مجلة الرسالة/العدد 275/من مشاكل التاريخ

مجلة الرسالة/العدد 275/من مشاكل التاريخ

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 10 - 1938



مكتبة الإسكندرية

تأسيسها ورواية إحراقها

للأستاذ خليل جمعة الطوال

تنزع بعض الأقلام عن جادة الصواب إلى هوة التغرض والتشيع، وتساق إليها بتهور عاطفة أصحابها، وانحيازهم معها إذا يكتبون مائلين إلى الناحية التي تكمن فيها أغراضهم الذاتية، وأهوائهم القومية والعنصرية. والعلم متى اصطبغ بالتشيع، وتلون بالتغرض، ومال حيث تميل العاطفة، فسد وصار باطلاً مفتعلاً، وهراء مبتذلاً. ومن نكبة العلم أن تقوم فئة من المؤرخين المتشيعين، فتعلن عدائها للعرب، وتروح بدافع هذه العداوة تشوه وجه تاريخهم المشرق بشتى الوسائل والسبل؛ آناً بالوضع والاختلاق، وحيناً بسوء التفسير والتأويل، حتى نفثت فيه من سمومها كل ما ينتقص جليل قدرهم، وينال جميل سمعتهم، ويضع من عالي مكانتهم، وذلك شفاء لغيظ نفوسها، وإطفاء لحزازات صدورها. ومن هذه السموم والأباطيل ما يروج له بعضهم من أن الفاروق هو الذي أمر بإحراق خزانة الإسكندرية على حين قد أثبت المنصفون إنها قد أحرقت قبل الفتح الإسلامي

تأسيس هذه المكتبة

لم يكد الإسكندر المقدوني يعبر البحر إلى أسيا، ويمعن في أقطارها فتحاً واستعماراً، ويستولي فيها على إرث ملوك الفراعنة والبابليين والآشوريين والفرس، حتى أخذ يستفيد من حضارات ومدنيات وعلوم وآداب هذه الأمم المغلوبة على أمرها، فسعى في نقل ما في خزائنها إلى اللسان اليوناني والقبطي وأرسله إلى مصر. فقد ذكر أبن النديم في كتابه الفهرست ص 329 ما نصه: (أن الإسكندر لما فتح عاصمة الفرس (أصطخر) نسخ جميع ما في خزائنها من الكتب إلى اللسان اليوناني والقبطي، وبعث بها وبسائر ما أصاب من العلوم والأموال والخزائن والعلماء إلى مصر)

وفي عام 323 ق. م. توفي الإسكندر فكأنما كان موته ريحاً زعزعاً، بدد شمل تلك الإمبراطورية التي أقام بنيانها، وأسس دعائمها، إذ اقتسمها قواده من بعده، فأختل النظام، واضطرب حبل الأمور، وعمت الفوضى وكثرت المظالم، فرحل معظم علماء اليونان عن بلادهم إلى مصر والشام والعراق، حاملين معهم نتائج قرائحم، وخصب عقولهم، فأنشئوا المدارس في الإسكندرية وإنطاكية وبيروت، وكانت الإسكندرية إذ ذاك تحت حكم البطالسة، وكان سوتر أول ملوكهم عادلاً محباً للعلم والعلماء، فتوجهت إليها الأنظار، وتوافدت عليها العلماء والأدباء والفلاسفة، أفواجاً أفواجاً، حتى غصت بهم مدارسها ودورها وأنديتها. فتقرب إليهم سوتر، وأدناهم من بلاطه، وأغدق عليهم منحه عطاياه، فكان ذلك مشجعاً لهم على مواصلة البحث والدرس والتأليف، فأصبحت الإسكندرية بفضل سياسته قبلة المتأدبين، ومثابة العلماء يحجون إليها من مختلف الأقطار، ويجدون فيها من أسباب اليسر والرخاء ما ينصرفون معه إلى مواصلة دروسهم والانقطاع إليها

ويروي لنا التاريخ أن خطيباً أثينياً أسمه ديمتريوس فاليروس كان قد أشار على سوتر بإنشاء مكتبة يجمع إليها الكتب من مختلف أنحاء الدنيا، فقبل مشورته، وعهد إليه بذلك، فأخذ فاليروس يجمع الكتب ويبتاعها من تجار بغالي الأثمان، فجمع منها في مدة وجيزة (54 ألف كتاب)، فكون منها مكتبة الإسكندرية الشهيرة التي عبثت بها الأيام فيما عبثت، وقد كانت تحتوي على الكتب التي بعث بها الإسكندر من اصطخر وغيرها إلى مصر، ثم أنشأ سوتر المتحف أو النادي على شكل مدارس أوربا، ويعرف في التاريخ باسم مدرسة الإسكندرية الشهيرة

وفي عام 285 ق. م. تولى عرش البطالسة بطلوماوس فيلاذلفوس، وكان كسلفه محباً للعلم مشجعاً له، فعمل على توسيع هذه المكتبة، وأضاف لها من كتب علوم اليونان وغيرهم ما لم يكن موجوداً فيها، وابتاع لها الكتب التي كانت موجودة عند أرسطو، وكثيراً من مؤلفات اليهود والمصريين القدماء

ومن المؤرخين من ينسب فكرة تأسيس هذه المكتبة إلى بطلوماوس لا إلى سوتر، فقد ذكر أبن النديم في كتابه الفهرست ص 239 رواية عن إنشاء هذه المكتبة لرجل يدعى اسحق الراهب وإليك نصها: (إن بطلوماوس فيلاذلفوس من ملوك الإسكندرية لما ملك فحص عن كتب العلم وولى أمرها رجلاً يدعى بذميرة فجمع من ذلك على ما حكي أربعة وخمسين ألف كتاب ومائة وعشرين كتاباً، وقال له: أيها الملك قد بقي في الدنيا شيء كثير في السند والهند وفارس وجرجان والأرمان وبابل والموصل وعند الروم)

وفي دار الكتب المصرية نسخة خطية من كتاب تراجم الحكماء لوزير حلب المعروف بالقفطي، وتحتوي على نفس عبارة الفهرست عن تاريخ هذه المكتبة ومؤسسها. على أن الثابت من إجماع آراء المؤرخين والمستشرقين هو أن المؤسس لهذه المكتبة هو سوتر لا بطلوماوس، فقد جاء هذا فعمل على توسيعها، ثم خلفه بطليموس أورجينوس عام 247 ق. م. فأضاف إليها كثيراً من كتب الأدب والشعر والتمثيل مما وجده في خزائن أثينا. ويروى أنه فرض على كل من يقيم في الإسكندرية أو يمر بها من رجال العلم أن يقدم للمكتبة نسخة من كل كتاب يملكه، فزهت الإسكندرية بذلك ونبغ فيها من العلماء عدد كبير

وما زال أمر هذه المكتبة في تقدم مطرد وازدياد عظيم، فقد ذكر بطلر نقلاً عن أميانوس مارسلينوس أنها بلغت سبعمائة ألف مجلد. وذكر العالم أكبر سيم أنها قد قسمت إلى شطرين ووضع الشطر الثاني منها في معبد سيرابيس

وفي عام 47 ق. م. حوصر (يوليوس) قيصر الروم بالإسكندرية فأحرقت جنوده قسماً من هذه المكتبة عن غير قصد

ولما تولى الإمبراطور تودوسيوس أصدر أمراً بتحريض جماعة من المتعصبين للمسيحية بالقضاء على جميع المعابد الوثنية وجعل عاليها سافلها فنال هذه المكتبة العظيمة من جراء ذلك ضرر جسيم

وفي عهد الإمبراطور طيودوس منعت الآداب والفلسفة اليونانية منعاً تاماً بأمر الأسقف تيوفيل، وبأمره أيضاً دمرت السيرابيوم عام 391 م. وبنى على أنقاضها كنيسة أو جملة كنائس ولم يبق من هذه الدار إلا بعض الجدران، كما ذكر سيديو (ج 1 ص 155)، وذكر أيضاً أن الكتب الوثنية التي كانت بالسيرابيوم قد أحرقت كلها، وأما الكتب العلمية فإنها حملت إلى القسطنطينية ثم تطاولت الأيدي إلى هيكل (سرابيس) فدمرته وأحرقته في الحال هو وجميع محتوياته والكتب التي كانت فيه.

وهكذا تكون هذه المكتبة قد دمرت وأحرقت غير مرة بأمر قياصرة وبطارقة الروم. وقد تلاشت قبل الفتح الإسلامي بمدة طويلة. ومن المؤرخين من يزعم أنها أحرقت دفعة واحدة، فقد ذكر بطلر نقلاً عن (مبالوس مارسلينوس) أن السبعمائة ألف مجلد التي كانت تحتوي عليها مكتبة الإسكندرية قد أتلفت إتلافاً تاماً حين حوصر يوليوس بالإسكندرية.

ومهما يكن من أمر الخلاف حول عدد مرات حريق هذه المكتبة العظيمة فأن الآراء جميعها متفقة على أنها قد تلاشت قبل الفتح الإسلامي بقرنين، وإنه لم يكن في الإسكندرية حين الفتح العربي ما يحرق من الكتب.

وحوالي عام 414 م. زار أورازيوس الإسكندرية وذكر إنه وجد رفوف هذه المكتبة خالية من الكتب، وفي ذلك أكبر دليل على تبرئة العرب من هذه التهمة الشنيعة التي حملت عليهم زوراً.

شهادات المستشرقين

ونود بعد الذي فصلناه في هذه الكلمة العجلى أن ندلي بشهادات بعض المحققين المستشرقين في الموضوع:

قال مسبرك في كتابه (الادعاءات الكاذبة): (إن الإفرنج هم الذين أحرقوا خزانة الإسكندرية). وقال بونه موري في كتابه الإسلام والنصرانية نقلاً عن فوت واهلويلر في كتابهما (جنايات الأوربيين) إن تيوفيل هو الذي أحرق خزانة الإسكندرية لا المسلمين، لأن الدين الإسلامي لا يبيح إحراق الكتب.

وقال غريفيني من علماء المشرقيات في إيطاليا: بعد أن فتح عمرو بن العاص الإسكندرية مرت ستة قرون كاملة لم يسمع خلالها قول لمؤرخ مسلم أو غير مسلم يتعرض لاتهام عمرو بن العاص بإحراق خزانة الإسكندرية. وينقض هذه التهمة ما اشتهر به عمرو من سياسة اللين والتساهل التي جرى عليها وشهد له بها أشهر المؤرخين النصارى الذين كانوا في عهده، كيوحنا النيقيوسي في كتابه تاريخ مصر الذي وضعه باللغة الحبشية القديمة.

وقال بونه موري أيضاً: يجب أن نصحح خطأ شاع طول القرون الوسطى، وهو أن العرب أحرقوا خزانة الإسكندر بأمر الخليفة عمر، والحال أن العرب في ذلك العصر كانوا أشد إعجاباً بعلوم اليونان وفنونهم من أن يقدموا على عمل كهذا، كما أنه معلوم أن قسماً من تلك الخزانة كان قد احترق في أثناء ثورة الإسكندريين التي باد فيها أسطول قيصر، وأن قسماً آخر أحرقه النصارى في القرن السادس، واختط العرب الفسطاط وتركوا للقبط ممفيس ولم يتعرضوا لهم في دينهم وعاداتهم، وأطلقوا لهم الحرية في انتخاب البطريرك وبناء الكنائس. وغاية ما أبطل عمرو من العادات القديمة، هو ما كانوا جارين عليه من زمان الوثنيين من رمي فتاة في النيل كل سنة التماسا لفيضانه

وقال أرنست رينان في خطاب له في المجمع العلمي الفرنسي:

. . . لست أعتقد أن عمراً هو الذي أحرق خزانة الإسكندرية لأنها أحرقت قبله بزمن طويل

وذكر أكبرسيم في كتابه لم تحرق مكتبة الإسكندرية التي قال بعضهم إنه كان فيها نحو سبعمائة ألف مجلد على يد الأمام عمر ولا بأمره كما جاء في بعض المصادر. فإن هذه الدعوة من الأغلاط التاريخية العظيمة، إذ لم يكن أثر لهذه الخزانة عندما فتح العرب مدينة الإسكندرية

ومع كل هذه الشهادات، وظهور الحق الجلي في هذه الغلطة التاريخية الكبرى، فهناك من لا يزالون متمسكين بهذه الأكذوبة المختلقة على العرب، ويستندون في تأييدها إلي أقوال هي في قوتها أوهى من خيوط العنكبوت، وسنورد فيما يلي بعض هذه الأقوال والروايات وندلل على فسادها

يزعم بعض المؤرخين أن من لفق هذه الرواية على العرب هو أبو الفرج بن العبري في كتابه (تاريخ مختصر الدول) وروي ذلك العالم الإنجليزي جبون في تاريخ سقوط دولة الرومان قال: إن هذه الفرية على المسلمين قد لفقها أبو الفرج العبري في تاريخه مختصر الدول، وذلك بعد الإسلام بنحو ستة قرون، ولم يتعرض قبله أحد لذكرها من المؤرخين) وذكر أرفنج أن هذه الفرية لم يكن لها ذكر قبل ترجمة مختصر الدول إلى اللاتينية. على أننا لسنا نعتقد بصحة هذا الزعم، إذ تبين لنا أن أول من نسب هذه التهمة إلى عمرو بن العاص والفاروق هو عبد اللطيف البغدادي إذ ذكرها في كتابه (الإفادة والاعتبار ص 28) وكان قد ألفه قبل ولادة أبي الفرج عام 1266 م.

رواية عبد اللطيف:

ففي أواخر القرن السادس للهجرة زار عبد اللطيف مصر وكتب عن مشاهدها وآثارها وذكر إحراق العرب لهذه المكتبة قبل أن يولد أبو الفرج ببضع وعشرين سنة وإليك نص عبارته: (ورأيت أيضاً حول عمود السواري من هذه الأعمدة بقايا صالحة بعضها صحيح وبعضها مكسور، ويظهر من حالها أنها كانت مسقوفة، والأعمدة تحمل السقف وعمود السواري عليه قبة هو حاملها. وأرى أنه الرواق الذي كان يدرس فيه أرسطو طاليس وشيعته من بعده وأنه دار المعلم التي بناها الإسكندر حين بنى مدينته وفيها كانت خزانة الكتب التي أحرقها عمرو بن العاص بأذن عمر رضيّ الله عنه)

والظاهر أن هذه العبارة قد جاءت في كلام البغدادي عرضاً عن غير قصد، ومما يطعن فيها أن يذكرها بعد ستة قرون ولا يدل على المصدر الذي نقلها عنه، والأغرب ألا يذكرها مؤرخان مسيحيان معاصران من مصر، فقد كتب أفتيكيوس بطريرسك الإسكندرية كلاماً مستفيضاً عن استيلاء المسلمين على ثغر مصر ولم يشر إلى هذه الحادثة قط، وكذلك أوتينموس، فإنه لم يشر إليها أيضاً، ومثله المؤرخ (يوحنا أسقف نيقوس) وتاريخه مصدر يركن إليه.

(البقية في العدد القادم)

خليل جمعه الطوال