مجلة الرسالة/العدد 278/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 278/الكُتبُ

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 10 - 1938



هكذا تكلم زرادشت

ترجمة الأستاذ فليكس فارس

للدكتور إسماعيل أحمد أدهم

صديقي الأديب النابغة فليكس فارس علم من أعلام البيان في الشرق العربي، عرفته العروبة على منابرها في سوريا ولبنان خطيباً مفوهاً يدعو لإحياء الثقافة العربية؛ وعرفته لغة الضاد ذائداً عن حياضها أمام تيار العجمة الدخيل؛ وعرفه الشرق العربي رسولا يرفع رسالة غيبيات الشرق أمام يقينيات أوربا الجارفة

و (رسالة المنبر إلى الشرق العربي) التي أصدرها منذ عامين صرخة مدوية إلى الضمير العربي تظهر لك فليكس فارس على حقيقته. فهو ينظر للعالم من ناحية ارتضاها شعوره فسكن إليها عقله، وقبلها وجدانه فنزل عندها فكره. فهو شاعر في تفكيره وفنان في منطقه وداعية في علمه؛ ولهذا تقع على الشيء الكثير من المفارقات في كتابه، تلك التي أجليناها في نقد مستفيض نشرته لنا مجلة (العصبة) في العدد الثاني والثالث من السنة الرابعة. ذلك أن فليكس فارس رجل يؤمن بخيالات الأمس ويعيش في ذكريات الماضي، فهو يعيش في الحاضر بكيانه المادي، أما عقله وروحه فهماً في الماضي، ينظر إليه بمنظار ناصع مكبر؛ أما الحاضر فمنظاره أسود مصغر، ولهذا تجده يهيب بأهل المشرق أن يخلعوا عنهم رداء مدنية الغرب التي لبسوها في العصور الأخيرة وأن يرجعوا لفطرتهم التي تفجرت منها في الماضي أنوار الموسوية والعيسوية والمحمدية

هذا هو صديقي فليكس فارس كما عرفته من مطالعة كتابه (رسالة المنبر)

ولقد ترجم أخيراً أثرين عن اللغة الفرنسية، أولهما قصة لألفريد دي موسيه، وثانيهما كتاب زرادشت لفردريك نيتشه

وترجمة هذين الأثرين من قبل صديقنا فليكس فارس مدعاة لنا للتساؤل عن الأسباب التي دفعته لترجمتها!

يقول أديبنا النابغة في تمهيد لقصيدة (رولا) لألفريد دي موسيه وقد نشرتها له المقتطف في عدد مايو من هذه السنة: (إن في بذل البيان لتفكير الغير كثيراً من التضحية لكاتب أندغم تفكيره في بيانه، لأن هذا البذل يستلزم إقامة حاجز بين القوة المبدعة مما كمن فيها تذكاراً وتنسيقاً، علماً بالاستقراء وعلماً بالحس الباطني، وبين قوة التعبير تصويراً وتلويناً وتنغيماً. وفي هذا الفصل من الجهد ما لا يدركه إلا من يعانيه، ولا يعاني هذه المشقة كل من يقتحم الترجمة إطلاقاً؛ فان من الترجمة ما لا تتعدى الاقتدار على النسخ، وليس هذا النوع ما نعني، فالمترجم الذي ينقل كتاباً يبحث في صناعة أو مسألة اقتصادية لا يكون عمله إذا امتلك ناصية اللغتين إلا عبارة عن كتابة ما سطرته الريشة من الشمال إلى اليمين بكلمات يخطها القلم من اليمين إلى الشمال، ولمثل هذا العمل قيمته ولا نكر، غير أنه جد بعيد عن مجال البيان الأدبي، وليس فيه غير أثر الجهد والاطلاع والدقة، إذ لا يمكن أن يتضمن شيئاً من شخصية المترجم الأدبية

شتان إذن بين من يترجم ومن يسلخ إنشاءه عن تفكيره ليكون هيكلا سوياً من البيان تحتله روح مؤلف مبدع فنان)

ومهما يكن قيمة هذا الرأي فان عنصراً من الحق في بيان منحى الترجمة عند أديبنا. إذن فلنا أن نتساءل - ويكون لتساؤلنا محله - عن العناصر التي تكافأت بين هذين الأثرين البيانيين وبين نفس المترجم، حتى كبد نفسه جهد إسكات ما فيه من القوة المبدعة، وعمل راضيا على إعارة بيانه بلغته لتفكير غيره؟

إن في الإجابة على هذا السؤال حل مشكلة ترجمة أديبنا لهذين الأثرين دون غيرهما من تراث الأدب والفكر الغربي!

أما (الاعترافات) فهي قصة حب (الفريد دي موسيه) لـ (جورج صاند) وهي تمتاز بعمق الاحساسات وزخور المشاعر، ولكن فكرتها وخيالها ضعيفان. ذلك أن (الفريد دي موسيه) كان (رومانيا) يغلب شعوره عقله واحساساته تفكيره، ومن هنا كان لا يقدر على التحليق في أجواء الخيال. . . وهذا الطابع الذي يسم (الاعترافات) هو الذي تجاوب مع نفس المترجم، ذلك أنه من طراز المؤلف في طابعه الشخصي

هذا إلى أن القصة وإن لم يكن لها مقام يذكر في تاريخ الفن القصصي، فان أديبنا المترجم فتن بما فيها من إحساس صادق ووصف جميل، هو كل ما للاعترافات من ميزة. ومن هنا تجد أن المترجم نزل عن بيانه لموسيه راضياً. ذلك أن الصور والاحساسات التي منها توسيعه في كتابه قريبة من نفس المترجم ليست غريبة عنه، فهذا موسيه يرى مع فليكس فارس أن داء العصر - الذي حاول موسيه أن يصوره في مستهل كتابه فأخفق - نتيجة للمدنية الآلية. وهذا الداء ظاهرة من ظواهر اليوم في جيل شباب هذا الشرق العربي. . . ومن هنا أعتقد أن المترجم رأى في الاعترافات علاجاً أدبياً لداء العصر. ومن هنا نرى أن فليكس فارس لم يترجم كتاباً بترجمة (الاعترافات) إنما وجد في الفريد دي موسيه من يعبر عن احساساته وأفكاره تعبيراً صادقاً في (الاعترافات) فنقلها للعربية وكأنه ينشئها من نفسه

إذن فليس لنا أن نعيب على المترجم نقله كتاب (الاعترافات) إلى العربية، مهما كان رأينا في الاعترافات، ذلك أن الأفكار والاحساسات المبثوثة في (الاعترافات) تنبع من صميم نفس المترجم. فكل اعتراض عليها اعتراض على طبيعة بشرية!

أما كل ما يمكن أن يدار من البحث حول ترجمة الاعترافات فهو مقدار نصيب الترجمة العربية من روح الأصل الفرنسي، ونحن نعتقد اعتقاداً أولياً أن المترجم مهما يكن مقدار تصرفه في الترجمة، فان روح الاعترافات في أصلها الفرنسي لا شك قوية واضحة في الترجمة، ذلك أنها لا تنزل من المقدرة على الترجمة وإنما تنزل من روح المترجم

أما كتاب (زارازوسترا) لفردريك نيتشه، فان بعض الصعوبة يبدو للنظر إذا حاولنا أن نثبت وحدة المزاج بين الفيلسوف الألماني والمترجم العربي، ذلك أن المؤلف مشهور بتجديفه والمترجم مؤمن مشهور بإغراقه في التدين. . . وأين الإلحاد من الإيمان؟

ولكن لو نظرنا للبواطن، فأننا نجد وحدة في المزاج بين المؤلف والمترجم، هذه الوحدة تقوم على الإغداق والطبيعة الفنية، ذلك أن نيتشه فلسفته ليست نتيجة لقريحة فلسفية إنما هي تجربة الدنيا أملت على طبيعته الفنية ما أملت. . . ومن هنا كان نيتشه فناناً أكثر منه فليسوفاً. وروحه الفنية قديمة، وللطابع العبري نتيجة، لتأثره بالآداب العبرية التي تبحر فيها. وهذه الروح السامية هي التي أخذ بها المترجم، بما فيها من الحقائق إزاء الوحدة المتجلية للكون في روح الفيلسوف الفنان. ومن قبل التفت الأديب الناقد عباس محمود العقاد في دراسة سريعة له للمتنبي إلى أوجه الشبه بين نيتشه والمتنبي، ورأى لهما فلسفة في الحياة واحدة، نتناول سننها وصروفها، ولا تتناول مصادرها ومصائرها. ولقد وقف العقاد وقتئذ حائراً في تفسير أوجه الشبه بين شاعر العرب الكبير ومفكر ألمانيا وفنانها الكبير، وهو لو ذهب من ناحية الطبيعة الفنية يعلل أوجه الشبه بين الرجلين مستعيناً بالعوامل التي تكافأت مع هذه الطبيعة، لكان نجح في بحثه أضعاف ما نجح.

مضى صديقنا فليكس فارس يترجم عن نيتشه كتابه، مأخوذا بهذه الروح، ونحن نظلم أنفسنا ونظلمه ونظلم الحقيقة إذا ذهبنا نقارن بين كتاب زارازوسترا في أصله الألماني وبين ترجمته العربية، لأن أديبنا المترجم رجل أنصب تفكيره في بيانه عن طريق الاشتراك بين العلة والمعلول. . . ومن هنا كانت ترجمته سلخ لتفكيره عن إنشائه - كما يقول هو - ليكون إنشاؤه هيكلا سويا من البيان يحتل روح مؤلف مبدع صاحب بيان وفن كفردريك نيتشه. ولما كان السلخ غير مستطاع في كل الحالات كانت أفكار المترجم تتسرب إلى تفكير نيتشه فتخلتط به أو تجعل مفهوم كلامه ينحرف بعض التحريف حتى يجوز المكافأة لنطق المترجم، وآثار هذا الانحراف جلية في الترجمة، تارة في صورة تصرف، وطورا في صورة تفسير وتأويل. ومن هنا كان لنا أن نعتبر الترجمة تحمل طابعاً شخصياً يتصل بالمترجم، لا عند بيانه فحسب بل يتكافأ ومنطقه إلى حد كبير

ولا أدل على هذا من تصرف المترجم في كلام نيتشه وتأويله وتخريجه عباراته تخريجا يبعدها كل البعد عن مفهوماتها.

يقول نيتشه في فصل (بين غادتين في الصحراء) على لسان (زارازوسترا) نشيداً يستهله بقوله:

إن الصحراء تتسع وتمتد فويل لمن يطمح إلى الاستيلاء عليها!

يا للمهابة!

يا للبداية تليق بمهابة صحراء إفريقيا!

تليق بأسد أو نذير يهيب بالناس إلى مكارم الأخلاق

إنها لروعة لم تسط عليكما يا صديقتي عندما أتيح لي أنا ابن أوربا أن أجلس عند أقدامكما تحت ظلال النخيل.

حي على الصلاة!)

فهنا (أسد الصحراء) رمز (للنبي) رمز (لانبعاث الفضائل العليا وتمردها على الجحود والتضعضع في الحياة!. . . و (سلام) رمز (لحي على الصلاة!).

هذا ما يقرره صديقنا في مستهل الترجمة، ولو ذهب لتدعيم تأويله إلى عالم أخصائي في فلسفة نيتشه هو الدكتور (روبرت رينجر) أستاذ الفلسفة بجامعة فينا - الذي يظهر أنه يوافق صديقنا المترجم بعض الموافقة في تأويله - إن صح ما نقله المترجم عنه!. . .

ولكنا لو راجعنا الدكتور (رينجر) وخاصة مجلده الضخم عن نيتشه، فإننا لا نجد وجهاً في كتاباته يتفق مع تأويل أديبنا النابغة فليكس فارس.

ومع هذا فرأي الدكتور رينجر (لا يقدم ولا يؤخر في الموضوع، ذلك أننا نجد تفسير هذه الرموز جلية في كتاب (زارازوسترا) من مطالعة النشيد في ضوء روح الكتاب عامة. ونحن نقدر أن (أسد الصحراء) رمز للعقل الإنساني الطموح إلى نيل حريته وبسط سيطرته على حياته؛ أما الصحراء فنفهمها على أنها الحياة المتحررة. أما صرخة الأسد أمام غادات الصحراء فهي صرخة الإرادة في الإنسان الطموح لنيل حريته، وغادتي الصحراء، هنا هما فضائل الحياة، ولكن أي حياة؟. . . نرجع الحياة المستعبدة.

(البقية في العدد القادم)

إسماعيل أحمد أدهم