مجلة الرسالة/العدد 277/البحث عن غد

مجلة الرسالة/العدد 277/البحث عن غد

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 10 - 1938



للكاتب الإنكليزي روم لاندو

للأستاذ علي حيدر الركابي

- 5 -

الفجر في سوريا

المجاهد

إن للسياسة أثراً بليغاً في تفكير السوريين لا يجاريها فيه شيء، فإن سورية كلها تشكو من مرض واحد هو شدة الحيوية السياسية. وهي الحيوية التي مازالت في الشرق الأدنى مطلقة لا تقيدها عوامل ضبط النفس أو الشعور بالمسئولية المدنية إنه لمن الصعب جداً معرفة الفروق الرئيسية التي تفصل الحزب الحاكم عن المعارضين الذين لا يسمح لهم بأن يمثلوا في مجلس النواب. ومع ذلك فإن الطموح الشخصي وميل البعض إلى الشعوذة حملا كلا الفريقين على الاعتقاد بأن الفوارق بينهما عظيمة كما أن كل جهة راحت تتهم الأخرى بسوء الائتمان وتزعم أنها هي الممثلة الوحيدة للوطنية الحقة - وبهذا تقيم الأحزاب البرهان على أنها تحافظ على التقاليد الشرقية تمام المحافظة.

ومن أعظم ما أدهشني في سورية الرغبة الشديدة عند رجال السياسة في الإعلان عن آرائهم. ومع أن البعض نبهني إلى أني لن أحظى من السوريين إلا بتصريحات عامة وغامضة فقد وجدت السياسيين يندفعون في الحديث بعد مضي خمس دقائق أو عشرة على بدء اجتماعي بهم ويصرحون بما يزيد على مطلوبي، فكان علمهم بأني رجل محايد لا أهتم بالسياسة كثيراً يدفعهم إلى الاعتراف أو الشرح أو الاتهام. وعلى كل حال فقد كان لهذه الاعترافات عندي أهمية كبرى من الناحية النفسية إذ أنها أطلعتني على بعض الأمور التي سيكون لها أثر فعال في حياة العرب السياسية في المستقبل وإن كانت هذه الأمور نفسها غير واضحة تماماً الآن.

وقد وصلت الصراحة ببعض السياسيين إلى حد أنهم بينوا لي الوسائل التي يودون تسخيرها للنيل من سمعة الحزب المستولي على الحكم. وبالرغم من أن تهديداتهم كانت فارغة وأنها ربما لن تتجاوز حد الكلام إلا أنها كانت دليلاً قاطعاً على فقدان روح المسئولية في الأسلوب السياسي المتبع. فالمعارضون يعتبرون القابضين على زمام الحكم في عداد الخونة، وهؤلاء يعتقدون أن الواجب يدعوهم إلى اتخاذ أي تدبير كان ماداموا يعتقدون فيه الصلاح. وعلى هذا فإن كلا الفريقين يسير على غير بصيرة في طريق ينهى عنه العقل السليم ويجعل ادعاء كل منهما الإخلاص في العمل على نفع الأمة وزعمه أنه مستعد للموت في سبيلها كلاماً بلا معنى.

لقد ظهر لي أثر العاطفة المتطرفة في السياسة بجلاء لما زرت أحد أعداء الحكومة وكان من قواد الثورة على الفرنسيين عام 1925. ولم يؤكد لي أشخاص مختلفون بأنه كان يقود الحملة تلو الأخرى ضد الفرنسيين لما صدقت قط أن هذا الرجل كان في يوم من الأيام مصدراً عظيماً لقلق القيادة العسكرية الفرنسية فقد استقبلني عندما زرته في ساعة متأخرة من الليل بجلباب من الحرير الأبيض الفاخر الموشي بخيوط حمراء وذهبية وكان يقطن (شقة) حديثة فخمة. وهو خريج جامعة ألمانية مشهورة ولكنه يتكلم الإنكليزية بسهولة وعذوبة تتناسب مع سكناه في منزل جميل وارتدائه الحرير الأبيض لاستقبال الضيوف الأجانب.

ذكرت لمضيفي بعض رجال الحكومة فانفجر واتهمهم بالخيانة وسوء الائتمان، وعندما سألته عن الوسيلة الناجمة لإزالة الفساد المالي من حياة سورية السياسية أجاب على الفور وبلا تردد:

- (يحب أن نقتل هذه الفئة المسيئة أولا)

فأخذتني الدهشة وسألته:

- (ومن تقصد بذلك)؟

- (الذين بيدهم الحكم فهم لا يعلمون إلا لتحقيق مصالحهم الخاصة)

- (ولكن، لي من المعقول أن ترغب في قتلهم لمجرد اعتقادك انهم غير نزيهين)

- (القتل هو الطريقة الوحيدة لتعليمهم النزاهة في الحكم. يجب أن نقتلهم، وسنقتلهم عندما يحل الميعاد)

- (وهل تعتقد حقاً أن القتل مازال في هذا العصر الحديث أحسن وسيلة للتهذيب السياسي)؟

- (نعم، ففي الشرق الأدنى لو يزل القتل أحسن واسطة. إنه ليس من المؤكد أن ننفذ القتل في هذه السنة أو التي تليها ولكنك عند ما تعود إلى سورية بعد بضعة أعوام ستشهد بعض التبدلات الخطيرة، وربما وجدت بعض الأشخاص الذين تعرفت إليهم هذه المرة قد انتقلوا إلى غير هذا العالم)

لقد تفوه بهذه العبارات القاسية بكل هدوء، مثله في ذلك مثل البط البري الذي لا تؤثر المياه في أجنحته عندما يغطس في البحيرة. وقد اتضح لي أنه لا يعترف بأية صلة بين الدعوة التي أخذ يبشر بها وبين ما يترتب على تطبيق وسائلها من عواقب مخيفة، فهما في نظره أمران لا ارتباط بينهما.

مما لاشك فيه أن لشخصية هذا الرجل جاذبية قوية يعترف بها أعداؤه أنفسهم. وكانت حقيقته تخفى عن الناس بفضل الجاذبية ولفضل طريقته في الكلام عن أهم معتقداته بلهجة عادية كأنه يشرح أمراً بسيطاً. لقد وخط المشيب رأسه، ومع ذلك فقد كانت حركاته كحركة الفتيان تدل على قوة العضل ومرونته.

أني صدقت القصص التي رواها لي عن عمله مع لورنس إذ كانا يشتركان في نسف القُطرُ العثمانية والتمتع بنشوة الحرب والقتل يتحلى هذا الرجل بكل الصفات الخيالية التي تجعل في الثائر العربي فتنة للزائر الأجنبي، وخصوصاً إذا كان هذا الزائر جاهلاً بما هو مخبوء وراء ذلك السحر الخارجي. إني لأذكر في هذه المناسبة العبارات التي قالها رجل بريطاني عقب زيارته لمفتى فلسطين: (يالها من عيون بريئة! ياله من وجه صبوح جميل!) لم تكن عيون مضيفي في دمشق بريئة ولكنه كان يتغنى بالآداب الاجتماعية التي لقنته إياها المدينة الغربية، ومع ذلك فان تمدينه الظاهر الذي يتنافى مع ما يخيفه من غرائز أولية ربما كان عائقاً يؤخر إصلاح الشرق أكثر من الوطنية المتطرفة المصحوبة بالنية الحسنة التي يتصف بها فخري البارودي. ومع أن هذا المضيف قد استنشق الهواء في جامعات أوربية مختلفة وكان ينتقل بين أثاثه الضخم بكل ثقة واطمئنان فهو لم يتعلم بعد أن القتل لم يعد الوسيلة الوحيدة لتعليم السياسيين الأخلاق. إن أمثال هذا الرجال ليعرقلون المساعي المخلصة التي يبذلها المستنيرون من العرب لقد أدركت عند ختام زيارتي دمشق السبب الذي جعل سورية تخرج هذا العدد الكبير قادة السياسة في البلاد العربية، كما أدركت الداعي لاعتبارها ركناً من أركان الحركة العربية الحديثة: إن في العقل السوري لفطنة، وإن في أكثر رجال السياسة في سورية لمضاء في العزيمة لم ألحظه في مصر؛ وخيل إلي في فلسطين أنه موقت يزول بزوال الظروف الحاضرة. إن جميع الصفات التي تميز الخلق العربي بارزة في شخصية السوريين بكل وضوح وجلاء، مما لاشك فيه أنهم سيلعبون دوراً رئيسياً في حياة الشرق الأدنى المستقبلة.

إن طبيعة السوريين والظروف التي أحاطت بهم جعلت منهم شعباً ثائراً، ولهذا كان منتظراً أن يعجز الفرنسيون عن إدارة سورية في جو هادئ. غير انه لا يمكن اعتبار فرنسا وحدها مسؤولة عن تمرد السوريين وما أنتجه من حركات منذ عام 1920، كما أنه ليس من المؤكد أن تنتهي المنازعات الداخلية بعد نيل سورية استقلاها التام عام 1939 إذ أن السوريين في أشد الحاجة إلى كثير من التهذيب السياسي والاعتياد على ضبط النفس ليصونوا البلاد من التفكك الداخلي. إن أمثال الدكتور الكيالي يجب أن يجدوا ويجتهدوا لكي يجعلوا الصداقة الأبدية مع فرنسا التي يدعو إليها المسيو إده في لبنان بأعلى صوته ضرورية لسورية.

علي حيدر الركابي