولم يك يتوفر لهؤلاء من العلم مثل ما كان يتوفر منه لأولئك الشماليين

وكانت أعمال الزراعة في الجنوب تتطلب الأيدي الكثيرة، وبخاصة حينما بدأت النهضة الصناعية وتزايد طلب القطن، وكانت زراعة القطن أمراً مرهقاً، لم ير الجنوبيون خيراً من إلقائه على كاهل العبيد؛ ولذلك كان نظام العبيد عندهم أمراً يتعلق بكيانهم ومن ثم كانت سياستهم تدور على هذا المحور الاقتصادي، فكانت بذلك مسألة حياة أو موت. . .

أما أهل الشمال فلم تكن بهم حاجة إلى الزنوج، وما كانوا يستخدمون عندهم في أغلب الأحيان إلا خداماً في المنازل؛ وأملت عليهم ثقافتهم فلسفة إنسانية فكرهوا نظام العبيد واشمأزت منه نفوسهم ودارت سياستهم أول الأمر على هذا المحور الإنساني فكانت بذلك في نشأتها مسألة عاطفية

على أنه كان للمسألة وجه أخر فقد اعتبر عدد العبيد من عدد سكان الولايات عند تقدير عددها للتمثيل النيابي في المجلس التشريعي الأدنى كما نص الدستور، وعلى ذلك فقد أشفق أهل الشمال من تزايد عدد العبيد في الولايات، الأمر الذي يتهدد نفوذهم

وتطورت بعد ذلك مسألة العبيد على النحو الذي أسلفناه، فتزايدت كراهية الكثيرين من الشماليين لذلك النظام حتى تحولت إلى مقت، وظهر من بينهم دعاة إلى التحرير؛ وما زال يعظم خطر تلك المسألة حتى باتت كبرى المسائل

وولد الحزب الجمهوري فكانت مبادئه وسطاً بين مبدأ الجامدين ومبدأ أنصار التحرير، فهو يرى ألا تزداد ولايات العبيد حتى ينقرض ذلك النظام على مر الأيام. ولقد كان إبراهام من زعماء ذلك الحزب الوليد، وهو وإن كان من أشد الناس سخطاً على نظام العبيد إلا أنه آثر الحكمة خوفاً على بنيان الاتحاد؛ فبقاء الاتحاد عنده في المحل الأول من اهتمامه

ولكن مسألة الاتحاد ومسألة العبيد ما لبثتا أن تداخلتا حتى أصبحتا في الواقع مسألة واحدة؛ فلقد فكر أهل الجنوب في الانسحاب من الاتحاد حينما اختير إبراهام للرياسة وحينما أيقنوا أن الحوادث مفضية إلى القضاء على العبودية، وما كانوا يريدون من الانسحاب إلا أن يزيدوا عدد العبيد كما يشاءون. . .

وأنكر إبراهام عليهم حقهم في الانسحاب؛ فهو لن يبخل بشيء في سبيل المحافظة على الوحدة؛ ولكنهم مضوا في سبيلهم لا يلوون على شيء ولا يستمعون إلى رأي؛ حتى نفذوا ما اعتزموه ثم عولوا على أن يجمعوا أنفسهم بالقوة إذا أدت الحوادث إلى ذلك

وكان جيفرسون زعيمهم يقرر حق الولايات في الانسحاب متى أرادت، بينما كان لنكولن يقول: إن مثل الولاية من الاتحاد كمثل قسم من الولاية من هيكلها، فإذا جاز لهذا القسم أن ينفصل عن جسم الولاية، جاز للولاية أن تنفصل عن الاتحاد

وجاءت بعد ذلك مسألة حصن سمتر فكانت بمثابة الشرارة التي أوقدت نار الحرب. . . ولقد عدت تلك الحرب من المآسي البشرية، ذلك لأنها كلفت الفريقين كثيراً من الأموال والأنفس؛ فلقد استحرَّت جذوتها لأن الفئتين كانتا كلتاهما ترى الحق في جانبها. . . وكانت الدماء التي تجري دماء شعب واحد فكل قاتل ومقتول إنما هما صورة جديدة لقابيل وأخيه هابيل

وقفت أمة واحة فئتين تقتتلان؛ فهنا الوحدة والحرية، وهناك الفرقة والعبودية، وهنا وهناك الكثير من مواقف الحماسة والتضحية، يضيع في حميتها وضجيجها صوت الحق ويتبدد دعاء الإنسانية. . .

وكانت أولى المعارك الكبيرة معركة نشبت في فرجينيا بعد ثلاثة أشهر من سقوط سمتر عرفت باسم بول رن. . . وبيان خبرها أن جنود الاتحاد التقوا بجموع الثائرين، وكانت الحماسة والاستبسال هي كل ما لدى هؤلاء المتطوعين من عدة، وكان لأهل الجنوب وإن كان معظمهم من المتطوعين أيضاً، قواد مدربون كانوا قبل في الجيش النظامي للبلاد وتسللوا منه إلى الجنوب حين تفرقت الكلمة!

وتبين أول الأمر أن النصر في جانب الشماليين، ولكن ما لبثت موجتهم أن انحسرت، ثم ولوا بعدها هاربين على صورة منكرة، تبعث على الرثاء حتى لقد قيل إن بعض الفارين لم يقفوا عن العدو حتى دخلوا منازلهم في وشنجطن

ودخلت فلول المنهزمين المدينة في حال شديدة من الذعر والهلع وطافت بالناس الشائعات أن المدينة واقعة في أيدي الجنوبيين، فألقي الرعب في قلوب السكان وبخاصة حينما وقعت أعينهم على أكثر من ألف من الجرحى؛ وحينما علموا أنه قد قتل في هذا اللقاء الأول أربعمائة وخمسون. . .

ولو أن أهل الجنوب تقدموا غداة انتصارهم لأخذوا المدينة ما في ذلك شك، ولكنهم نكصوا ورضوا من الغنيمة بفرار خصومهم على هذا النحو، وحسبوا أنهم بعد ذلك أحرار فيما يفعلون فلا خوف عليهم من أهل الشمال؛ ثم أنهم منذ خيل إليهم أن عدد أعدائهم يبلغ خمسين ألفاً أو يزيدون مع أنهم لم يتجاوزوا ثمانية عشر ألفاً

وكثيراً ما يكون التاريخ في تطوره رهيناً بحادث بسيط، ومن أروع الأمثلة على ذلك وقوف أهل الجنوب عن الزحف على وشنجطون؛ ولو أنهم فعلوا لكان للولايات المتحدة وجود غير هذا الوجود وتاريخ غير هذا التاريخ

وكذلك كان يتغير وجه التاريخ لو أن القنوط يومئذ تمكن من نفوس الناس؛ ولولا أن كان على رأسهم إبراهام لذهبت ريحهم وخارت عزائمهم وتفرقت كلمتهم. فلقد صمد ذلك الصنديد للنبأ شأنه في كل ما مر به من الحادثات، ولئن ابتأس للهزيمة وتحسر على الفشل في أول لقاء علق عليه الكثير من آماله، لقد صبر وصمم ألا غنى عن الجهاد مهما يبلغ من هول الجهاد. . .

وسرعان ما سرت روح أبن الغابة في الناس، فعادت إليهم ثقتهم بأنفسهم، وازدادوا حماسة على حماسة حتى ما يقر لهم قرار بعد اليوم حتى يغسلوا عن أنفسهم هذه الإهانة الجديدة وينصرون حقهم على باطل أعدائهم

ولقد استطاعت قوة الشماليين البحرية بعد ذلك أن تستولي على حصنين على الساحل في موانئ أهل الجنوب، كما استطاع القائد ماكليلان أن يفصل بقوته البرية الجزء الغربي من فرجينيا عن جزئها الشرقي ويضمه إلى الاتحاد، وكان أكثر أهله ممن يرفضون الانسحاب فكان ذلك رداً على الهزيمة في معركة بول زن

وكان لنكولن قد دعا المؤتمر ليشاور ممثلي الأمة في الأمر وليطلعهم على الموقف من جميع نواحيه، ولقد بعث لنكولن إلى المؤتمر برسالة كانت من خير ما كتب من الرسائل، تناول فيها كل ما يهم الناس يومئذ معرفته

بدأ لنكولن يسرد الحوادث حتى انتهى إلى موقف أهل الجنوب فذكر أنهم وضعوا البلاد بين أمرين فإما الحرب وإما تفكك الاتحاد. . . ثم قال إن الأمر لا يقف عند هذه الولايات المتحدة، بل إنه ليتعداه إلى مبدأ عام هو مبلغ نجاح الحكومات الديمقراطية القائمة على إرادة الشعب

ولقد كان لنكولن جد موفق في إشارته هذه إلى ذلك المبدأ العام، كما كان يصدر في ذلك عن طبع، فهو من أنصار الحرية ومن كبار العاملين على سيادة الشعب وتكلم الرئيس عن الولايات الوسطى التي تظاهرت بالحياد فقال: (إنها تقيم سداً لا يجوز اختراقه على الحد الفاصل بيننا، ومع ذلك فليس هو بالسد الذي لا يخترق فإنها تحت ستار الحياد تغل أيدي رجال الاتحاد بينما هي تبيح الطريق في غير تحرج للإمداد ترسل من بينهم إلى الثوار، الأمر الذي كانت تستطيع فعله أمام عدو صريح)

ورد الرئيس على دعوى جفرسون دافيز زعيم الولايات الجنوبية الذي يقول إن مبدأ انسحاب الولايات حق يبيح القانون الحرب من أجله. ولقد اعتبر الرئيس هذه الدعوى من لغو الكلام قال: (إن الستار الذي يتسترون وراءه وهو أن ذلك الحق المزعوم لا يستعمل إلا مع وجود مبرر عادل، بلغ من الرقة حداً لا يستحق معه أية ملاحظة، وهم سيكونون الحكم في عدالة ذلك المبرر أو عدم عدالته)

وكان رد الرئيس على جيفرسون من الخطوات التي ارتاح لها أهل الشمال فلقد أشفقوا أن تجد مزاعم جيفرسون سبيلها إلى قلوب الأغرار والإغفال

ثم أهاب الرئيس بالمؤتمر أن يمده بالمال والرجال فهو في حاجة إلى أربعمائة مليون من الدولارات. وأربعمائة ألف من الرجال؛ وسرعان ما أجابه المؤتمر إلى ما طلب في حماسة جعلته يزيد العدد في المال والرجال عما حدده الرئيس. . .

وأيقن الناس في طول البلاد وعرضها، وقد رأوا من صلابة الرئيس وعزمه ما رأوا، أن الحرب سيطول أمدها، فتألفت في البلاد كلها جماعات للنجدة حتى لكأنما نسى الناس أموالهم الخاصة فليس ما يشغل أذهانهم ويستدعي جدهم ونشاطهم إلا هذه الحرب

ولقد تغلغلت تلك الروح في جميع الطبقات: الكوخ والقصر في ذلك سواء، والقرية الحقيرة لا تفترق فيه عن المدينة العظيمة، وأصبح النشيد الذي يتردد على كل لسان ذلك الذي جُعل مطلعه (نحن قادمون إليك يا أبانا إبراهام ستة آلاف من الأشداء. . . نحن قادمون. . .)

والرئيس لا يعرف الراحة ولا يذوق طعمها. يصل إلى مكتبه في الصباح الباكر قبل أن يطرق البيت الأبيض أحد، ويظل هناك حتى يهبط الليل فيقضي طرفاً منه بين أوراقه. . . وامرأته تضيق بذلك وتعلن إليه غضبها، ولكنه في شغل عنها بما هو فيه من عظيمات الأمور، وأنى له في مثل ذلك الموقف بلحظة من هدوء البال. . .

(يتبع) الخفيف