مجلة الرسالة/العدد 278/مصر وعلاقتها بالخلافة

مجلة الرسالة/العدد 278/مصر وعلاقتها بالخلافة

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 10 - 1938



للدكتور حسن إبراهيم حسن

أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب

خاض الجند العرب غمار الفتن السياسية التي قامت بين الخلفاء الأمويين والخارجين عليهم، وكذا بين العباسيين ومناوئيهم. وكان لتدخلهم أثر ظاهر في هذه الفتن. وسنأتي بوصف موجز لها لنبين ما كان لدخول جند مصر في غمارها من أثر

تألب محمد بن أبي حذيفة على خليفة عبد الله بن سعد بن أبي سرح على مصر وإخراجه إياه من الفسطاط إلى خلع عثمان، وأسعر البلاد بنار الثورة التي انتهت بقتل عثمان وتولية علي بن أبي طالب، وما تلا ذلك أيضاً من الحوادث التي قامت بين حزب علي وحزب معاوية، وقيام الدولة الأموية. ولا غرو فقد كان لجند مصر في هذه الحوادث كلها نصيب وافر، ناهيك بما كان من قتل عثمان الذي تمَّ على أيدي الثوار من مصر دون غيرهم من عرب البصرة والكوفة

وفي عهد يزيد بن معاوية، دعا عبد الله بن الزبير إلى نفسه (سنة 64 هـ) وصادفت دعوته نجاحاً عظيما في بلاد العرب والعراق. إلا أن تنصَّل محمد بن الحنفية بن عليَّ بن أبي طالب عن مبايعة ابن الزبير، ومبايعة يزيد بن معاوية لعدم وثوقه بأهل الكوفة الذين خذلوا أباه وأخويه من قبل، وخروج الكيسانية مع المختار ابن أبي عبيد الثقفي، ودعوتهم لمحمد بن الحنفية؛ كل هذا فتْ في عضد ابن الزبير، وآذن بانحلال أمره

صادفت دعوة ابن الزبير في مصر بعض النجاح، فشد أزره أنصار العلويين اعتقاداً منهم أنه لأهل البيت، ولحق به كثير من المصريين، وسألوه أن يبعث إليهم والياً من قبله، فبعث عبد الرحمن بن جحدم الفهري، فدخل مصر في شعبان سنة 64 هجرية في جمع من الخوارج من أهل مصر وغيرهم الذين انضموا إلى ابن الزبير في مكة. فاضطر عرب مصر من شيعة بني أمية إلى مبايعته على كُرْهٍ

ولما بويع مروان بن الحكم في ذي العقدة سنة 64 هـ كاتبته شيعة الأمويين في مصر سراً، فسار في كثير من الأشراف وبعث ابنه عبد العزيز في جيش إلى أبلة (عند العقبة) ونشط ابن جحدم لحربه، وأشار عليه بعض رجاله بأن يحفر خندقاً (موقعه الآن بج القرافة) فتمَّ حفره في شهر واحد، وفي ذلك يقول ابن أبي زمزمة الشاعر:

وما الجِدَّ إلاَّ مثل جدِّ ابنِ جَحْدمٍ ... وما العزْم إلاّ عزمُه يوم خندقِ

ثلاثون ألفاً قد أثارُوا ترابه ... وخدّوه في شهرٍ حديث مصدَّق

وبعث ابن جحدم الجيوش والمراكب لحرب مروان وابنه عبد العزيز، فانهزمت جيوش والي ابن الزبير، ولم ينفعه خندقه، ودخل مروان عينَ شمس ثم الفسطاط في أول جمادى الأولى سنة 65هـ. وبنى الدار البيضاء لتكون مقرَّاً له، وبايعه الناس إلاَّ نفراً ظلوا على تمسكهم ببيعة ابن الزبير، فضرب أعناقهم وكانوا ثمانين رجلا من المعافر. وقتل أيضاً سيد لخم (الأكدر ابن حمام بن عامر بن مصعب) فأتى زهاء ثلاثين ألفا من لخم، وهم مدججون بالسلاح، ووقفوا بباب مروان ثائرين فتوسط بعضهم في الصلح وانصرف الثائرون. واتفق أن توفي عبد الله بن عمرو ابن العاص في اليوم الذي قتل فيه الأكدر (15 جمادى الآخرة سنة 65هـ). فلم يستطيع القوم أن يخرجوا بجنازته لتألب الجند على مروان، فدفن في داره

لقد كان للجند العرب في مصر أثر ظاهر في الفتن التي انتهت بقتل عثمان وعلى أيديهم وحدهم تمَّ ذلك. ولما انتشر أمر ابن الزبير في الحجاز والعراق وامتدَّت دعوته إلى مصر حيث لاقت قبولا من نفوس العلويين أُخِذَت له البيعة على يد واليه عبد الرحمن بن جحدم الفهري، ولما بويع مروان بن الحكم سنة 64 هـ كاتبه أنصار الأمويين فسار إلى مصر وانتصر على أتباع ابن الزبير ثم دخل الفسطاط سنة 65هـ، وبايعه الناس إلا نفراً قليلا أمر بضرب أعناقهم

كذلك كان للجند العرب في مصر نصيب في النزاع الذي قام بين العباسيين والأمويين، ذلك النزاع الذي انتهى بقيام الدولة العباسية. فلما أتى مروان بن محمد مصر فارا من وجه العباسيين لم يستطع أن يصد صالح بن علي الذي تعقبه إلى مصر، ولم يقو على مقاومته العباسيون، لما كان من تألب الجند عليه في هذه البلاد، فقد خرج القبط بسمهود، وخالفه عمرو بن سُهَيل ابن عبد العزيز بن مروان، وتابعه قوم من قيس، ونزلوا في الحوف الشرقي، وأظهروا العصيان. ولما علم جند مصر بمسير مروان إليهم أجمعوا على منعه، فلما قدم (22 شوال سنة 132هـ) ليس أهل الحوف الشرقي السواد لباس العباسيين، وحذا حذوهم أهل الإسكندرية والصعيد

وعلى الرغم من هذا كله فقد استطاع مروان أن يدخل الجيزة، ومن ثم شرع في محاربة الجند العرب في الحوف الشرقي وفي الإسكندرية والصعيد، وفي قمع فتنة القبط في رشيد، ثم قدم صالح بن علي العباسي (10 ذو الحجة 132هـ) في إثر مروان، فسار هذا إلى بوصير، في كورة الأشمونين (من مديرية بني سويف) فوافاه صالح بن عديَّ في جيوشه وقتله (الجمعة 23 ذي الحجة سنة 132هـ) ثم تعقب ذوي قرباه والممالئين له في هذه البلاد، ودخل الفسطاط (23 المحرم سنة 133هـ)، وبذلك زال سلطان بني أمية وتوطدت دعائم الدولة العباسية. ولا شك في أن لقيام جند العرب في مصر في وجه مروان أثرا ظاهرا فيما أحرزه صالح بن علي العباسي من نصر معجل على مروان، مما أدى إلى زوال سلطان بني أمية زوالا لا رجوع بعده

استعمل العباسيون اسم الشيعة أداة لإزالة الخلافة الأموية، فلم يكد يتم تأسيس الدولة العباسية حتى قام النزاع بينهم وبين العلويين الذين أخذوا يكيدون لهم بالسيف حيناً وبالحيلة حيناً آخر. وفي خلافة المنصور (136، 158هـ - 754، 775م) دعا محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي المعروف بالنفس الزكية إلى نفسه سراً، وتلقب بأمير المؤمنين. ثم ظهر في سنة 145هـ بعد أن صادفت دعوته نجاحاً عظيماً في مكة والمدينة، حيث اعترف الناس بإمامته، وأفتى الإمام مالك بأحقيته بالخلافة من أبي جعفر. ومن المدينة أرسل أخاه إبراهيم إلى البصرة لنشر دعوته

ولكن محمداً لم يعش حتى يرى نتيجة دعوته، فقد مات على يد ابن موسى العباسي، فدعا أخوه إبراهيم إلى نفسه، وشد أزره كثير من فقهاء البصرة وغيرهم من ذوي الرأي والجاه، وانضوت المعتزلة والزيدية تحت لوائه وعاونه الإمام أبو حنيفة وراسله سرَّا. وبهذا كله تمكن إبراهيم من الاستيلاء على واسط والأهواز وفارس

بيد أن حياته آلت إلى ما آلت إليه حياة أخيه من قبل. فقد قتله عيسى بن موسى (الاثنين أول ذي الحجة 145 هـ - 682م) في موقعة باخمرا التي بين الكوفة وواسط. ولقد ظهرت دعوة ابن عبد الله في مصر وتابع كثيرون من أهل هذه البلاد ابنه علي بن محمد الذي أنفذه أبوه لنشر الدعوة غير أن والي المنصور على مصر استطاع أن يحيط أعمال على وأعمال من ناصروه، وظل على ذلك حتى وصل إلى مصر خبر وفاة إبراهيم بن عبد الله فسقط في يد الشيعة، وانطفأت جذوة الثورة. ولا يعلم المؤرخون ما آل إليه علي بن محمد بن عبد الله

كذلك كان لجند مصر نصيب كبير في الفتنة التي قامت بين الأمين وأخيه المأمون شأنهم في الفتن الخارجية التي كانت تنشب بين الخلفاء والخارجين عليهم أو المنافسين لهم، وغدا اشتراك هؤلاء الجند في الثورات مألوفاً لديهم، حتى في الأحوال التي لم يكن لمصر ثمة ما يدعو إلى الاشتراك فيها

ولسنا ندري ما الباعث الحقيقي الذي كان يدفع هؤلاء القوم إلى الزج بأنفسهم في غمار هذه الثورات. ولا شك في أنه لم يكن لهذه الثورات علاقة ما بالعصبية العربية التي جاء الإسلام ماحيا لها، وإن كانت قد ظهرت في مواطن كثيرة بعد الإسلام. ويظهر أن الجند العرب كانوا لا يزالون مرتبطين بدار الخلافة بروابط الجنسية أكثر من ارتباطهم بمصر نفسها، إذ لم تكن القومية المصرية قد شملت بعد المصريين من القبط والعرب جميعاً. غير أن الأمر الذي يسترعي النظر ما رواه الكندي من أن مصر كانت حين قام النزاع بين الأمين والمأمون في أمن ودعة، وكذا كانت راضية عن واليها جابر بن الأشعث الطائي، وعن حكمه، وأن هذا الوالي كان محبوباً لدى الخاصة والعامة في هذه البلاد

على أنه سرعان ما احتدم النزاع بين الأمين والمأمون بسبب ما كان من خلع الأمين أخاه المأمون وترك الدعاء له على المنابر وتوليته عهده ابنه موسى بدلا منه حتى غضب العرب في مصر وغيرها، وتكلموا في خلع الأمين لنكثه العهد الذي تركه أبوه الرشيد وأودعه الكعبة الشريفة، وهذا كاف وحده لإثارة سخط الناس عليه. وظهر في مصر السري بن الحكم الذي استغل هذا الظرف لنفسه لإعلاء شأنه ورفع ذكره، إذ كان منذ أتى مصر في أيام الرشيد خاملاً لا حيثية له. فدعا إلى المأمون فبايعه نفر يسير. ولكنه ظل على نشاطه في نشر الدعوة حتى دعا المأمون أشراف مصر إلى بيعته فأجابوه سرا. وأتى كتاب هرثمة بن أعين أحد قواد المأمون المعدودين إلى وكيله على ضياعه بمصر وهو عباد بن حيان، فقرأ هذا الكتاب (كتاب هرثمة) على ملأ من الجند في المسجد ودعاهم إلى خلع الأمين فأجابه السواد الأعظم منهم وخلعوه (جمادى الآخرة سنة 196هـ)، ثم بايع الناس عبادا على ولاية مصر، وأخرجوا والي الأمين من الفسطاط فثبت المأمون عبادا في هذه الولاية.

ولما علم الأمين بما حدث في مصر من خلعه وإخراج عامله كتب إلى ربيعه بن قيس (رئيس قيس بالحوف) بولايته على مصر وكتب إلى اليمانية يطلب إليهم أن يقوموا بمعاونة قيس هذا فأظهروا دعوة الأمين وخلع المأمون، وخرجوا إلى الفسطاط، ودارت بين الفريقين مناوشات وحروب كان النصر فيها في جانب أنصار المأمون. على أنه لما بلغ قيسا قتل الأمين (المحرم سنة 198هـ) وبيعة المأمون تفرقوا - شأنهم في الفتن التي اشتركوا فيها.

هذا ما كان من أمر اشتراك عرب مصر في الفتن الخارجية وهي فتن سياسية في جملتها وإن كانت قد أُلْبِست لباس الدين، ليكون تأثيره في النفوس أقوى وأشدَّ

ولا يعزب عن بالنا ما كان من الانقسامات المذهبية التي شطرت العالم الإسلامي شطرين: سنة وشيعة. ولقد كان لكل من هذين المذهبين في مصر أنصار وأعوان، كما كان بها أيضاً أنصار لمذهب الخوارج الذين اعتزلوا علياً، فضلا عما كان لظهور المذاهب الأربعة من التأثير في مصر حيث ساد مذهب مالك في القرن الثاني للهجرة، وظل على ذلك نحو قرن ثم ساد بعده مذهب الشافعي، وبقى على ذلك إلى اليوم، وإن كان التأثير من هذه الناحية لم يظهر في ثوب عدائي مصحوب بفتن وحروب

وعلى الجملة فقد كان عمل الجند العرب في مصر ينحصر في عدة أمور

1 - القيام بالفتوح الخارجية لتأمين مصر من الغرب والجنوب

2 - الاشتراك في الغزوات البحرية التي قام بها الخلفاء الأمويون والعباسيون ضد الدولة الرومانية الشرقية أو القضاء على المحاولات التي بذلتها هذه الدولة حيناً بعد حين لاسترداد مصر

3 - قمع الثورات الداخلية التي كان بها المصريون في وجه الولاة

4 - الاشتراك في الفتن التي قامت بين الخلفاء والخارجين عليهم أو المنافسين لهم

وطالما انقسم العرب في مصر على أنفسهم إلى فريقين: فريق يناصر الخليفة وفريق يناصر الخارج عليه والمنافس له هذا إلى ما كان من قيامهم في وجه الولاة والعمال إذا ما اشتطّوا في جمع الخراج ومن انقسامهم على أنفسهم بسبب ما كان من ظهور الاختلافات المذهبية في المدنية وفي دمشق وبغداد

وقد ظل عرب مصر على ذلك إلى أيام الذي غالي في عقوبتهم، وضرب عليهم الذلة والمسكنة فاستكانوا. ناهيك بما كان من إسقاط المعتصم العرب من الديوان، فلم يشتركوا بعد ذلك في فتن سياسية ولم تعد لهم كلمة، واستعاضوا عن الاشتغال بالحروب والسياسية والزراعة وكسب العيش عن طريق غير طريق العطاء، وساروا في مناكب مصر وانتشروا في المدن والقرى، واختلطوا بالسكان الأصليين اختلاطاً تاماً، فانحطت العصبية العربية في مصر وفي غيرها من البلاد، ولم يحكم مصر بعد ذلك والٍ من العرب إلا عنبسة بن اسحق (سنة 238هـ - 242 هـ) اللهم إلا ما كان من دخول هذه البلاد تحت سلطان الخلفاء الفاطميين مدة قرنين وتسع سنين (358 - 567 هـ)

حسن إبراهيم حسن