مجلة الرسالة/العدد 277/للأدب والتاريخ
مجلة الرسالة/العدد 277/للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 41 -
رسائل القراء إليه:
المحامي الشاعر الأستاذ إبراهيم. . . شاب له خلق ودين، وفيه اعتزاز بالعربية والإسلام؛ فهو من ذلك يحب الرافعي وينتصر له، ويتبع بشوق وشغف كل ما ينشر من كتب ومقالات. ولكنه مع ذلك يحب العقاد وينتصر له، ويراه صاحب مذهب في الشعر ورأي في الأدب، جديراً بأن يتأثر خطاء ويسير على نهجه. وليس عجيبا - فيما أظن - أن يجتمع الرأي لأديب من الأدباء على محبة الرافعي والعقاد في وقت معاً، كما أنه ليس عجيباً أن يتعادى الرافعي والعقاد أو يتصافيا ما دام لكل منهما في الأدب طريق ومذهب؛ ولن يمنع ما بينهما من العداوة أو من الصفاء، أن يكون لكل منهما قراؤه المعجبون به، أو يكون لهما قراء مشتركون يعجبون بما ينشئ كل منهما في فنون الأدب؛ وإنما العجيب أن يبلغ إعجاب القارئ بالكاتب الذي يؤثره إلى درجة التعصب؛ فلا يعتبر سواه، ولا يعترف لغيره أن يكون له مكان بين أهل الأدب. . . على أن شأن صاحبنا المحامي الشاعر الأستاذ إبراهيم مع الرافعي والعقاد يبعث على أشد العجب وأبلغ الدهشة. . . إنه يحب الرافعي ويؤثره، ويعجب به إعجابا يبلغ درجة التعصب؛ وإنه يحب العقاد كذلك ويعجب به ويتعصب له. . . لكل منهما مكانه من نفسه، مكان لا يتسع إلا له، ولا يزاحمه فيه خصمه؛ ولكنه يحبهما معاً، ويعجب بهما معاً، ويتعصب لهما معاً!
رأيان يتواثبان، وشخصيتان تتناحران، وإسراف في التعصب لكل منهما على صاحبه؛ فأين يجد نفسه بن صاحبَيْه اللذين يؤثر كلاَّ منهما بالحب والإعجاب والأستاذية؟
صورة طريفة وقعتُ عليها فيما وقعت بين رسائل الرافع!
هذه رسالة من الأستاذ إبراهيم إلى الرافعي يقول فيها: (سيدي، إنني أحبك، وأعجب بك، وأتعصب لك؛ ولكن موقفك من العقاد يا سيدي. . . ليت شعري لماذا تتخاصمان؟. . . لقد كنت على حق. . . ولكن العقاد على حق. . . هل تأذن لي أن أكون رسول السلام بينكما؟)
ثم لا تمضي أيام حتى يعود فيكتب إلى الرافعي رسالته الثانية: (معذرة. . . أنك لتتجنى على العقائد تجنيا ظالماً، فما لك وجه من الحق في عدائه والحملة عليه. لقد عقمت العربية فلم تنجب غير العقاد. . . وإنك أنت. . . إنك كبير في نفسي، كبير جداً، وإني لأقلب تاريخ العربية بين يدي فلا أجد غير الرافعي. . . أنت. . . والعقاد. . . أين ترى يكون اللقاء؟)
وعلى هذا المثال قرأت لصاحبنا المحامي الشاعر بضع رسائل بينما خلف الرافعي من أوراق، تملأ النفس عجباً ودهشة. وآخر مما وصل إلى الرافعي من رسائله، رسالتان، كتب إحداهما في المساء، وكتب الثانية في صباح اليوم التالي؛ ولولا خط الكاتب، ونوع الورق، وخاتم البريد، لما حسبتهما إلا رسالتين من شخصين لو أنهما التقيا في الطريق لتضاربا بالأكف. . .!
على أن الرافعي مع ذلك كان يرد على رسائله! ووددت لو ينشر صاحبنا بعض رسائل الرافعي إليه!
والآنسة الأدبية ف. ز. معلمة في إحدى مدارس الحكومة كان أبوها زميلاً للرافعي في محكمة طنطا، وكان بينهما صلة من الود، فلما مات لم تنس أبنته صديق أبيها، فكانت تستعينه في بعض شؤونها، ومن ثمة نشأت بينهما مودة، فكانت تراسله ويراسلها، ومن رسائلها إليه كان له علم جديد في شئون وشئون.
صحبته إلى زيارتها مرة في ليلة من ليالي الشتاء، مع الصديقين كامل حبيب وسعيد الرافعي؛ فلقيناها مع بعض صديقاتها، وكانت جلسة طالت ساعات، اعتقد أن الرافعي قد أفاد منها بعض معانيه في قصة (القلب المسكين!). . . وقد أنشأت هذه الرسائل بين بعض قرائه وبينه صلات عجيبة من الود؛ فهو منهم أب وصديق ومعلم ومشير؛ وجلس على (كرسي الاعتراف) فترة غير قصيرة من حياته، تفتحت فيها عيناه على كثير من حقائق الحياة لا يبلغ أن يصل إليها من رحل وطوف. وكان له في كل دار أذن وعلى كل باب رقيب عتيد! ولست بمستطيع أن أفسر سّر هذه الثقة العجيبة التي ظفر بها الرافعي من قرائه؛ ولكني أستطيع أن أجزم بأنه كان أهلاً لهذه الثقة؛ فما أعرف أنه باح بسرَّ أحد فسماه أو عرَّف به، وما أطلع على رسائل قرائه أحداً غيري إلا قليلاً من الرسائل كان لا يرى بأساً من إطلاع نفر قليل من أصحابه عليها لغرض مما يستجرَّه إليه بعض الحديث في موضوعها؛ بل إن كثيراً من هذه الرسائل قد أخفاه عني - وما كان بيني وبينه حجاب أو سر - فما عرفت خبرها إلا بعد موته. ويستطيع أصحاب هذه الرسائل أن يطمئنوا إليَّ؛ فستظل أسرارهم - في يدي - مصونة عن عيون الفضولين، فلم أتناول الحديث عنها إلا من حيث يدعوني الواجب لجلاء بعض الحقائق في هذا التاريخ.
وكان له مراسلون دائمون. . يجدون الكتابة إليه جزءاً من نظام حياتهم، فلا تنقطع رسائلهم عنه، ولا يخفي عليه شيء من تطورات حياتهم وقد أكسبهم طول العهد بالكتابة إليه شيء من الأنس والاطمئنان إليه كما يطمئنون إلى صديق عرفوه وجربوه وعايشوه طائفةً من حياتهم؛ وأن القارئ ليلمح في هذا النوع من الرسائل الدورية التي يبعث بها إليه هؤلاء الأصدقاء الغرباء، مقدار ما اثر الرافعي في حياتهم منذ بدأت صلتهم به، فتطورت بهم الحياة تطورات عجيبة؛ وأدى الرافعي إليهم دَينه وأثر فيهم بمقدار ما كان لهم من الأثر في أدبه وفي حياته الاجتماعية. وإني لأضرب مثلا لواحدة من هؤلاء الأصدقاء: فتاة من أسرة كريمة في دمشق، نشأت في بيت عز وغنى وجاه، وهي كبري ثلاث نشأن نشأة يفاخرن بها الأتراب؛ ثم تقلبت بهن الحياة فإذا هن بعد الغني والجاه ناسٌ من ناس. . واضطرت الكبرى أن تخرج إلى الميدان عاملة ناصبة لتعول أسرتها، وكان لها من ثقافتها وتربيتها معين ساعدها دون أختيها في ميدان الجهاد؛ وعلى أنها كانت أجمل الثلاث وأولاهن بالاستقرار في بيت الزوج الكريم فقد سبقتها أختاها إلى الرفاء والبنين والبنات وضلت هي. . وما كان ذلك لعيب فيها ولكنة سرَّ لم يلبث أن أنكشف لعينيها: لقد كانت هي وحدها ومن دون أختيها التي تستطيع أن تعول أسرتها لأنها عاملة. . .
وتألمت حين عرفت السَّر ولكنها كتمت آلامها وظلت (صابرة) ومضت الأيام متتابعة والأماني تخلف موعدها؛ وتحركت فيها غريزة الأمومة ولكنها قمعتها بإرادة وعنف ومضت تصارع الطبيعة وتتحدى القدر بعزيمة لا تلين؛ ولكنها لم تلبث أن أحسَّت بوادر الهزيمة بعد طول الكفاح فشرعت قلمها العذب وكتبت رسالتها الأولى إلى الرافعي بإمضاء (الصابرة) وقرأ الرافعي رسالتها ثم قص على خبرها وتندت عيناه بالدموع: يالها من فتاة باسلة!
وأجابها الرافعي على رسالتها بتذييل صغير في حاشية إحدى مقالاته في الرسالة. . وعادت تكتب إليه وعاد يجيبها وتوالت رسائلها ورسائله وقد كتم اسمها وعنوانها عن كل أحد - وكانت كتبته إليه في ورقة منفصلة في إحدى رسائلها ليمزقه وحده إن عناه أن يحتفظ برسائلها - وكان لها الرافعي كما أرادت: أباً وصديقاً ومرشدا ًومشيراً؛ ولم يأبَ عليها في بعض رسائله أن يتبسط في الحديث إليها عن قصة (القلب المسكين) لعلها تجد فيما يكتب إليها من شئونه عزاء وتسلية. . وتعزت المسكينة عن شيء بشيء، وثاب إليها الاطمئنان والشعور بالرضا. وبدا في رسائلها لون جديد لم يكن في رسالتها الأولى. وأخذت تكتب إليه عن كل شيء تحس به أو تراه حولها، وتستشيره فيما جلَّ وما هان من شئونها، في سفرها، وفي إقامتها، وفي رياضتها، وفي عملها، وفي يقظتها، وفي أحلامها. . في كل شيء كانت تكتب إليه، سائلة ومجيبة، ومخبرة ومستشيرة، حتى في صلاتها مع صديقاتها وأصدقائها، وفي الخطاب الذين يطرقون بابها يطلبون يدها. . ولم يكن يضن عليها بشيء من الرأي أو المشورة. .
وكان للصابرة جزاء ما صبرت، وتحققت أمانيها على أكمل ما تتحقق أماني إنسان، وجاءها العروس الذي لم تكن أحلامها تتطاول إليه في منامها، وبرق في إصبعها خاتم الخطبة فانيهرت منه عيون! لا أريد أن أذكر من صفات خطيبها حتى لا أعرف بها وبه، وليس من حقي أن أكشف ما تريد هي أن يظل مستوراً. . . لو قلت أن خطيبها كان وزيراً لما بعدت! واستمرت تكتب للرافعي والرافعي يجيبها. . . حتى رسائل خطيبها إليها كانت تبعث بها إلى الرافعي ليشير عليها كيف تجيب، وحتى برنامجها قبل الزفاف وبعده كان بمشورة الرافعي ورأيه. . .
وجاءته آخر رسالة منها مؤرخة في 341937 (نعى الرافعي
في 1051937) تقول فيها: (الصديق الكريم. . .
(ما أحلى دعوتك يا صديقي وما كان أشدها تأثيراً على نفسي! لقد شعرت وأنا أقروها بسرور عميق، وتركز في ذهني أن هذه الدعوة مقبولة. . . ما أسعدني إذا صرت في المستقبل أما (أعتقد أنك تعرف تماماً أن حنيني للزواج في فيما مضى وتمردي وثورتي على هذه الحياة، لم تكن إلا لأني رأيته وسيلة للحصول على الطفل؛ فقد تنبهت في غريزة الأمومة بشكل هائل؛ تصور يا أستاذي، صرت أكره الأطفال لأني ليس لي بينهم ولد؛ وكنت إذ أرى أمَّا تعانق طفلها وتضمه إلى صدرها أحس بألم مرير ويحز بقلبي وكاد يقطعه. وكثيراً ما كنت أتشاغل وأشيح بوجهي حتى لا تقع عيني على هذا المنظر. لست حسودة والله، ولكن شدة إحساسي كانت تجعلني بهذا الوضع. . . أما الآن فأنا مسرورة لأقصى حدود السرور، وأتمنى لو أنثر الخير والسعادة على الجميع. . . . . .
(. . . والله يعلم أن ليس لي أي غاية مادية من وراء هذا الزواج، وليس قصدي منه إلا الحماية والستر، لأني مللت ومرض قلبي من فضول الناس. . .)
وكانت على نية زيارة مصر لتزور الرافعي مع زوجها، اعترافاً بحقه عليها، ولكن القدر لم يمهله حتى يحين الموعد، وحان أجله قبل أن ينظر بعينيه الفتاة التي تبناها على بعد الدار وشغلته أحزانها بضع سنين، فلما ابتسم لها القدر وتحققت أحلامها ناداه أجله وما شاركها ابتسامة الفرح وتهاني المسرة. . .!
تقول له في رسالتها المؤرخة 1511937: (الصديق الكريم. ..
(. . . ولماذا أخشى هذه المقابلة يا أستاذ؟ وهل أنت مخيف لهذه الدرجة. . . على كل حال إذا وجدت ما يرعبني فسأختبئ وراء (زوجي) ولا بد أنه يحسن الدفاع عني. لا، لا، سألبس درعاً متينة تقيني (شرّ) هذه المغناطيسية القوية، ولكني أخاف يا أستاذي أن يكون الحديد أكثر انجذاباً، وأكون حينئذ أسأت من حيث أردت الإحسان. . . صحيح أنني معجبة، ولا أزال، وسأبقى دائماً، ولكن ألا ترى أن الإعجاب و. . . قد يتفقان أحياناً وقد يختلفان؟ ثم أليس. . . معان كثيرة وأساليب عديدة. . .؟ (تريد رأيي في صاحب القلب المسكين؟ أنت تعرفه جيداً فلماذا تريد إحراجي. . .؟
(الجمال ليس مدار بحثنا، وليس له أهمية قل أو كثر، ومع ذلك فصاحب القلب المسكين يتمتع بقسط وافر منه. اسمع، سأبدي رأيي. لا لا، ما بدَّي أقول، أستحي. . .!)
وكانت تعرف من أمره مع (فلانة) ما قص عليها في رسائله وفي رسائلها حديث كثير عنها، وقد زارتها مرة عن أمره لتنبئه بخبرها. . .
وأعتقد أن في رسائله إليها ما يكشف بعض الغموض في قصة الرافعي و (فلانة) ويكون فيه برهان إلى براهين لدينا؛ فحبذا أن تتفضل السيدة الكريمة بالنزول عن حقها في هذه الرسائل فتهديها إلينا لتتم لنا بهذه الحلقة المفقودة سلسة التاريخ!
إنها أديبة وعالمة، وإنها بذلك لتعرف حق التاريخ وحق الأدب عليها في هذه الرسائل، ولها علينا ما تشترط فنوفيه، فلعل صوتي أن يبلغ إليها في مأمنها. ضمن الله لها سعادتها وحقق لها ما بقى!
هذه قصة فتاة يجد فيها القارئ بين أولها وآخرها أشتاتاً من تاريخ الرافعي؛ وفيها مثال يبين معنى ما سميته (النقلة الاجتماعية) في حياة الرافعي بما كان بينه وبين قرائه من صلة الرسائل. على أن هذه القصة بخصوصها كان لها من عناية الرافعي حظ أيّ حظ. وقد كان على أن يكتب - بما اجتمع له من فصول هذه القصة - مقالة بعنوان (الصابرة) جمع لها فيما مع من نثار الأفكار قدراً غير قليل، وما أخره عن كتابتها إلى أن وافاه الأجل إلا انتظار الخاتمة فيما أظن، وإلا شدة احتفاله بهذا الموضوع. وهكذا نجد أن شدة احتفال الرافعي بموضوع مّا يكون سبباً في تعويقه عن كتابته أو عن تمامه: كان يحتفل بكتابة (أسرار الإعجاز) فلم يتمه، وبمقالتي (الزبال الفيلسوف) و (الصابرة) فلم يكتبهما؛ ولكن التاريخ لم ينس له.
شبرا
محمد سعد العريان
ظن بعض أصدقاء الآنسة الأديبة أمينة. ش أننا نعنيها بقولنا في الجزء السابق من هذه المقالات: (إن فتاة أدبية من أسيوط كتبت إلى الرافعي تشكو إليه أن أباها يعضلها ويذود الخطاب عن بابه حرصاً على بعض التقاليد) فتعذر للآنسة الأديبة من سوء ظن أصدقائها بما كتبنا، ونؤكد لهؤلاء الأصدقاء أنها غير المعنية منا بهذا القول.