مجلة الرسالة/العدد 275/في مصر الإسلامية
مجلة الرسالة/العدد 275/في مصر الإسلامية
تنازع البقاء بين العلوية والعثمانية
للدكتور حسن إبراهيم حسن
الأستاذ بكلية الآداب
كان من العوامل الخارجية التي نازعت سلطان العلويين في مصر وجود حزب الأمويين في الشام، وعلى رأسه معاوية أبن أبي سفيان الذي أخذ يعمل على سلخ مصر من علي بن أبي طالب. وسار معاوية إلى هذه البلاد ونزل بسلْمنْت من كورة عين شمس (في شوال 36 هـ)، فخرج إليه أبن أبي حذيفة وأنصاره ليمنعوه، فبعث إليه معاوية يخبره أنه لا يريد قتالاً وإنما يريد أن يدفع إليه رؤوس قتلة عثمان، فأبى ذلك عليه، فبعث معاوية يطلب إليه تبادل الرهائن والودائع، كي يضمنوا جميعاً أن يكف الفريقان عن الحرب، فقبل ذلك أبن أبي حذيفة.
ولعل أبن أبي حذيفة لم يفطن إلى ما كان يرمي إليه معاوية، وأن هذا الطلب لم يكن في حقيقة الأمر إلا مكيدة حاك شراكها دهاؤه، فاستخلف على مصر رجلا من أنصاره، وهو الحكم بن الصلت، وخرج في الرهن هو وغيره من قتلة عثمان، ثم سجنهم معاوية في (لدّ) من أرض فلسطين، وسار إلى دمشق، فهربوا من سجنهم، إلا واحداً أبى الفرار، فتعقبهم عامل معاوية وقتلهم، وكان من بين القتلى محمد بن أبي حذيفة. (ذو الحجة 36 هـ) وذلك بعد مقتل عثمان بسنة كاملة
ولسنا ندري كيف يعلل خروج أبي حذيفة، وهو رأس شيعة عليّ في مصر وغيره من أنصار العلويين وزجه بنفسه في مغامر هذا الرهن. بيد أن المصدر التاريخي الذي نعوّل عليه في هذه المسألة وهو كتاب (الولاة) للكندي (350 هـ) أقدم مؤرخي مصر بعد أبن عبد الحكم (وعنه أخذ غيره من المؤرخين المتأخرين، وأهمهم أبن دقماق والمقريزي وأبو المحاسن والسيوطي) لم يذكر لنا السبب الذي حدا بابن أبي حذيفة وأنصاره إلى الذهاب في الرهن، بل ولم تذكر المراجع كلمة واحدة عن رجال معاوية الذين دخلوا في هذا الرهن، الذي لم يكن في حقيقة الأمر - إن كان قد وجد فعلاً - على قدم المساواة بين الفريقين المتخاصمين.
وقد يكون معاوية رأى أنه مع استطاعته فتح مصر أن الوقت لم يحن بعد لهذا الأمر، إذ لا بد له من الاحتفاظ بقوة كبيرة لمنع مناوأة العلويين، لأن جميع أهل مصر بايعوا أبن أبي حذيفة إلا نفراً يسيراً انتصروا لعثمان، فعول معاوية على استئصال شافة رءوس قتلة عثمان ليتمكن من حرب علي ثم يستولي على مصر متى تهيأت له الفرصة بعد أن يوقع بجيش علي.
وبعيد جداً أن يكون أبن أبي حذيفة قد اضطر إلى قبول طلب معاوية، لأن الرجل لم يبال بخصمه. يدلل على ذلك أن معاوية لماّ بعث إلى ابن أبي حذيفة يطلب منه أن يدفع إليه عبد الرحمن بن عديس وكنانة بن بشر وهما رأس قتلة عثمان امتنع أبن أبي حذيفة وقال: لو طلبت منا جدياً رطب السرة بعثمان ما دفعناه إليك) وهذا يحملنا على الظن بأن معاوية لجأ إلى هذه الحيلة حين لم تجد جهوده الحربية مع أبن أبي حذيفة نفعاً.
ولما بلغ علياً قتلُ أبن أبي حذيفة ولى مصر قيس أبن عبادة الأنصاري، فدخلها في ربيع الأول 37 هـ، وكان من أهل الرأي والبأس، واستمال إليه العثمانية المقيمين بخُرْبتا (شرقي الدلتا) وأحسن إليهم، وكان أهل مصر إلا هؤلاء (وعددهم زهاء عشرة آلاف) مع عليّ بن أبي طالب.
وقد حاول معاوية وعمرو بن العاص التغلب على مصر، فأمتنع قيس هذا على معاوية، فلم يكن بدٌ إذاً من إعمال الحيلة لإخراجه، فأذاع معاوية أن قيساًُ من شيعة عثمان وأن كتبه تأتيه. فلما سمع عليّ بذلك، أمر قيساً بمحاربة العثمانيين بخربنا، فأجابه بأنه أمّنَهم على أنفسهم ليأمن جانبهم، لأن فيهم كثيرين من وجوه أهل مصر وأشرافهم، فعزله عليّ ووليّ مكانه الأشتر بن مالك لأنه ثقل عليه، فأبعده عنه.
على أن والي مصر الجديد لم يكد يصل الفلزم (وهي السويس الحالية) حتى شرب شربة من العسل لا يبعد أن يكون قد دُس له فيها السمْ فمات، فولى مصر بعده محمد بن أبي بكر، فأظهر الخيلاء وأساء إلى العثمانية، وبعث إلى رأسهم معاوية بن حُدَيْج يدعوه إلى بيعة عليّ، فلم يجبه إلى طلبه، فهدم دورهم، ونهب أموالهم، وآذى أولادهم، وحبسهم؛ فعوّلوا على حربه، ولكن أبن أبي بكر رأى أن يتلافى ما قد يجرّه الاشتباك في حرب معهم فصالحهم، ثم سيرهم إلى معاوية فبقوا هناك إلى أن انتهت موقعة صفين وعقدة التحكيم.
ولم يكن معاوية بالذي يَفْتُر عن استخلاص مصر وانتزاعها من علي. وزحف عمرو بن العاص على رأس جيش من أهل الشام، وحَميَ القتال بين الفريقين، فوقعت الهزيمة على أهل مصر، ودخل عمرو الفسطاط واختفى محمد بن أبي بكر، فبعث معاويةُ بنُ حديج عدوُّه القديم العيون والأرصاد، حتى اهتدوا إلى مكانه، فقتله أبنُ حديج ثم جعله في جيفة حمار، واحرقه بالنار وكان ذلك في صفر سنة 38 هـ.
وبذلك خلصت مصر لمعاوية، فولاها عمرو بن العاص ولاية مطلقة، وجعلها له طعمة بعد النفقة على جندها، وما تحتاج إليه من ضروب الإصلاح. ولما قتل عليّ بن أبي طالب سنة 40 هـ، وتحولت الخلافة إلى بني أمية، أصبحت الأجناد وأهل الشوكة في مصر شيعة عثمان، بيد أن بقية المصريين ظلّوا يشايعون على بن أبي طالب وأهل بيته، فظل العداء قائماً بين الحزبين في هذه البلاد (وفي غيرها) طوال عهد الأمويين، وفي الصدر الأول من أيام العباسيين.
حسن إبراهيم حسن