مجلة الرسالة/العدد 281/الفن

مجلة الرسالة/العدد 281/الفن

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 11 - 1938



للفيلسوف الفرنسي هنري برجسون

ما هو الغرض من الفن؟ لو قدر للحقيقة أن تصطدم بحواسنا وضميرنا، ولو كان في مكنتنا لأن نتصل اتصالاً مباشراً بالأشياء وبأنفسنا، إذن لكنت أعتقد بأن الفن شيء غير ضروري. أو بعبارة أوضح لكنا نصبح جميعاً فنانين، لأن أوتار نفوسنا ستهتز حتماً بالاتحاد مع الطبيعة؛ ولكانت عيونا تؤازرها ذواكرنا، تتقطع من الفضاء آيات من روائع الفن لنثبتها على صفحة الزمن؛ ولكان نظرنا يلتقط في طريقه أجزاء من التماثيل منحوتة في رخام الجسم البشري الحي لا تقل روعة عن التماثيل الأثرية القديمة؛ ولكنا نسمع نفحات حياتنا الباطنة تتردد في أعماق نفوسنا كأنها ألحان موسيقية، تارة مرحة وأطواراً مشجية، وفي الغالب غريبة غير مألوفة. كل ذلك يوجَد حولنا، كل ذلك يوجد فينا، ومع ذلك فإننا لا نميز بجلاء شيئاً من ذلك كله. إنه يوجد بين الطبيعة وبيننا، أو بالأحرى يوجد بيننا وبين ضميرنا الذاتي وشاح مسدول، وهذا الوشاح يراه العامة من الرجال كثيفاً ولكنه في نظر الفنان والشاعر خفيفاً حتى ليكاد يكون شفافاً عارياً. فأية حورية من الجن قد حاكت خيوطه الناعمة؟ وهل نسجته خبثاً ودهاء أو مودة وتحبباً؟ إن الحياة فرض واجب لابد منه. والحياة تحتم علينا أن نتناول من الأشياء التي تكتنفنا ما نحن في حاجة إليه في علاقاتنا بها.

إن الحياة موقوفة على العمل والمثابرة. والحياة هي ألا يقبل المرء من مؤثرات الأشياء المرئية إلا ما كان نافعاً ملائماً لطبيعته بحيث يتسنى له أن يجيب على اختلاجات هذه الأشياء برجعة متناسبة. وأما ما عداها من المؤثرات فيجب أن تضمحل وتتلاشى أو لا تصل إلينا إلا مضطربة مشوشة. . . إنني أنظر وأعتقد بأنني أرى، وأصغي وأعتقد بأنني أسمع، وأدرس نفسي وأعتقد بأنني أقرأ في أعماق فؤادي. بيد أن ما أراه وما أسمعه في العالم الخارجي ليس إلا ما تستخلصه حواسي لإنارة طريق عملي. إن ما أعرفه من نفسي ليس إلا ما يتجلى للنظر، أي ما يشترك في العمل. وإذن فان حواسي وضميري لا تكشف لي إلا عن ناحية موجزة من نواحي الحقيقة العملية. ففي الرؤيا التي تمثلها لي حواسي وضميري من الأشياء ومن نفسي، تتلاشى الفروق التي لا ينتفع منها الرجل، وتتضاع المشابهات التي يستفيد منها الرجل، وتتجلى أمامي السبل التي سيطرقها عملي وهي السبل التي سلكتها الإنسانية بأسرها وقطعتها من قبلي. إن الأشياء رتبت طبقاُ للفوائد التي يمكنني أن أستخلصها منها، وهذا الترتيب هو الذي أشاهده أكثر مما أشاهد لون الأشياء وشكلها. لاشك في أن الرجل أرفع مكانة وقدراً من الحيوان من تلك الناحية، وإنه لقليل الاحتمال أن تفرق عين الذئب بين الجدي والحمل؛ فكلاهما في نظر الذئب فريسة مستساغة، وكلاهما سهل المنال، وكلاهما صالح للالتهام. أما نحن فإننا نفرق بين العنزة والخروف، ولكن هل ترانا نميز بين عنزة وعنزة وبين خروف وخروف؟ إن فردية الأشياء والكائنات تغيب عنا كلما تبين لنا أن في جلائها نفعاً مادياً، بل في الأحوال التي نتبين فيها تلك الفردية (كما في الظروف التي نتبين فيها الفرق بين رجل ورجل آخر) فان أعيننا لا تلتقط تلك الفردية بالذات أي بعض التآلف الغريب الذي يوجد بين الأشكال كما يوجد بين الألوان، ولكنها تلتقط لمحة أو لمحتين تسهيلاً للتحقق العملي من وجود الشبه بينهما

ومجمل القول أننا لا نرى الأشياء في ذاتها وإنما تقتصر في أغلب الأحيان على قراءة ما هو مكتوب على البطاقات الملتصقة بها. وهذا الميل الناشئ عن الحاجة يزداد كذلك تحت تأثير الكلام والنطق، لأن الألفاظ (فيما عدا أسماء الأعلام) تعبر كلها عن الأنواع. إن الكلمة التي لا تعبر إلا عن ماهية الشيء المألوفة العادية ولا تدل إلا على مظهره المبتذل تنساب بين الشيء وبيننا فتحجبه عنا وتخفي شكله عن أعيننا إن لم يكن هذا الشكل قد توارى خلف الضروريات التي كانت السبب في خلق تلك الكلمة. ولا يقتصر الأمر على الأشياء الظاهرة وإنما يتعداه كذلك إلى حالاتنا النفسية التي تتواري عنا وتختفي وراء جوهرها الذاتي. عندما نشعر بالحب أو بالحقد، وعندما نشعر بالسرور أو بالكآبة، فهل شعورنا بالذات هو الذي يصل إلى ضميرنا بآلاف التموجات الشاردة وآلاف الأصداء العميقة التي تجعل منه شيئاً من خصائصنا الذاتية المطلقة؟ إذن لكنا نصبح كلنا روائيين، وكلنا شعراء، وكلنا موسيقيين. ولكننا في أغلب الأحيان، لا نرى من حالتنا النفسية إلا نبسطها الظاهر. إننا لا ندرك من مشاعرنا إلا مظهرها الغريب عنا، والذي حدد اللفظ معناه كلية لأنه يكاد يكون متشابهاً دائماً، وظروفه تكاد تكون واحدة عند جميع الرجال. وهكذا فان الفردية تغيب عنا حتى في شخصنا. إننا نتحرك في وسط محيط من الاعتبارات والرموز كأننا بداخل دائرة محاطة بسياج تتبارى فيه قوتنا مع سواها من القوات؛ فإذا ما سحرنا العمل وجذبنا إلى المجال الذي اختاره، في سبيل مصلحتنا، أخذنا نعيش في منطقة متوسطة بين الأشياء وبيننا، خارجة عن الأشياء وخارجة عنا كذلك. بيد أن الطبيعة توجد، على سبيل اللهو، نفوساً أكثر انفصالاً عن الحياة. إنني لا أتكلم عن ذلك الانفصال المقصود الثابت بالبرهان والناتج عن التفكير والفلسفة، وإنما أتكلم عن انفصال طبيعي يعد غريزياً في تقويم الحس والضمير، ويتجلى في الحال بطريقة بريئة للنظر والسمع والتفكير. فإذا كان هذا الانفصال تاماً، وإذا كانت النفس تكف عن الاشتراك في العمل بواسطة حاسة من حواسها، أصبحت تلك النفس نفس فنان لم ير العالم مثلها منذ الأزل. وإنها لتسمو في جميع الفنون معاً، أو بمعنى أصح تصهر جميع الفنون في بوتقة لتخلق منها فناً واحداً؛ وننظر إلى الأشياء في سذاجتها وطُهره الأول. وكذلك تكون الحال في الأشكال والأوان وأصوات العالم المادي وأدق حركات الحياة الداخلية. بيد أننا لو فرضنا ذلك لكنا نحمل الطبيعة فوق طاقتها. ثم إذا نحن دققنا النظر في الذين اختارتهم الطبيعة من بيننا لتجعل منهم فنانين فإننا لا نلبث أن نتأكد من أنها لم تأت ذلك إلا عفواً عن غير عمد، وأنها لم ترفع الوشاح الذي يسترها إلا من جانب واحد، ونسيت أن تقيد الشعور بالحاجة في اتجاه واحد. ولما كان كل اتجاه يقابله ما نسميه حاسة، فان الفنان ينقطع عادة للفن بواسطة إحدى تلك الحواس وبتلك الحاسة فقط. من هنا نشأ تنوع الفنون. ومن هنا أيضاً نشأ تخصص الميول. فمن الناس من يتعلق بالألوان والأشكال؛ ونظراً لأنه يحب الألوان لمجرد الألوان، والأشكال لمجرد الأشكال؛ ويميز كلا منها لذاتها لا لذاته، فان الحياة الداخلية لتلك الأشياء هي التي تتجلى أمام النظارة خلال أشكالها وألوانها فيدخلها رويداً رويداً في إحساسنا المضطرب القلق من تلك المفاجأة. إنه ينزع عنا، ولو لفترة قصيرة، تلك القيود التي تربطنا بأوهام الشكل واللون التي ما فتئت تعترض أعيننا وتحول بينها وبين الحقيقة. وإنه ليستطيع بذلك تحقيق أكبر مطمع للفن وهو - بالنسبة لموضوعنا - إزاحة الستر الذي يخفي الطبيعة عنا. ومنهم من ينطوون على أنفسهم ويقفون جهودهم على البحث عن الشعور وعن حالة النفس على ما هي عليه من سذاجة وطهر، خلال آلاف الأعمال المتولدة التي تعبر عن الشعور، أو من الكلمة التافهة الاجتماعية التي تعبر عن حالة نفسية فردية وتستكملها. وإنهم - لكي يستحثونا على محاولة مثل هذا المجهود في أنفسنا - يجتهدون في إطلاعنا على شيء مما وقعت عليه أعينهم وبعبارات منتظمة موزونة يقولون لنا - أو بالأحرى - يوحون إلينا بأشياء لم توضع الألفاظ للتعبير عنها. وسواهم يبالغون في تعمقهم ويمعنون فيه؛ فتراهم تحت ستار هذه الأفراح وتلك الأحزان التي يمكن التعبير عنها بالألفاظ، يتمسكون بأشياء لا علاقة لها ألبتة بالكلام، أو ببعض نغمات من نغمات الحياة والتنفس هي أعمق في صدور الرجال من أدق مشاعرهم لأنها تمثل الناموس الحي الذي يختلف باختلاف الأشخاص، ويعبر عن كبتها ووجدها، وعن حسراتها وآمالها. فإذا استخلصوا تلك النغمات وضاعفوها فانهم يفرضونها علينا ويلفتوننا إليها، ويعملون على الاندماج فيها عفواً وبغير ما دافع منا كما يندمج المتفرج في حلبة الرقص دون أن يشعر، ويحملوننا بذلك على أن نهز في خبيئة نفسنا أوتاراً متحفزة ترقب من يلمسها لتصدح وترتفع نغماتها

فسواء أكان الفن رسماً أو تصويراً أو شعراً أو موسيقى فلا غرض له إلا أن يُبعد الرموز النافعة والاصطلاحات المشروعة المسلم بها في المجتمع وكل ما يستر الحقيقة عنا ليقف بنا إزاء الحقيقة بالذات وجهاً لوجه. إن الجدل بين المذهب الوجودي والمذهب المثالي في الفن نشأ من نزاع على تلك النقطة. فلا شك في أن الفن ليس إلا مظهراً جلياً مباشراً للحقيقة، بيد أن هذا السمو في الإدراك يستلزم القطيعة مع العرف المصطلح، ونزاهة غريزية محصورة في الحس أو الضمير، كما يستلزم كذلك شيئاً من اللامادية في الحياة وهي ما اصطلحوا على تسميته دائماً بالمذهب المثالي، بحيث يمكن القول، بغير ما تورية أو مجاز، بأن المذهب الوجودي هو في العمل بالذات، بينما المذهب المثالي هو في النفس، وأنه لا يمكن العودة إلى تلمس الحقيقة إلا بقوة الخيالية دون سواها

هنري برجسون

ترجمة سليم سعدة