مجلة الرسالة/العدد 281/التعلم والمتعطلون في مصر
مجلة الرسالة/العدد 281/التعلم والمتعطلون في مصر
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
خطة الإصلاح الخلقي
والآن وقد كشفنا عن الضعف الخلقي الذي تفشي في شبابنا بسبب إهمال المدرسة للناحية الخلقية نرى لزاماً علينا أن نرسم للمدرسة خطتها التي نعتقد أنها إذا سارت عليها أمكنها أن تصلح من شأن أبنائها. ولسنا ندعي العصمة من الخطأ في ذلك ولكن هذه الخطة هي التي هدانا إليها اجتهادنا وتفكيرنا.
فعلى المدرسة أن تخصص مدرساً لكل عدد من التلاميذ لا يزيدون على العشرين يراقبهم ويدرس أحوالهم، ويكون لكل واحد منهم سجل خاص يدون فيه جميع المعلومات الصحية والخلقية والعلمية المتعلقة به وتحتفظ المدرسة بهذا السجل منذ بداية التحاق التلميذ بها. وعلى هذا المدرس أن يكون مركز الاتصال بين مدرسي هذا التلميذ الآخرين وإدارة المدرسة من جهة، وبين ذويه وأهله من جهة أخرى ليتعرف كل شيء عنه، وليباحثهم جميعاً في أمره وفي تنظيم حياته وفي ترقية حاله وفي إصلاح معوجه كلما لوحظ فيه انحراف عن الصراط المستقيم. وإنا نرى أن التعاون في ذلك بين المدرسة والمنزل من المسائل الجوهرية التي تقس التلميذ شر الشطط والانحراف عن جادة الحق بما يفرض عليه من رقابة شديدة ساهرة تقدم له المساعدة التي يتطلبها، وتبذل لذويه الإرشاد اللازم لصون صحته وأخلاقه، وتشرف على تنظيم أوقات فراغه وسيره في سبيل التقدم المطرد والنجاح المضمون، فيسير نحو الرجولة المنشودة. وهو فوق ذلك أمر يلزم ذويه بالعناية به والاهتمام الدائم بأمره وملاحظته والسهر على تقويمه. وبالرغم مما يلقيه هذا الواجب الجديد الثقيل على المدرس من عبء ومجهود متعب فانه يخفف عن المدرسة كثيراً من أعبائها وإجراءاتها الصورية المتعبة غير المثمرة التي تقوم بها مثلاً في حالة تغيب التلميذ أو مرضه أو تأخره أو تأديبه الخ. .
وفوق هذا فأننا نعلم أن كثيراً من التلاميذ الذين يتعلمون بالمدارس الابتدائية والثانوية يضطرون بحكم بعد المدرسة عن منازلهم أن يقطنوا وحدهم في مساكن كثيراً ما تكون قذرة وغير لائقة لعدم وجود من يعني بأمرهم. وليس هناك من يشرف على أحوالهم المعيشية، أو يرقب عن كثب أحوالهم الخلفية فيرشدهم إذا أخطئوا، ويردهم عن غيهم إذا حادوا عن الصراط المستقيم؛ وفي هذا إفساد لكثير من الشبان من الوجهتين الصحية والخلقية. وإن في وجود هذا المدرس المشرف لضماناً كبيراً يحول دون ذلك لأن في إمكانه أن يفحص أحوال تلاميذه خصوصاً منهم من لا يعيشون تحت رقابة أهليهم.
ويصح أن يجمع عدداً من المتقاربين في أحوالهم المالية والمعيشية فيساعدهم على سكنى منزل واحد وعلى إيجاد خادم يقوم بخدمتهم فينظم بذلك حالتهم المعيشية، ويشرف إشرافاُ تاماً على تكوينهم الخلقي. فلو أن المدرسة عنيت بهذا الأمر حق العناية وحققت هذه الرقابة الدائمة على تلاميذها لخدمت الأخلاق والفضيلة والقومية المصرية خدمة كبرى، ولأدى هذا العمل إلى رفع المستوى الخلقي والقومي إلى حد كبير، ينهض بمصر نهضة قوية، ويضعها في مصاف البلاد العظيمة. وللنجاح في ذلك شرط أساسي يتلخص في أن يعمل المدرسون هذا العمل الجليل عن طيب خاطر وأن يعتبروه خدمة وطنية عظيمة تقدرها البلاد قدرها. ولابد لهؤلاء المشرفين من أن يخفف عنهم عبء العمل المضني في نوح أخرى
ثم إن على المدرسة فوق ذلك أن تعني عناية تامة بالرياضة البدنية المصحوبة بأجراء تدريبات عسكرية نظامية مستمرة. وعليها أن تدرب أبناءها جميعاً على المخاطرات واقتحام العوائق وتذليل الصعاب كالفروسية وغيرها كالسباحة والتجديف وركوب الخيل وأنواع المهارة الرياضية. وعليها أن تشعر الطالب بأن الألعاب الرياضية والتدريب العسكري وأعمال الفروسية من ضروريات الحياة التي يجب على كل واحد أن يأخذها منها بقسط وليست زينة تبرزها المدرسة في حفلاتها الرياضية السنوية فحسب لتباهي بها أترابها ولتظهر بها على غيرها، فإذا انتهت أيامها ماتت الرياضة بالمدرسة حتى تبعثها بعد عام أو عامين فكرة إقامة حفلة أخرى كما هو واقع اليوم، فكل تلميذ يجب أن يقدم على الألعاب الرياضية ويمارسها كل يوم ممارسته لغيرها من الأعمال المدرسية الأخرى. والواجب أن تخصص المدرسة نصف ساعة على الأقل يومياً للتدريب والتمرين الشخصي وأن تكون صفاً عسكرياً نظامياً عاماً يومياً، ويجب أن يخصص للتدريب العسكري فوق ذلك جزء من العام في شهر يناير كأسبوعين أو ثلاثة بصفة خاصة.
وليس الغرض من ذلك تقوية الجسم واعتدال الصحة فحسب، بل هناك فوق ذلك غاية أخرى لا تقل أهمية عن هذه وهي تكوين الخلق القويم بتعويد الطالب مغالبة الصعاب والاحتمال والصبر وحب النظام واحترامه وإطاعته وحب التضامن والتعاون مع غيره من أترابه وإخوانه. وهذه كلها أمور تتطلبها الحياة الاجتماعية اليوم وتدعو إليها النهضة القومية. ويعقب ذلك مباشرة الاهتمام بمسائل الرحلات والإكثار منها فلا يصح أن ينقضي أسبوع من غير أن تقوم المدرسة برحلة رياضية في الهواء أو في الصحراء أو في النهر أو البحر أو في الحقول الخضراء اليانعة، حيث يدرس التلاميذ بطريق غير مباشر طرق المواصلات وطبيعة الجهة صحراوية أو إقليمية أو بحرية وما يجري فوق سطح البحر أو تحته مما ينتفع به الناس. هذا إلى الرحلات العلمية التي يجب أن يقوموا بها لدراسة طبيعة البيئة المحيطة بهم، وما يجري فيها من صناعات وتجارات وزراعات. فالواجب على المدرسة أن تجعل من نفسها قطعة من الحياة الاجتماعية العامة المحيطة بها، وعلى المدرسة كذلك أن توجه عنايتها إلى خلق المشروعات الاقتصادية والخيرية بين جدرانها. وإن في قيام التلاميذ بحركة مقصف داخلي بها حيث يقوم بعضهم بشراء مستلزماته ويبعها وإيجاد سجلات لذلك وتدوينها، كما أن في قيامهم بصنع بعض الأدوات المنزلية البسيطة من الخيزران والجلد والقش الخ وبيعها في أسواق خيرية يقيمونها - لعملاً نافعاً يستحق الاهتمام والتشجيع.
وناهيك بما يمكن أن يقوموا به فوق ذلك من أعمال البر والإحسان إلى اليتامى والفقراء والمساكين مما يبعث في نفوسهم الشفقة والرحمة. وهو أمر نادر الوجود بالمدرسة المصرية اليوم بينما نجده عملاً ضرورياً في كل مدرسة أجنبية. وعلى الأخص في مدراس البنات إذ يغرسون في قلب البنت العواطف الكريمة: عواطف الرحمة بالضعيف والشفقة على المسكين، والبر بالعاجز واليتيم. وإن من وجب الواجبات إدخال هذا النظام سريعاً والعمل به لما يخلفه من جو كريم ملؤه العطف والحنان ولما يريبه في الصغار من حب البذل والجود في سبيل الخير. وكثيراً ما سمعنا عن مدارس أجنبية بين ظهرانينا تقوم بعمل الكسى وتوزيعها هي والحلوى في أيام الأعياد على الفقراء والمساكين. وإذا كانت المدرسة المصرية قد استحدثت في سنيها الأخيرة نظام توزيع الجوائز على المتفوقين علمياً من أبنائها فجدير بها أن تخص المبرزين من تلاميذها في كرم الخلق والحدب على الضعيف والعطف على البائس المسكين.
وأن تخض أقوم التلاميذ أخلاقاُ وأكثرهم رجولة. جدير بها أن تخص هؤلاء أيضاً بالتشجيع وأن تمنحهم الجوائز والمنح تشجيعاً لذوي الأخلاق الفاضلة وتنبيهاً لغيرهم إلى ما تستحقه تلك الأخلاق من تكريم وتقدير. وليكن لنا في قرين الملكة فكتوريا أسوة حسنة. فلقد كان رجلاً طيب القلب، طاهر الفؤاد، يقدر الأخلاق الكريمة حق قدرها فكلن كلما قرر مكافأة سنوية لمعهد من المعاهد جعلها لأرقى الطلبة خلقاً، ولمن يؤمل فيه أن يكون رجلاُ كبير القلب طاهر الفؤاد عظيم الشمائل، ولم يكن يجعلها لأذكى الطلبة أو أنبههم أو أكثرهم مدارسة للكتب، أو أنبغهم في العلوم
ثم إن على المدرسة بعد هذا وذاك أن تحبب أبناءها في القراءة ومدارسة الكتب وتذوق ما في بطونها. وعليها أن تتخير لهم الكتب المناسبة لعقولهم فتكثر للأطفال من القصص الصغيرة المليئة بحوادث التضحية والبطولة وأبطال الرجال وقادتهم، وأن تضمنها ما كان لعظيم أخلاقهم من سر في بطولتهم. فلكم يحلو للطفل أن يحدثه أستاذه أو كتيبه عن بعض المواقف العظيمة في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو عمر بن الخطاب، أو عمر بن عبد العزيز. وكم يحلو له أن يقرأ شيئاً عن مصطفى كامل أو سعد زغلول، أو جان دارك، أو غاندي، أو غيرهم من الأبطال المليئة حياتهم بالنوادر والقصص اللطيفة التي تحفز الطفل إلى التقليد والنسيج على ذلك المنوال فيشب معجباً بأعمال البطولة النادرة ويتمنى في نفسه دائماً لو أتيح له أن يكون كواحد من هؤلاء الأبطال. ولا شك أن هذا يدفعه في شبابه بل طول حياته إلى الأعمال العظيمة، كما أنه يحول بينه وبين كل رذيلة أو عمل حقير. وفي المدرسة الثانوية يجب أن يكون في صلب جدولها درسان على الأقل أسبوعياً للمكتبة لكل طالب يكلف فيها بحث إشراف مدرسه بدراسة تاريخ حياة بطل من الأبطال ليكتب عنه ويحاضر فيه إخوانه ويسمر معهم متحدثاً عن سيرة بطله وأعماله ونوادره وأحواله. وفي بطون التاريخ كثير من الأبطال السياسيين وغير السياسيين من المستكشفين والمخترعين وجبابرة العقول والفلاسفة. ولا شك في أن متابعة سير هؤلاء ومدارسة أحوالهم من أشهى وألذ ما يخاطب به عقل فتى تستهويه البطولة والعبقرية، كما أني لا أشك في أمنية كل شاب أن يصير بطلاً كأولئك الأبطال مما يحفزه في أن يسير سيرتهم وينهج نهجهم. بهذا العمل لا نكون قد حققنا غرضاً واحداً، بل عدة أغراض، إذ نعود الطالب الاعتماد على نفسه في البحث والدرس كما نعوده تذوق الفقراء والمطالعة واعتيادها، وحصر أوقات فراغه فيها، ونغرس فيه فوق ذلك حب البطولة وتقديرها والسعي المتواصل إليها. ويا حبذا لو عملت المدرسة من ناحية أخرى على تحبيب تلاميذها في الفنون الجميلة من موسيقى وتصوير وشعر، وذلك بأن يدرس المشرف صاحب سجل التلميذ ميول التلميذ منذ بدء اتصاله بالمدرسة واتجاهه، ثم يحاول أن يقوي فيه تلك الميول حتى يتجه به إلى أحد هذه الفنون فيسير في تعلمها لأنها لا تربي في الإنسان الذوق السليم فحسب، ولكنها تصرف الشاب عن الاتجاهات الفاسدة وتجعله يعرف كيف يقضي أوقات فراغه في هويته التي جذبته إليها من غير أن يتأثر بقرناء السوء أو يفكر في غير اللهو البريء لا اللهو الفاسد الذي يجر كثيراً من الشبان إلى الدمار والهلاك
إذا قامت المدرسة بكل ذلك، ولن تقوم به إلا إذا تخلصت من قيودها الحالية، فإنها تكون قد حققت الغرض الأسمى من وجودها لأنها أحاطت أبناءها بسياج متين من الأخلاق الفاضلة وأعدتهم إعداداً حسناً للكفاح الدائم، والنضال المستمر المنتج في الحياة، ذلكم الكفاح والنضال اللذين يكونان الرجال ذوي العقول المثقفة والضمائر الحية، والأخلاق الطاهرة القويمة، ما يكفل لهم النجاح في أعمالهم والنهوض بأمتهم. وليس للأمة عدة تتكئ عليها في هذا السبيل غير المعلمين الأكفاء الأمناء الذين يقدرون واجبهم تمام التقدير ويسهرون على أدائه خير أداء تعاونهم في ذلك الأمهات المثقفات العارفات بطرق تنشئة الأطفال على الفضيلة وقيادتهم قيادة صحية إلى الحياة الفاضلة السامية. ولن يتوج هذا النجاح إلا بسهر الحكومة سهراً فعالاً على حماية أبناء البلاد وعنايتها بناشئتها ومعونتها المنزل والمدرسة معاونة صادقة في سبيل الطهر والفضيلة وواجبها المحتوم في ذلك يقضي عليها بأن تسن تشريعاً خاصاً يحرم على الأطفال والشبان قبل سن محدودة ارتياد محال اللهو والمقاهي العامة ومحال القمار وغيرها مما يفسد الأخلاق ويقضي عليها إذا كانت لا تستطيع أن تقضي على المحال المفسدة وتحمي جمهور الشعب من مفاسدها. وواجبها المحتوم يقضي عليها أن تنشئ مراكز متعددة للألعاب الرياضية في مختلف جهات المملكة يلتحق بها الشبان بعد انتهائهم من المدرسة فيقضون فيها أوقات فراغهم وتكون مكاناً لتسليتهم وسمرهم وتقوية أجسامهم بدلاً من تلك المقاهي العامة التي انتشرت في كل مكان وأقل ما يقال فيها أنها تعلم الكسل وتعود الإهمال وتباعد بين الرجل المتزوج وأولاده مما له أثر أسيء جداً في حياتنا الاجتماعية والمنزلية
وإني أسأل الله أن يوفق العاملين إلى استئصال تلك الآفات الاجتماعية حتى تصبح أمتنا خير أمة أخرجت للناس
عبد الحميد فهمي مطر