مجلة الرسالة/العدد 281/من ذكريات لبنان
مجلة الرسالة/العدد 281/من ذكريات لبنان
راهب الوادي
للأستاذ علي الطنطاوي
كنت في بيروت فمللت صخبها وضوضاءها وأحسست أن قلبي جائع لا يشبعه إلا الجمال، ونفسي عطشى لا يرويها إلا الحب، وتمنيت أن أعيش يوماً في الجنة. . . وما أقرب الجنة من ساكني بيروت تلوح لهم من شرف السماء كما تلوح الفراديس لعيني العابد المتبتل. . . وتبدو لهم بذراها المكللة أبداً بالثلج رمزاً للصفاء والطهر، وهاماتها المرفوعة المشمخرة صورة للعظمة والمجد، وصخورها الهائلة التي تتلو على الدنيا سورة الخلود، وسفوحها الحالية بأشجار الصنوبر والسرو التي تصف الحياة الباسمة، والجمال الباقي، وقراها الضائعة في الضباب العطِر، وغاباتها السكرى بالنشيد الحلو، وشعابها ومساربها التي يمرح فيها الحور العين، والولدان المخلدون، آمنين في مثابة العشاق، وحمي المحبين، وأوديتها العميقة عمق السر في نفس الصب المدله بحب أن يذيعه ثم يضنَّ به فيختزنه في صدره، الرهيبة رهبة الأزلية عند أبناء هذا الوجود الفاني. . . الساحرة سحر المجهول الذي يحبه الناس بمقدار ما يخافونه!
وكانت الدنيا تخطر في حلل الربيع، وكانت الطبيعة في عرس، فخرجت مع فئة من تلاميذي نؤم دنيا الأحلام، وجنة المستعجل، وذهبنا نصعد في الجبل على غير ما طريق، بل لقد تنكبنا الطرق عمداً ونأينا عن السبل المسلوكة، والقرى العامرة، لنرى الطبيعة العذراء، ونبصر الجمال البكر، لا الذي ازدحم عليه الواردون، فلم نكن نبلغ الذروة بعد طول الجهد، ونحسب أننا قد وصلنا حتى تظهر لنا من ورائها ذرى وضهور فنعود إلى التسلق ظربين، والطبيعةُ، ويح الطبيعة، تعرض علينا من فتونها ألواناً، وتغرينا بالحب ما وسعها الأغراء، فلم تلبث أن أيقظت في نفوسنا بنات الهوى، وشياطين الغرام، فإذا نحن نفتش في أثناء نفوسنا عن ذكرى حب قديم، أو أمل بحب جديد. . . وإذا نحن نحس بهذه العاطفة المبهمة التي يبعثها الجمال في النفوس الشاعرة، فنزهد في المال والجاه والمجد، ولا نطلب من الحياة إلا خلوة هادئة على صخرة من هذه الصخور. نقضي فيها العمر كله مع من نحب في قبلة واحدة. . . وهل يتسع عمر الإنسان (ليت شعري) لأكثر من قبلة واحدة؟
لبثنا صاعدين ساعات طوالاً، والطريق تتسع بنا أو تضيق، والقرى تبدو لنا خيالاتها كأنها الأمل الباسم يومض نوره من خلال الأمل الطاغي، وهي متكئة على أكتاف الصخور، أو نائمة في حجر الجبل نومة الطفل المدلل في حضن أمه الرؤوم، والمشاهد تتبدل لنواظرنا أبداً، فلا تترك جميلاً إلا إلى ما هو أجمل، فلا ندري فيم نتأمل، وأين ننظر، كالذي يشهد معارض الفن الجميل فيحار أين يقف، وعلى أي لوحة يلقي البصر. . .
إن لبنان معرض الفن العلوي الذي أبدعته يد الله، فمن لم ير لبنان (لبناننا الشرقي النقي الطاهر، ولبنان القوم المرح الشاعر) لم ير من دنياه شيئاً!
بلغنا من الصعود ما لا نطيق أكثر منه، فنظرنا إلى أقدامنا، فإذا تحتنا أودية وأودية لا ينال البصر أدانيها، وإذا هي غارقة في الضباب، ومحجوبة بالسحاب الذي علونا عليه فصار جريه من تحتنا، وإذا هي مهولة مخيفة، ولكنها سبيلنا ما لنا من الهبوط إليها يد، بعد أن أضعنا الطريق وبلغنا هذه الذرى الخالية، فتوكلنها على الله وأخذنا نهبط في فزعين، ولم يكن ثمة من طريق فكنا نثب من الصخرة، وننحدر في المسيل، ونتزحلق على الحصى، والوادي العميق لا يزال كما كان غارقاً في الضباب، كأنه صورة مبهمة لاحت لشاعر، أو فكرة غامضة أو مضت في رأس عالم، وكنا كلما هبطنا درجة فتحت لنا صفحة جديدة من كتاب الجمال السرمدي، فلا نكاد نقرأ منها حرفاً، لأن لنا من حيرتنا وتعبنا وفزعنا ما يشغلنا عن تلاوة آيات الجمال. . .
حتى إذا مضت ساعات وآذن النهار بالرحيل، بلغنا قرارة الوادي، فإذا هو خال موحش يبدو لنا كأنه قبر، وإذا الأشواك والأزهار والأوراد قد حفت به متشابكة مؤتلفة حتى لا سبيل إلى بلوغه، ولم تكن قد مستها يد بشرية مدمرة، فبقيت على طبيعتها متعانقة لم يفسد ألفتها شيء، ولم يعبث بجمالها عابث، فدرنا حولها نفتش عن مجاز نجوز منه، فوجدنا بعد لأي طريقاً ضيقاً ملتوياً، فسرنا فيه نلتوي معه حتى بلغنا الأعماق. . .
كان الوادي ضيقاً عميقاً كأنه فجوة صغيرة، فنظرنا في جوانبه فلم نلق أثراً لإنسان فرفعنا رؤوسنا فإذا نحن نبصر على الجانبين جداراً هائلاً من الصخر، لا يبلغ البصر أعاليه، وإذا نحن في بئر عميقة نائية عن الدنيا، لم تبلغها الحضارة بخياراتها ولا بشرورها بعيدة عن البشر لم يصلوا إليها، ولم يعلموا بها فأيقنا أنا قد كشفنا سراً من أسرار الطبيعة في هذا الجبل. وكم للطبيعة فيه من أسرار لم يكشفها إلى اليوم أحد!. . . وملكتنا رهبة المكان فسرنا صامتين، وابتعدت عنهم أنقب في جوانب الوادي، فإذا أنا بسلسال ماء يهبط من الذرى العالية يقطع مئات الصخور والحدور، حتى يستقر في هذا الوادي، كأنه رسالة الحياة وهديتها إليه فذهبت أتبع مجراه، وأتقصى أصله، فإذا أنا ألمح داراً متوارية وراء صخرة من الصخور الضخمة، وإذا أنا أسمع صوتاً يختلط بخرير الينبوع، ويرن صداه الخافت الفاتن في سكون الوادي الضيق، فيهز من القلوب حباتها، فأعجب من هذا الصوت وأقبل عليه على حذر فإذا أنا أتبين فيه هذه الأغنية اللبنانية الخالدة، التي تحمل عبقرية الأجداد، وصورة آلامهم ومسراتهم، وخوالجهم وهواجسهم، فيتلقاها الأحفاد ويزيدون عليها آلامهم وآمالهم فلا تنتهي أبداً، بل تبقى دائماً نشيد الشعب، بل أغنية القلب. . .
عَ اليادل يادل يادل. . . . . .
لَطْلعْ عَ راس الجبل ... وَشْرِفْ على الوادي
وقول يا مرحباً ... نَسَّم هوا بلادي
يا رب يطوف النهر ... ويمتلي الوادي
لَعْمِل زنودي جسر ... ومَرِّيء البنية
يا رايحين على حلب ... حبي معاكم راح
يا مشيلين العنب ... فوق العنب تفاح
كل مين حبيبه معو ... ونا حبيبي راح
يا رب نسمة هوا ... ترد الحبيب ليا
فهزني الغناء، قبلت على الرجل يدفعني الاستطلاع والفضول ويردني الفزع وخشية المجهول، وأثبته نظرا فإذا شيخ همٌّ أبيض اللمة واللحية بأسمال بالية، فلما رآني وثب مرتاعاً فِعْل من لم ير إنساناً قط وقذف في وجهي بصرخة هي إلى صراخ الوحش النافر أدنى منها إلي صياح الناس، وولى هارباً، فخفته، ولكني تجلدت، وتبعته فمررت بأرض مزروعة ورأيت عدداً من الشاء نفرن مني لما أبصرنتي، فأدركته عند باب الدار، فجعلت ألطف به وأكلمه، وهو ينظر إليّ وقد امحت وحشيته الأولى وصار وجهه كوجه طفل بريء، وجعل يصغي إلى كلامي، شارد البصر يحاول أن يتفهم معناه ويردد بعض الكلمات بصوت خافت رهيب، فوقع في نفسي أنه مجنون، أو أنه قد نسى الكلام وكان الليل قد بسط على الدنيا جناحيه ولم يبق لنا بد من المبيت في هذا الوادي، فعدت ألطف بالشيخ وأكلمه حتى أنطلق لسانه فتكلم. . .
قال:
. . . نعم خالفت إرادة السلطان، وفررت بها إلى هذا الوادي. أليست ابنة عمي؟ أليس الحب يؤلف بين قلبينا؟
فهممت أن أسأله عنها، ولكني وجدته لا يعي الكلام وخفت إن أنا سألته أن يفوتني حديث قد لا أسمع مثله أبداً فسكت وعاد هو يقول:
لقد عشنا سعيدين لا نرى أحداً ولا يرانا، نزرع هذه الأرض فنأكل من ثمرها، ونسوق هذه الماشية فننال من ألبانها ولحومها، وكنا أسعد الناس، ولكنها ماتت، ماتت منذ أربعين سنة فماتت معها نفسي. وهذا هو قبرها. . .
وبكى الشيخ فأبكانا ثم قال:
إن أعيش من بعدها بلا حياة، أنا ميت، فاقض في ما أنت قاض. خذني إلى السلطان عبد الحميد ليقطع رأسي، لم يبق لي من الدنيا أرب بعد أن ماتت. . . لقد عشت بحبها، وأموت على حبها وهذا يكفيني. . .
ثم قام مشرعاً فاختفى بين أدغال الوادي، وترك لنا بيته وطعامه وشرابه فلبثنا فيه ننتظر الصباح
(بغداد)
علي الطنطاوي